Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

روايات الزلزال السوري بلغت 450... من المآسي اليومية الى ملحمة الهجرة

اسماء جديدة في طليعة المشهد... وآفاق سردية غيرمألوفة وحفر في الذاكرة الخفية

مشهد فني مركب عن الحرب السورية  (يوتيوب) 

ثمة تظاهرة تنادي أهل الفكر والسوسيولوجيا بخاصة إلى التحليل، أعني هذا الذي يسميه بعضهم غامزاً "الورم السردي" المتعلق بالزلزال السوري الذي تفجر سنة 2011، ولا تلوح له نهاية بعد تسع سنوات. بل إن ثمة من يلف الشعر أيضاً بشملة هذه الظاهرة. وبعيداً من الغمز واللمز، بات من اللافت بقوة أن المدونة السردية والمدونة الشعرية المتعلقتين بالزلزلة السورية المتفاقمة، لا تفتآن تزدهران مقابل الخراب العميم والمتفاقم أينما قلّبت النظر في سوريا.

أمام ذلك، حسب المرء في مقام كهذا المقام أن يقدم "ترسيمة" بقدر أكبر من الأمانة والوفاء.

أصوات جديدة

على ذمة العم غوغل ومن لقّمه، أن 450 رواية صدرت في سوريا خلال تسع سنوات ل 261 كاتباً وكاتبة، منهم 61 كاتباً (ة) جديداً (ة).

في هذا الزحام، ثمة بين الأصوات الجديدة من سبق له أن كتب القصة القصيرة أو الشعر أو المسرح أو الصحافة، وانتقل إلى الرواية بفعل الزلزال. أما من كتبوا ومن كتبن الرواية الأولى من هذه الأصوات، فليسوا دائماً من الشباب، بل بينهم من بلغ من العمر عتياً، وغالبيتهم ممن رماهم التهجير أو الهجرة خارج البلاد.

يتميز هنا الصوت الآتي من مدينة الرقة: محمود حسن الجاسم الذي صار في جعبته أربع روايات بين 2014 و2019. وفي أولاها "غفرانك يا أمي"، تحاول الرواية أن تفسح لوجهات النظر جميعاً، الموالي منها والمعارض، المتطرف منهما ونقيضه. وتعود رواية "نظرات لا تعرف الحياء – 2015" إلى الصراع المسلح الذي عاشته سوريا قبل ثلاثة عقود من زلزال 2011. لكن رواية محمود حسن الجاسم "نزوح مريم" هي التي كان لها امتيازها بما رسمت من أحوال الرقة إبّان سيطرة السلاح المتأسلم المتطرف على الرقة، وما تلا ذلك من عذاب الهجرة والتهجير. وقد أوقف الكاتب روايته الجديدة "لاجئة بين زوجين" على عالم المخيمات وما يمور فيه من آفات الطبيعة والبشر حيث "دوّد ضمير البشر مثلما تدوّد الفطيسة". ولا يباري الكاتب في هذه الغزارة إلاّ جان دوست ومها حسن، كما سنرى.

على كِبَرٍ أيضاً قَدِمَ إسلام أبو شكير إلى الرواية من القصة القصيرة. وفي روايته الأولى "زجاج مطحون – 2016"، كانت له وحده مقاربته لِمَا يسميه "الزلزال" و"المقتلة السورية"، إذ لم يذكرهما مباشرة، بل ابتدع لجمّى التخييل، بالفنتازيا، أسْراً من طِحْن الزجاج، ذكورياً يتجثّث فيه الإنسان. وقد أردف الكاتب "زجاج مطحون" برواية قصيرة "نوفيللّا"، عنوانها: "القنفذ... سيرة حياة طويلة جداً"، يرفض الكاتب تصنيفها رواية، وهي أيضاً تخييل فادح وآسر للابن الذي يرث السلطة في اللحظات الحاسمة لموت المورّث، ولأسرته وللتوريث. وسيشغل مثل هذا الذي شغل "القنفد" بتفصيل أكبر، روايتين ليستا باكورتي كاتبيهما، وهما: "لمار" لابتسام التريسي و"كان الرئيس صديقي" لعدنان فرزات.

في مثل "كِبَر" أبو شكير والجاسم، قَدِم أيضاً غسان الجباعي من المسرح (كاتباً ومخرجاً) إلى الرواية في باكورته "قهوة الجنرال – 2014"، التي يلفحها الغموض، ويلوّح "اللعب" فيها للسيريالية، كما تلوح للسيرية فيما تعرض له "البطل" من الاعتقال، فالجباعي قضى في سجن تدمر الشهير قرابة عشر سنوات. وقد ظهرت في العشرية السورية السوداء – أسوة بالعشرية الجزائرية السوداء – أكثر من شقيقة لرواية "قهوة الجنرال"، إذ النسب هو ما كابده الكاتب من الاعتقال المديد المرير. بالتالي، ليس في سنوات الزلزلة، بل قبل زمن يطول أو يقصر، لا فرق، ما دام الليل هو هو المطبق على سوريا منذ قرابة ستين سنة. والإشارة هنا تذهب إلى باكورتي مفيد نجم "أجنحة في زنزانة – 2015" وراتب شعبو "ماذا وراء هذه الجدران – 2014"، وكانت لكل من الكاتبين سنوات اعتقاله المديد المرير. ويحضر السجن/المعتقل في رواية عبدالرحمن مطر "سراب بري" التي تتلامح فيها السيرية أيضاً عبر انشباح عامر عبدالله بين السجن في ليبيا قبل الزلزلة الليبية والسورية، ثم في سوريا من بعد. وفي رواية أيمن مارديني "غائب عن العشاء الأخير – 2015"، تتدافر مشاهد العنف والذكورية الخوّانة التي تتعاور اسماً واحداً هو "راشد". أما "راشد" الأول، فقد اكتوى والحبيبة "نهى" بالاعتقال، لكنّ "نهى" تنتهي بعد الاعتقال إلى داعية دينية.

ويبني محمد المير غالب روايته "شهد المقابر" الفائزة بجائزة كاتارا للرواية غير المنشورة (2018) في سبعة وعشرين مذكرة تغطي ما بين 2011 و2014، وتلعب لعبة المذكرات/ الأوراق التي تسجل يوميات "زياد" الفجائعية، بينما يرتبها صديقه في محاولة تجريبية متواضعة يتعذر التمييز فيها بين الجلاد والضحية، إذ لا تبرّئ أحداً. ومن الروايات ما يتمحور حول ما دفع إليه التهجير من اللجوء، مثل رواية "الطريق إلى الزعتري" لمحمد فتحي المقداد (حلاق لاجئ إلى الأردن – 2018)، أو رواية "أعياد الشتاء – 2014" لنغم حيدر. فالأولى تركزت في فضاء المخيم الشهير "الزعتري"، ابتداءً بما قاد اللاجئين إليه، بينما مضت الثانية إلى وكر مفرد من فضاء اللجوء، هو الغرفة التي جمعت بين "راوية" و"شهناز" المتنافرتين اللتين تعصف بهما عقابيل الحرب بعدما فرّتا منها. وأخيراً وليس آخراً، من الروايات الأولى لأصحابها، وصدرت في الداخل السوري، تميزت بخاصة رواية سومر شحادة "حقول الذرة – 2014" التي فازت بجائزة الطيب صالح. وعلى الرغم من أن الرواية عوّمت فضاءها، إلاّ أنّ الإشارات إلى اللاذقية وريفها تبدد التعويم الذي قد يكون وفّر فسحةً أكبر لتعرية أطراف الحرب جميعاً كما جسدتها شخصيات الرواية. وقد جاءت هذه التعرية أيضاً في بناء روائي محكم بقدر ما هو رهيف، وذلك في رواية عتاب أحمد شبيب "موسم سقوط الفراشات – 2015". لكن شبيب اختارت في روايتها "حبق أسود – 2017" أن تعوّم الفضاء الذي ترامى في الرواية الأولى من حمص إلى الساحل. وقد علا صوت الرواية الثانية ضد السلطان ونظامه والخليفة ومتطرفيه: "نحن لا نحب الحرب، نكره السلاح ونكره الجيوش جميعاً".

 في رواية جهينة العوام "تحت سرة القمر – 2014" التي حوّلها المخرج غسان شميط إلى فيلم سينمائي هو "ليليت السورية"، تحضر الحرب والفساد من قرية الطيبة في غوطة دمشق حيث كانت سيطرة المسلحين إلى دمشق، بخاصة منها الحي الذي فرّت إليه بطلة الرواية، ولم يحمل اسماً، وإن تكن صورة رمزية للمأساة السورية (يوتيوب)الإشارات إلى حي "جرمانا" ذي الغالبية الدرزية، كافية. وإذا كانت الكاتبة ستَشِم الرواية بوشم أنثوي خاص، فهذا الوشم هو ما سيميز رواية سندس برهوم "عتبة الباب"، بخاصة عبر شخصية "لور" واكتواء الأمومة بحرائق الحرب التي سترفد لغة الرواية بمفرداتها وتعابيرها كما هو الأمر في "تحت سرّة القمر".

"الجميع جلاد... والجميع ضحايا... والاقتتال هو المصير": تلك هي رسالة رواية "إيميسا" لهلال محمد علي التي تعنونت بالاسم اليوناني التاريخي لمدينة حمص، وشبكت بين ثمانينيات القرن الماضي وسنوات الزلزال (2012-2018)، عبر التحولات الدرامية (مفكر وكاتب يصير إرهابياً، مثلاً) ووقائع الخطف والاغتصاب والقتل وما سمّته الرواية "خباثة الغجر"، كذلك شخصية الكردي الانفصالي "آكري"... وتتعدد الروايات التي تصل حاضر الزلزال بماضيه القريب أو البعيد. فرواية "حربلك" لمحمد العثمان، تؤسس  للحاضر فيما بدأ منذ استولى البعث على السلطة عام 1963، وتكون لها وقفة خاصة مع أحداث مدينة حماة الشهيرة عام 1982، وهذا ما ستفعله روايات أخرى.

من روايات الأصوات الجديدة التي ذكرنا ما هو مميز، مثل روايات سومر شحادة ومحمود حسن الجاسم وجهينة العوام وخطيب بدلة ومحمد العثمان وسندس برهوم. غير أن التميز (يتميز)، ويتفاوت بالطبع، في روايات كتّاب وكاتبات سبق أن اغتنت بها خزانة الرواية في سوريا، حتى ليحار المرء فيمن يبدأ: مع شهلا العجيلي (روايتا: سماء قريبة من بيتنا – صيف مع العدو) أم سمر يزبك (المشاءة) أم ممدوح عزام (أرواح صخرات العسل)؟ ومع خالد خليفة (الموت عمل شاق) أم خليل صويلح (روايتا: جنة البرابرة – اختبار الندم) أم خليل الرز (الحي الروسي) أم سوسن جميل حسن (قميص الليل)؟ بل مع مها حسن (عمتِ صباحاً أيتها الحرب) وروزا ياسين حسن (الذين مسهم السحر) وعبير إسبر (سقوط حر) وجان دوست (كوباني: الفاجعة والربع) ولينا هويان الحسن (الذئاب لا تنسى) وابراهيم اليوسف (شنكالنامه) ومنهل السراج (عصيّ الدمع) وفادي عزام (بيت حُدُد) ونبيل الملحم (إنجيل زهرة) وخيري الذهبي (المكتبة السرية والجنرال) وابتسام التريسي (مدن اليمام) وهيثم حسين (قد لا يبقى أحد: أغاثا كريستي تعالي أقل لك كيف أعيش) وكمال زياد حمامي (قيامة البتول الأخيرة) وفي المدوّنة سوى ذلك مزيد.

خلاصات نقدية

ولأنّها مدونة كبرى إذاً، ولأنّ الفسحة هنا محدودة، فسأُجمل القول في ما يلي:

من أهل المدونة من رفدها بأكثر من رواية، مثل مها حسن، ابتداءً من روايتها "طبول الحب" التي كانت من البواكير المعدودة سنة 2012، وعبد الله مكسور ابتداءً من روايته "أيام في بابا عمرو" سنة 2012 أيضاً.

ومن أهل المدونة من لم يوقف مساهمته على ما يتعلق بالزلزال فقط، مثل ممدوح عزام (لا تخبر الحصان) ولينا هويان الحسن (نازك خانم) وخالد خليفة (لم يصلّ عليهم أحد)، وفادي عزام (بيت حُدُد) وروزا ياسين حسن (حبال الماء).

حضرت السيرية بدرجات وبنسب وصيغ مختلفة، كأن تنادي ما هو معروف من سيرة الكاتب أو الكاتبة مثل رواية إبراهيم اليوسف "ممحاة المسافة"، أو رواية "لا تقتل ريتا" لمنذر حلوم، أو رواية "قطعة جحيم من الجنة" لعادل محمود، أو رواية "الذين مسهم السحر" لروزا ياسين حسن، أو رواية "قد لا يبقى أحد" لهيثم حسين أو "وطأة اليقين" لهوشنك أوسي. وقد يحضر الكاتب أو الكاتبة بالاسم الصريح كما في رواية "عمت صباحاً أيتها الحرب". وقد يكتفي الراوي بضمير المتكلم، فلا يكون له اسم، كما في روايات خليل صويلح.

ثمة روايات تصلح بحق مثالاً لمقبرة الفرص الضائعة مثل رواية حيدر حيدر "المفقود" أو رواية فخر الدين فياض "رمش إيل".

من الروايات ما وصلت سنوات الزلزال بحفرية لها في الماضي القريب الذي يعني العقود الستة الماضية، بخاصة منها مفصل الصراع المسلح بين السلطة والإخوان المسلمين، وما اشتهر من أحدث حماة المفصلية (1982) التي تضاهي أفظع ما شهدته سنوات الزلزال، كما في روايات شتّى لمنهل السراج ومحمد العثمان وديمة ونوس وفواز حداد وسوسن جميل حسن... بينما مضت روايات أخرى في حفريتها أبعد، فبلغت في رواية "الغرانيق" لمازن عرفة زمن اللات والعزة ومناة، لتقرن هذه الغرانيق بغرانيق الديكتاتورية في زمن الزلزال.

تألقت مساهمة الكاتب (ة) الكردي السوري أيّما تألق كما في روايات مها حسن وإبراهيم اليوسف وهيثم حسين وهوشنك أوسي وجان دوست. ولعل روايات شتى لأولاء قد تقدمت على رواية صنوهم سليم بركات "سبايا سنجار"، على الأقل بالمقارنة مع رواية إبراهيم اليوسف "شنكالنامه" عمّا فعل "داعش" بالكرد الأيزيديين في سنجار.

يبرز بنسب وصيغ ودرجات مختلفة ضغط التسجيلي والوثائقي على روايات عدّة، بخاصة في السنوات الأولى من الزلزال، إذ يُلحظ أيضاً الوقوع في فخّ منافسة الكاميرا والوقوع تحت وطأة الانبهار بالحدث والمبالغة وشُواش الرؤية، جرّاء فظاعة وسخونة الجراح، وافتقاد الخبرة بالكتابة الروائية عن هكذا حالة مروّعة. وإذا كان ذلك ينتأ في روايات السنوات الأولى، فقد تراجع من بعد.

حضر اليهود في أربع روايات هي "عين الشرق" لابراهيم الجبين و"مدن اليمام" لابتسام التريسي و"خمارة جبرا" لنبيل الملحم و"قيامة البتول الأخيرة" لزياد كمال حمامي.

لا يكاد يغيب التهجير والهجرة، ولا أحوال المهجّرين والمهاجرين على المسالك وفي المخيمات وفي بلاد اللجوء، بخاصة في روايات الكتّاب الذين ذاقوا مرارة كل ذلك.

لم تحقّق المدونة الروائية "فتوحات فنية"، بل هي تتابع التقسيم والتجويد على ما حقّقته الرواية العربية. ومن مألوف ذلك أن يكون الفضاء فندقاً أو جارة أو شارعاً كما في رواية حسن صقر "شارع الخيزران"، أو أن تتوسل الرواية التشذير، مما سبق أن أبدع فيه منذر حلوم، وتجدد بديعاً في رواية إبراهيم الجبين "عين الشرق". وربما تفرّدت رواية "سلطة أصابع" لثائر تركي الزعزوع في الكتابة عن المستقبل سنة 2030،  فتتحقّق عودة المنفيين إلى البلاد، ولكن ليجدوها قد تبدّلت أسوأ تبديل.

من الأسئلة التي تواجه هذا الفيض الروائي ما يتعلق بما أصاب بعض الروايات من الأذى الجمالي والقيمي، كالوقوع في أفخاخ الثأرية، أو البيان السياسي، أو الصحافة التلفزيونية، أو عماء التحزّب، أو اللهاث خلف الشعارات، أو الطائفية... وإذا كانت الغلبة العددية هي لِمَا يُكتب في الخارج، والموسوم بدرجة أو أخرى، وبلون أو آخر، من المعارضة، فالمشهد في الداخل يتوزع بين فئتين: الأولى هي البقية الباقية من الكتاب المعارضين المستقلين الذين اختاروا ألّا يغادروا إلاّ لسفر قصير أحياناً، ونشروا رواياتهم في الخارج، ومُنع أغلبها في الداخل، كما هو الحال مع خالد خليفة وخليل صويلح وممدوح عزام وكاتب هذه السطور، ولأولاء نظراؤهم في الشعر والنقد والسينما (جمال شحيد، محمد ملص، مثلاً). أما الفئة الثانية في الداخل، فهي الموالية التي نال أيضاً ما تكتب من الأذى الجمالي والقيمي مقداراً، كالوقوع في الأفخاخ السابقة، ولكن من موقع الموالاة، ومنهم من تولّوا أو يتولّون مواقع في الآلة الثقافية أو الإعلامية أو الإدارية والحزبية، وينادون بالويل والبثور لمن يخالفهم، بخاصة إن كان مقيماً في الداخل.

المزيد من ثقافة