Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لعنة "خراب البصرة"... من يوقف تكرارها؟

"مدينة المدن" تمتلك الثروات... وشعبها يقف طوابير على أرصفة العوز

موقع تم تفجيره بسيارة مفخخة جنوب غربي البصرة (أ.ف.ب)

ما من مدينة خُربت في التاريخ مثل البصرة، فهي أكثر مدن العرب خراباً في التاريخ القديم والحديث، رغم قدمها الحضاري منذ إنشائها سنة 14 للهجرة، عندما أوعزَ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب للقائد عتبة بن غزوان ببنائها على الخليج العربي، حتى تكون حاضرة العرب المسلمين وحائط الصد لغزوات أعدائهم.

"جبلٌ من نار"... أمنية الفاروق

ظل أهل البصرة يرددون عبارة مأثورة صدح بها الفاروق عمر بن الخطاب قائلاً "ليت بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا ينفذون إلينا ولا ننفذ إليهم"، قالها من هول الدسائس التي تعرضت إليها بلاد العرب المسلمين جراء تدخلات الفرس وأطماعهم. وتمنى سواه من قادة العرب وحضاراتهم اللاحقة لو امتدت جبال زاغروس شرقي العراق التي تفصلهم حيث الخليج، حتى تحول دون غزوات العيلاميين والحثيين والزنج والقرامطة والصفويين وسواهم من الوثوب إلى البصرة ومنها إلى باقي العراق والبلاد العربية. وسبقهم الأخمينيون والساسانيون الفرس الذين دمروا بابل وآشور ونينوى وجذعوا أنوف تماثيلهم التي انتشرت في متاحف العالم، وهي تشكوا التمثيل بوجوه القادة والثيران المجنحة رمز القوة والمنعة جراء أفعال الغزاة والطغاة الذين سرقوا مسلة حمورابي البابلي ونصبوها في عيلام فارس.

تاريخ البصرة الحزين

سلسلة من الهجمات والغزوات أطّرت ذاكرة العرب وهم يستعرضون ضحايا البصرة عبر تاريخها الطويل كونها أول المدن التي بنوها قبل ألف وأربعمائة عام، هذه المدينة التي لم تشهد سوى الحروب والنكبات والغزوات والمؤامرات والدسائس والجيوش الغازية التي وطأت أرضها، وانتهكت كرامات شعبها وسلخت أجزاء منها، آخرها "عربستان" بمدنها العربية وشعبها الذي ينتمي لأبرز القبائل العربية المعروفة من بني تميم وخزاعة وكعب وطرفة وبني أسد وسواهم من عرب الجنوب. تاريخ يستحضر صراعات واحتدامات دارت على أرض البصرة في أزمان المِحَنْ التي لم تتوقف لحظة واحدة، فكل حروب التاريخ القديم والمعاصر للبصرة حيز فيه وحكاية وسجل.

أفذاذ البصرة... منارات التاريخ المجيد

البصرة تاريخ حافل بالعطاء والعلماء رغم آلامها وانتكاساتها وخرابها على يد الزنج والخرسانيين والبويهيين والصفويين والمغول وسواهم، فقد ظلت حاضرة العلم ومنارة العلماء والمفكرين العرب المسلمين، ومنها ظهر علماء وشعراء ورجال أفذاذ من بينهم أبو الأسود الدؤلي، ومحمد بن سيرين، وحماد بن زيد، وعمرو بن سلمة الجرمي، والفرزدق، وقتيبة بن مسلم الباهلي، ومؤرج السدوسي، وأبو الهذيل العلاف، وأبو عمرو البصري، والحسن البصري، والمبرد، ومعمر بن راشد، وعبد الله بن زيد الجرمي البصري، قتادة بن دعامة، وابن علية، وعيسى بن عمر الثقفي، وحماد بن سلمة، وإياس المزني، وأبو بكر البزار، والفراهيدي، وابن الهيثم الأخفش الأوسط، ومحمد الحريري، والماوردي، وعمارة بن عقيل، وجابر بن زيد الجاحظ، والأصمعي، وسيبويه، وأبو الحسن الأشعري، وأبو الحسن المدائني، وعبد الله ابن المقفع، وبشار بن برد، وإخوان الصفا، ورابعة العدوية، وغيرهم.

ومن المعاصرين بدر شاكر السياب، ومحمد خضير، وأحمد مطر، وسعدي يوسف، وعبد الهادي الفضلي، ومحمود البريكان، وسواهم الكثير ممن أعطوا للثقافة والفكر والعلوم وجعلوا البصرة من المدن التي تفخر بموروثها العربي الإسلامي الثري.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"بعد خراب البصرة"... المثل والدلالة

"بعد خراب البصرة"، مثلٌ ذاع على مسامع العرب جميعاً، يعود في أصله إلى عام 883 ميلادي عندما تم القضاء على ثورة الزنج بزعامة علي بن محمد، الذي أوغل في قتل وسبي الناس وسلّم منازل وممتلكات أهل البصرة إلى أتباعه محولاً أهل المدينة إلى عبيد، مفرغاً بذلك حركته من مضمونها الفكري السياسي إلى حركة عصابات مسلحة تقتل وتنهب وتنتقم، حتى وقع أخيراً في شر طموحاته وغلوه بتهديد عاصمة الخلافة بغداد في عهد ابن المتوكل، هذا الأخير الذي شكل جيشاً جراراً للقضاء على ثورة الزنج بحرب ضروس قضت على الأخضر واليابس جراء حصار البصرة الطويل وقتل وأسر الآلاف وصلبهم على نخيل المدينة، فقال الناس إنه "نصر بعد خراب البصرة"، فذهب مثلاً يرددونه طيلة الأزمنة اللاحقة وإلى يومنا هذا.

مسرح الحرب العراقية-الإيرانية

كانت البصرة على مدار ثماني سنوات من الحرب العراقية-الإيرانية مسرحاً للقتال العنيف بين الطرفين، وساحة للكر والفر والقتل بشتى الأسلحة والقصف المتبادل ليل نهار، وما إن وضعت الحرب أوزارها في الثامن من أغسطس عام 1988 حتى وجد البصريون أنفسهم أمام أحياء ومناطق مدمرة بالكامل، فالحرب التي دارت رحاها في مدينتهم خلفت مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعاقين، حتى النخيل لم يسلم، فما يقرب من عشرة ملايين "نخلة بصراوية" كانت ضحية هذا النزاع العسكري الأطول في القرن العشرين.

خراب... بعد غزو الكويت

خراب البصرة لم يقف عند حد الحرب العراقية الإيرانية! فبعد عامين بالتمام والكمال عاد البصريون إلى خراب أعم وأكبر يتمثل في غزو الكويت واحتلالها وضمها إلى العراق على مدار أشهر واعتبارها "المحافظة 19"! حتى تحوّل العراق كله والبصرة أولاً إلى كرة النار من جديد، فجراء هذه المغامرة السياسية تدمرت بنية البلاد التحتية مجدداً، وتحطمت المباني والجسور والمراكز الحيوية والحياة العامة، ودخل العراق في متاهات اللعبة الدولية والحصار الاقتصادي وما تلاه من انهزامات نعيش آثارها حتى اليوم، ولم يكن أمام الناس سوى أن يستذكروا مثلهم الذي أضحى لعنةً أبدية "بعد خراب البصرة" وهم يحصون قتلاهم وحجم الخراب الذي حلَّ بهم منذ مطلع التسعينيات.

غزو العراق واحتلاله 2003

عاد البصريون من جديد يرممون مخلفات القصف وينتشلون الغوارق البحرية ويعبّدون الطرق ويعيدون زراعة بساتينهم المحترقة رغم الحصار الجائر على الشعب العراقي، إلى أن حلت حرب الخليج الثالثة عام 2003 وجرى احتلال العراق وإسقاط نظامه الوطني، وما أعقبه من فوضى وتجاذبات سياسية وطائفية مستمرة إلى اليوم.

كل ذلك مكّن إيران من أن تنفرد وحدها بالساحة العراقية، وكانت نقطة عبورها من البصرة اللصيقة بها عبر شط العرب، لتنقل قوات موالية للحرس الثوري الإيراني على مرأى ومسمع المحتل الذي مكنّها من التوغل في الأراضي العراقية وحولها إلى ظل سياسي، تنهب نفطه ليل نهار تحت حراسة الميليشيات المسلحة التي تُعد مخالب طهران للسيطرة على النفط العراقي وتهريبه بعقد شراكات مع أطراف محلية تضمن سريان نفوذها وتمكِنها من التحكم في الاقتصاد العراقي وتعويمه لصالحها، وتحولت البصرة إلى قاعدة متقدمة لقوات الحرس الثوري بأدوات عراقية تدين لطهران بالولاء، وباتت المدينة مرتكزاً لتحرك إيران في الخليج العربي، تهدد أمنه القومي من بوابة العراق الشرقية، مع خنق وقتل أي صوت يدافع عن عروبة الخليج وأمنه واستقراره.

سرقة موارد المدينة

جرت مياه كثيرة تحت جسور البصرة وتغيرت أحوالها من "مدينة المدن"، كما كان يحلو لصدام حسين تسميتها، إلى مدينة مُنتهبة من ميليشيات عاثت بها فساداً!

الفساد الذي نخر مفاصل أهم المدن الاقتصادية في العراق، وينبوع نفطه وثرواته، فهي تنتج فعلياً ما يقرب من أربعة ملايين برميل نفط يومياً وحدها، وتغذي الاقتصاد العراقي الريعي المعتمد كلياً على إنتاجها، لتعتاش عليها باقي المدن العراقية بما فيها إقليم كردستان المستقل تقريباً عن الدولة العراقية بعلم ودستور وعاصمة!

تساؤلات بلا أجوبة

وضعُ أهل البصرة وسواها من المدن الجنوبية الفقيرة في تساؤل مستمر، لماذا ننتج بلا توقف ولا نأخذ شيئا؟ لينطبق عليهم المثل العراقي الشعبي "مثل الجمل محمل ذهب وياكل شوك"!

لذا بلغت الاعتراضات البصرية ذروتها للمطالبة بإقليم الجنوب ومركزه البصرة، لكن البصريين أنفسهم أفشلوا الاستفتاء وظلوا تحت راية الدولة المركزية في بغداد رغم أن المدينة تعيش في دوامة الصراع بين فقر ناسها وتخمة ثرواتها.

مدينة عتبة بن غزوان وشكوى الوفادة

البصرة، هي المحافظة الثانية بعد بغداد من حيث عدد السكان، يقطنها أربعة ملايين عراقي أغلبهم من الشيعة العرب الذين وفدوا إليها في التاريخ القديم من الجزيرة العربية، وفي التاريخ الحديث وفدوا من المحافظات الجنوبية مثل ميسان وذي قار طلباً لفرص العمل والعيش، فانقلب مناخ البصرة السكاني من مجتمع حضري إلى آخر عشائري، وهذا ما أزعج الأهالي الأصليين المعروفين بطيبتهم وكرمهم وتسامحهم وعشقهم للفنون، تلك الصرامة التي تميز البصرة حالياً هي وافدة عليها وعلى طبيعتها المرحة التي تخفف من أعباء الحياة.

استنزاف العقول البصرية

تسببت هجرة العقول من أبناء البصرة بضياع فرصة كبيرة لتطوير المدينة وحواضرها، فالبيئة هناك كانت ولا تزال طاردة بسبب المخاطر الأمنية وصعوبة العيش وسوء الخدمات، عوامل جعلت البصريين غير قادرين على تحمل الواقع الذي أفرزته مواسم الحروب الطاحنة، ولافتات الشهداء المغدورين من أصحاب الكلمة والمواقف الرافضة للراهن الصعب، ناهيك بسطوة الحكم العشائري، وحجم التلوث بكل أنواعه على مد البصر.

إحراق الغاز وحرق قلوب العراقيين

حين تهم بدخول البصرة من أي جهة، تطالعك مشاعل الغاز المحترق منذ أكثر من خمسين عاماً نتيجة الهدر المتواصل وغير المبرر للغاز الذي يقدر بأكثر من ثلاثين مليار دولار سنوياً، ولا أحد يملك الإجابة عن ذلك سوى مشهد الأقدام الحافية لأطفال البصرة وعوائلهم التي تعيش عند حافات مدن الغاز المحترق بأكواخ مصفوفة على امتداد المدينة والحيانية وحي الحسين وسواها.

واقع يكشف عجز السلطات التي تسلمت مقادير الأمور في إدارة البصرة التي لم تسمع نداءات أهلها بتخصيصات تغير أحوال مدينتهم الغارقة في الأوحال، وتعمل على استيراد الوقود من دول الجوار خصوصاً إيران حتى تحصل على رضاها ومباركتها وحمايتها للميليشيات المنخرطة بأجندتها الفكرية والسياسية، مما جعل المجتمع ينقسم في رؤيته لهذه السياسة التي تهدر طاقة البلاد من جهة وتستوردها من جهة ثانية.

أموال مهدرة من ميزانية العراق

وزير النفط العراقي السابق والخبير النفطي والنائب الحالي في البرلمان، جبار اللعيبي، أكد لـ"اندبندنت عربية" أن ما يقرب من خمسين مليار دولار تهدرها حكومات ما بعد 2003 بطريقة مقصودة ومتعمدة، ولا يعرف هو لماذا هذا الضرر البالغ للاقتصاد العراقي، وكلها من البصرة المنطقة الرئيسة للنفط والغاز وسواها من المناطق في العراق، مؤكداً أن مدينته الأغلى في العالم في حجم مواردها يعيش شعبها شظف العيش ويرزحُ تحت خط الفقر، معللاً ذلك بعدم وجود برنامج حكومي حقيقي لتغيير معادلة تردي الأوضاع الاقتصادية والخدمية في المحافظات الجنوبية كالبصرة التي تعد مركز الاقتصاد العراقي الريعي.

تأخر إنشاء ميناء الفاو الكبير

إضافة إلى تردي الواقع الاقتصادي للبصريين وعدم تمكنهم من إنجاز ميناء الفاو الكبير الذي تقدم به مستثمرون عراقيون ودوليون، هناك تراجع في القطاع الصحي وخدماته التي أقل ما يُقال عنها "كارثة"، أما الواقع الأمني فهو في تراجع مستمر نتيجة ضعف الحكومات المتعاقبة وكوادرها التي تُهدد من ميليشيات توصف بـ"الوقحة"! هذا إلى جانب فساد الكادر الإداري الذي تسلم المحافظة وسيادة الرشى وسرقة المال العام والمشروعات الوهمية التي أوقفت عجلة التنمية، وتراجع بناء المحافظة التي تشكو الإهمال وسيطرة العصابات في حقبة من تاريخها التي استدعت رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي أن ينظم حملة مداهمات قادها بنفسه أطلق عليها "صولة الفرسان" ليؤمِّن سريان النفط في الأنابيب للتصدير المركزي بعد أن استحوذت الميليشيات عليه، وسيطرت على أرصفة الشحن بأسلوب أقرب ما يكون لعصابات المافيا في أميركا الجنوبية.

تناقضات البصرة قادت إلى المواجهة

تفيد مصادر مطلعة على كل ما يجري، أن هناك 13 رصيفاً لشحن النفط موزعة بين الأحزاب المتحكمة في شحناتها، لا تتمكن الدولة من تسييرها إلا بالتفاهمات فهي محميات حزبية معروفة كما يقول أحد النواب عن مدينة البصرة.

هذه الأوضاع وسواها قادت جماهير البصرة لتنظيم احتجاجات متواصلة منذ 2011، بلغت ذروتها في أكتوبر (تشرين الأول) من 2019، وزادت وتيرتها باقتحام القنصلية الإيرانية وحرقها مع حرق مقار أحزاب السلطة في مجابهة ضروس مع فرق مكافحة الشغب والفصائل المسلحة التي قتلت المزيد من المتظاهرين وعطلت المدينة، الأمر الذي دفع المحتجين لمهاجمة الموانئ من أجل وقف تصدير النفط وتعطيل حركة الملاحة، حتى إعلان سقوط وزارة عادل عبد المهدي واستقالتها عنوة، ليدخل التاريخ العراقي والبصري تحديداً من بوابة الأمل لطرد الميليشيات، وتأطير الدولة لبناء واقع جديد على قاعدة سيطرة رجل الشارع على رجل السياسة على حد وصف الأكاديميين العراقيين المفجوعين وكل مثقفي البلاد، لأنهم يدركون كم تمتلك البصرة من ثروات وشعبها يقف طوابير على أرصفة العوز والحياة المعدمة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات