Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم: الجريمة الغامضة

هل سنعرف يوما من قتل ريم الحلوة؟

توفيق الحكيم

"لماذا أدوّن حياتي في يوميات؟ ألأنها حياة هنيئة؟ كلا، فإن صاحب الحياة الهنيئة لا يدوّنها، إنما يحياها. إني أعيش مع الجريمة في أصفاد واحدة. إنها رفيقي وزوجي أطالع وجهها في كل يوم ولا أستطيع أن أحادثها على إنفراد. هنا في هذه اليوميات أملك الكلام عنها وعن نفسي وعن الكائنات جميعا. أيتها الصفحات التي لن تُنشر! ما أنت إلا نافذة مفتوحة أطلق فيها حريتي في ساعات الضيق!...".

بهذه الكلمات يبدأ توفيق الحكيم صفحات واحد من أجمل وأقوى كتبه، "يوميات نائب في الأرياف"، غير أن نبوءته بأن الكتاب لن ينشر لن تتحقق، فالكتاب الذي نشر للمرة الأولى بالعربية في العام 1938 وترجم إلى العديد من اللغات الأجنبية، كالفرنسية مثلا منذ العام 1940 والإنجليزية حيث قام بترجمته آبا إيبان الذي سيصبح واحداً من أبرز وزراء خارجية الدولة العبرية... ليتلوها ترجمات عديدة أخرى، هذا الكتاب سيعرف مصيراً مدهشاً حتى وإن طغى عليه دائماً نوع من سوء تفاهم جعله يعامَل كرواية، مع أنه ليس كذلك بأية حال من الأحوال. فالكتاب هو بالفعل يوميات كتبها ذلك النائب العام الشاب الذي كانه توفيق الحكيم في الريف المصري إنطلاقا من تجربته الحياتية الفعلية ومشاهداته في ريف تعيش الجرائم فيه حياة طبيعية ويستسلم الناس لأقدراهم مذعنين متكتمين بحيث لا يعود غريباً أن يختم المؤلف كتابه قائلاً في مجال إخباره قارئه بكيف أن ملف الجريمة النهائية يوضع جانباً ولا يكون هناك من يسأل: "... وغمست القلم في المداد وتناولت القضية الأولى وهي قضية "قمر الدولة" (...) ثم كتبت في ذيل المحضر الإشارة المعهودة: "تحفظ القضية لعدم معرفة الفاعل... الخ، إلخ" وسحبت الجنايات الأخرى وفعلت بها ذلك وناولتها رئيس القلم الجنائي وأنا أقول له في نبرة ساخرة مريرة على الرغم مني: مبسوط! أدحنا خلاص سدّدنا كشف الجنيات!

مصير في الخارج

الحقيقة أن هواة السينما الكبيرة المعاصرة قد يلاحظون موقفاً مثل هذا وبلغة ونهاية مماثلتين كذلك، يختم واحداً من أبرز أفلام التركي نوري بلجي جيلان، "حدث ذات مرة في الأناضول" مع أن لا ذكر لتوفيق الحكيم وكتابه في مقدمات الفيلم، بل يُكتفى بالإحالة إلى تشيخوف كمرجع ممكن لحكاية الفيلم. وتتشارك هذه الحكاية على أي حال مع رواية الحكيم في عدد لا بأس به من العناصر: تدور الأحداث في الريف، وحول نائب عام شاب عُيّن هناك حديثاً، والمحور جريمة عاطفية يكون النائب العام أول الساكتين عنها إذ يجد أن الحقيقة لن تفيد أحداً؛ ناهيك بأن المتن في مجمله يكشف عن حياة وفساد وعلاقات بالغة التشابك وعواطف متراكمة في الريف. غير أننا مع هذا لن نتوقف هنا لنتساءل عما إذا كان جيلان قد قرأ كتاب الحكيم قبل كتابته سيناريو فيلمه. فهذا الأمر لا يهمنا كثيراً هنا. ما يهمنا هو مصير هذا الكتاب الذي، للمناسبة، حوّله السينمائي الراحل توفيق صالح فيلما بديعا بنفس العنوان كان من المؤسف أنه لم يلق حينها النجاح الذي يستحقه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والحال أن هذا النجاح المستَحقّ تأمن في فرنسا للكتاب نفسه، حيث كان من أول سمات الترجمة الفرنسية أنها وضعت الكتاب في المكان الصحيح: إعتبرته منذ أواسط سنوات السبعين كتاباً في الأنثروبولوجيا وليس محض رواية. وآية ذلك أن سلسلة "أرض البشر" التي يديرها الأنثروبولوجي (عالم الإناسة) الكبير جان مالوري إستعادت يومها الترجمة القديمة التي قام بها المستشرق غاستون فييت للكتاب، لتعيد إصدارها ضمن منشوراتها التي تعتبر من أهم كتب الأنثروبولوجيا الصادرة في العالم وتُطبع عادة وتوزع على نطاق واسع يكاد يكون شعبياً. وعلى هذا النحو يومها وبالتوازي مع مشاهدة جمهور النحبة في باريس في عدد من المهرجانات ودور الفن والتجربة ونوادي السينما، فيلم توفيق صالح الذي قام فيه شكري سرحان بدور النائب، كان في وسع قراء النخبة أن يقرأوا ذلك الكتاب الذي لم يفت النقاد الفرنسيين أن يجدوا فيه، في مجال تعدد شخصياته وأسلوب الحكي وتوقف الفصول عند لحظات مثيرة في الحكي والغموض المستشري، شبهاً كبيراً بأسلوب "ألف ليلة وليلة"، ويحزنوا بالطبع لمصير الحلوة ريم بشكل خاص بين شخصيات أخرى دائماً ما نراها من منظور جرائم تُرتكب وقضايا ترفع أمام المحكمة وتعليقات القاضي أو النائب العام أو الضابط عليه (إلى حد كبير كما يحدث في الفيلم التركي الذي أشرنا إليه). ورغم هذه التعددية هناك ذلك التركيز البديع، طبعاً، على ريم الفلاحة الحسناء التي تعيش تحت "وصاية" الشيخ عصفور. أما السؤال الذي يجعل من ريم محوراً في طول الكتاب وعرضه فهو البسيط التالي الذي يبدو طالعاً من روايات أغاثا كريستي: هل كانت ريم هي قاتلة صهرها؟ ولن نعثر على جواب لهذا السؤال الذي يظل غموضه مهيمناً على الكتاب كله، وليس فقط لأن الوحيدة التي يمكنها الإتيان بجواب هي ريم نفسها، ولأن ريم تختفي ذات يوم. لماذا اختفت ريم وكيف حدث هذا؟ لن نحظ هنا إلا بأنصاف إجابات وإلا بأرباع حلول لكل التعقيدات. ولكن ليس لأن ليس ثمة ما يوصلنا إلى الإجابات وإلى الحلول، بل تحديداً لأنه يبدو في أحيان كثيرة أن الحقيقة تكون أفضل حين لا تُعرف. ونحن لسنا هنا بصدد رواية بوليسية بالطبع كي نتوخى الوصول إلى إجابات، بل بصدد كتاب "علمي" يريد الكاتب من خلاله أن يضع قراءه المنتمين بالطبع إلى عوالم أخرى، على تماسّ مع هذه العوالم التي يسرد هنا مشاهداته في ما يتعلق بها.

لا لتشريح جسد بديع!

نعرف كما يقول لنا الحكيم بلسان نائبه العام أن ريم وُجدت غارقة في الترعة. فهل غرقت وهي تسبح؟ هل قُتلت قبل ذلك ورُمي بها في الترعة؟ هل انتحرت؟ لن نعرف أبداً وتحديداً لأن النائب العام لا يمكنه أن يصدر أمره بتشريح الجثة مع أن ذلك التشريح وحده هو القادر على إيصالنا إلى الحقيقة التي إنطلاقاً من هنا لن نصل إليها أبدا.... غير أن الحكيم، في غمرة حيرة نائبه العام إزاء ضرورة أو عدم ضرورة الوصول إلى الحقيقة لا يفوته أن يقول أن سببا إضافيا منع النائب العام من "تشريح الجثة" هو أنه وجد نفسه هنا أمام جسد رائع كامل يمكن اعتباره من أجمل ما صنعت الطبيعة وكوّنت؛ فما الداعي إلى تدنيسه بالتشريح وتشويهه للوصول إلى حقيقة لا يبدو أنها ستهم أحدا؟

كان كل هذا بالطبع ما فتن الكتّاب والنقاد الفرنسيين في هذا الكتاب حين أطل عليهم في طبعته "ألأنثروبولوجية". وقد يمكننا هنا أن نرى في المستعرب الكبير جاك بيرك، الذي كان ربما أكثر المستشرقين والمستعربين معرفة بالمجتمع المصري، الريفي والمديني سواء بسواء، ناطقاً باسم أولئك "المفتونين" حين يقول تعليقا على الرواية : "في يوميات نائب في الأرياف، المؤلفة من مقاطع وملاحظات (...) يصوّر الحكيم دون أي تواطؤ ولكن دون أي تعاطف أيضاً، الكائن المجهول الأبدي في تاريخ مصر الذي هو فلاحها.(...) ومع ذلك فإن كل شيء لدى الحكيم ينتهي أمره في صورة نصف مضاءة. الحكيم ليس منكراً للواقع إنما هو صاحب دعوة، إنه يدعو إلى سلوك درب الواقعية بقسوتها دون أن يفوته إعلان يعلن حبه لها. وهو يستذوق أكثر ما يستذوق الإخلاص. أما إحساسه بالسحر فبتواكب مع إحساسه بالواقع سواء عالجه بسخرية أو ببعده الرمزي...".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة