Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بورتريه دورا مآر" لبيكاسو: عودة الحسناء إلى الواجهة مستقلّة

ماذا لو كانت أكثر من مجرد "إمرأة باكية"؟

"بورتريه دورا مآر" لبيكاسو 

كانت بالنسبة إلى كثر من معجبي الرسام الإسباني/ الفرنسي بابلو بيكاسو ومتابعي سيرته وحكاية أعماله، مجرد "غزوة أخرى" من غزواته النسائية التي إشتُهر بها إشتهار فنه الذي طغى على القرن العشرين بأسره. غير أن معارض عدة أقيمت خلال الشهور الأخيرة لأعمال دورا مآر الفوتوغرافية في نيويورك وباريس، كشفت عن وجه حقيقي لتلك الفنانة التي ظلمتها سمعتها وربما يمكن أن نقول، بشكل ما، أن حسنها أيضا قد ظلمها.

دورا مآر التي برزت من خلال المعارض الإستعادية واحدة من كبيرات التصوير الفوتوغرافي أواسط القرن الفائت، تبدّت مختلفة الى حدّ كبير عن صورتها المعهودة إذاً. لكنها تبدّت في الوقت نفسه مختلفة عن "الصورة" التي رسمها لها بيكاسو نفسه، ولا نعني بهذا هنا "البورتريه" الشهير الذي رسمها فيه وسنتحدث عنه في هذه المقالة، بل عن شيء آخر من الصعب تلمسّه في اللوحة الفعلية التي نحن في صددها هنا. ولنبدأ الحكاية من حيث لا بد أن تبدأ.

حدث ذلك بين العامين 1936 و1937 جين كان الرسام الكبير في عز شهرته ومكانته وحسّه الإنساني النضالي. وهو كان منهمكا في ذلك الحين برسم تلك الجدارية الضخمة التي سوف تصبح واحدة من أشهر أعماله وربما أيضا واحدة من أشهر الأعمال الفنية في القرن العشرين، لوحة "غرنيكا" التي رسمه تخليدا لفظاعة المجزرة التي ارتكبها الطيران الحربي النازي الألماني في قرية غرنيكا الإسبانية بناء على طلب الدكتاتور الفاشي فرانكو. في ذلك الحين، وهو يشتغل بكل دأب وتفاني على اللوحة، رسم بيكاسو وخطّّط عدة أعمال فنية ستكون أقل شأنا بالطبع، معظمها أعطاها عنوانا شاملا هو "المرأة الباكية". حينها خُيّل لكثر من متابعي بيكاسو أن المرأة المرسومة إنما تبكي استعدادا لضمّ صورتها الى الجدارية المأساوية. لكنهم حين لم يروا أثرا لها في اللوحة إذ إكتملت، نسوا الموضوع في غمرة إستقبالهم الرائع لتلك اللوحة الضخمة التي إعتبرت من أعظم التكريمات التي خصّ بها بيكاسو وطنه الإصلي وتحيته الكبرى لثورة أبناء ذلك الوطن ضد الدكتاتور وحلفائه النازيين.

تلك المرأة الباكية

ثم ظهرت تلك اللوحة الأخرى التي رسمها بيكاسو على هامش "غرنيكا" والتي ستعرف منذ ذلك الحين بـ"بورتريه دورا مآر" ويصل إرتفاعها الى 92 سم فيما يبلغ عرضها 65 سم. وهذه اللوحة المعروضة اليوم ضمن أعمال الرسام في متحفه الباريسي المخصّص له والحامل إسمه، هي التي إعتُبرت فور ظهورها صورة لغزوة نسائية من غزوات بيكاسو كما أسلفنا. بيد أن الرسام نفسه سرعان ما أزال كل التباس في هذا الصدد حين قال نصف مازح/نصف جاد، أنه منذ اللحظة التي التقى فيها هذه الحسناء التي كانت في الثلاثين من عمرها ذلك الحين "لم يعد في وسعي تخيّلها سوى على صورة إمرأة تبكي". وطبعا سنجد في سيرة دورا والصور القلمية التي رُسمت لها من قبل معاصريها ما يتناقض تماما مع ما يقوله بيكاسو. ولكن هل هذا يهم حقا؟ إن الفنان يعطي نفسه الحق في ألا يرى في كل ما ينظر إليه سوى ما يريد أن يراه. ولا يشذ بيكاسو عن تلك القاعدة. ويرجح الدارسون عادة أن جو غيرنيكا، الحدث المأساوي والصورة التي رسمها بيكاسو في الوقت نفسه للحدث، ربما كانا ما أملى على الفنان ذلك الإحساس. وهنا قبل العودة الى "البورتريه" نفسه، متحدثين عنه وربما لمناسبة تأملنا له مؤخرا على ضوء المعرض الباريسي الذي أقيم لدورا في "مركز جورج بومبيدو" الفرنسي، ربما يكون من الضروري أن نذكر أن دورا كانت طوال رسم بيكاسو لـ"غرنيكا" المصوّرة الوحيدة التي سمح لها بأن تحمل كاميراها متجولة بها في الشقة الضخمة (محترف شارع غران أوغوستين) التي كانت هي من عثر عليها كي يستأجرها بيكاسو ويرسم فيها لوحته أو على الأقل يحضّر فيها إسكتشات اللوحة. ولقد بقي لنا من تلك الشهور الطويلة عشرات الصور الحصرية التي التقطتها دورا لبيكاسو وهو ينفذ مختلف مراحل اللوحة. ونعرف أن صداقة فكرية وفنية جمعت في حينه بين الرسام والمصورة التي سيعترف لاحقا بأنها كانت من النساء القليلات اللواتي دخل معهن في حواؤات فكرية وفنية وسياسية بالغة الذكاء والرهافة ما جعله، بعد كل شيبء، يعتبر مارا واحدو من أكثر النساء اللواتي عرفهن في حياته، ذكاء وثقافة.

إمرأة "إستثنائية"

ولا شك أن تأملا عميقا للبورتريه يضعنا في قلب هذا الرأي. فعلى رغم أن بيكاسو أخضع "موديله" الإستثنائية تلك لمرحلته الفنية الما – بعد – تكعيبية دون أن يبدو عليه أنه يفعل ذلك، نجده هنا يغرق في تلوينية كانت بالغة الجدة عليه، باستخدامه للوجه واليدين والأظافر وكزينة لثوب دورا رغم خلفيته السوداء، ألوانا تشع بهجة تتناقض تماما مع أحادية ألوان اللوحة الضخمة التي كان يحققها في ذلك الحين.  والى ذلك لا بد من ملاحظة الخطوط الحادة التي ملأت اللوحة وأعطتها طابعا صارما. وهو لئن كان قد جعل خلفية اللوحة نفسها ضيقة وتكاد تبدو وكأنها سجن يأسر دورا في داخله، عرف في الوقت نفسه كيف يعطي المرأة المرسومة في داخل ذلك "السجن"، حجما يهيمن على اللوحة ويجعل الموضوع المرسوم يبدو أضخم من الإطار الذي وجد فيه. كثر سيعتبرون هذا التفاوت بين متن الجسد وإطاره المكاني تكريما لدورا نفسها وتمييزا لها عن نساء أخريات رسمهن الفنان في مراحل مختلفة من حياته ولأسباب متنوعة.

لكن هذا لم يكن كل شيء، ذلك أن الأهم يبدو هنا في ذلك الحضور الواضح لرأس دورا في اللوحة، فهو هنا يبدو وكأنه تمثال نصفي لامرأة يحمل وجهها تنوعا في الخطوط والألوان يجعلها تبدو – حتى وإن عكست ملامح تدنو من ملامح دورا الحقيقية الى حد مدهش، في فن بيكاسو على الأقل، ما يضعنا أمام نوع من "واقعية" شديدة الخصوصية – تبدو معبرة عن "إمرأة أراد الرسام أن يختصر فيها كل النساء" ولا ريب أنه قد نجح في مسعاه، وحتى وإن كانت اليد اليمنى لدورا إذ تصل بين رأسها وبقية جسمها تعيدنا الى ما دون النظر الى الرأس على أنه صورة لتمثال نصفي. ولعل ما يمكن التوقف عنده كثيرا في ملامح دورا هو الهدوء الطاغي عليها وشعورها الواضح أنها تقف في مكان ما خارج العالم اليومي، حتى وإن كانت أصابع يديها تفضح توترا ما.

...وخاف الرسام!

مهما يكن من أمر، نعرف أن بورتريه دورا هذا قد أثار غيرة الكثيرات من "نساء بيكاسو" الأخريات اللواتي رسمهن، ولكن غالبا كجزء من شيء ما يفوقهن في اللوحة أهمية. في هذا السياق بدت دورا دائما إستثنائية... بدت وكأنها "المرأة" مع أل التعريف. فهل علينا أن نفترض أن ذلك هو ما حال بين بيكاسو وأن ينخذها خليلة له رغم كل إعجابه بها وتقديره لثقافتها وشخصيتها، هو الذي عُرف عنه حيّ السيطرة فيما يتعلق بالعلاقات النسائية؟ لن نمعن في هذا التحليل هنا فهو يخرج عن إطار ما يهمنا في هذا المقال. فقط لا بد من الإشارة أخيرا الى أن بيكاسو التقى دورا في العام 1936 وكانت تعمل مصوّرة، (وهي من أصل يوغوسلافي وإسمها الأصلي دورا ماركوفتش) إلتقاها من طريق جورج باتاي وبول ايلوار – اللذان سيقال لنا أن كلا منهما كان مغرما بها على طريقته، ومنذا الذي لم يُغرم بدورا في ذلك الحين؟ -، وكان في غمرة تحضيره لجداريته الإسبانية الكبرى.

 

المزيد من ثقافة