Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مخاض "الاستقلال الثالث" والتحرر الوطني بعد التحرير

"عوامل الثورة كانت تتراكم منذ صارت قوات الردع العربية قوات سورية خالصة"

صورة التقطت من الجو لتظاهرة مناهضة للحكومة اللبنانية في وسط العاصمة بيروت (أ.ف.ب)

ليس في عصر العولمة و"الاعتماد المتبادل" استقلال كامل حتى للدول الكبرى. أميركا بحاجة إلى الصين وبالعكس، وهما بحاجة إلى روسيا وبالعكس. أوروبا التي استعمرت دولها العالم هي، كما يصف المستشار الألماني الراحل هلموت كول الاتحاد الأوروبي، "بيت بشقق مختلفة للشعوب الأوروبية، مع حق السكن الدائم لأميركا". والآن مع حق الإيجار لروسيا والصين. البيت الأبيض في أيام الرئيس دونالد ترمب ينطبق عليه توصيف باتريك بيوكانان للكونغرس بأنه "أرض محتلة إسرائيلياً". لم يكن خارج المألوف في الولاية الأولى للرئيس بوش الإبن أن تختصر له كوندوليزا رايس سياسة أميركا تجاه أوروبا بشعار "عاقب فرنسا، تجاهل ألمانيا، وسامح روسيا"، ولا أن يصبح الشعار "دلّل فرنسا، عانق المانيا، وذكّر روسيا بانجرافها عن معايير الديمقراطية".

صموئيل هنتغتون لم يكتم القول إن من الواجب "حماية الهوية الأميركية من الهيسبانيك، وخصوصاً المكسيكيين". كذلك فعل جيرجن هابرماس بالقول "تجب حماية الهوية الأوروبية من التهديد الأميركي". ويقال، بشيء من المبالغة، إن الإنترنت زلزلت الأحزاب والوسطاء في المجتمع. وهي سمحت لمن يريد بالتدخل في الانتخابات في أي بلد. أليس هاجس أميركا وأوروبا هو التدخل الروسي في الحملات الانتخابية الأميركية والأوروبية وحتى في أفريقيا عبر وسائل التواصل الاجتماعي؟

لبنان، منذ الأمير فخر الدين ثم الإمارة الشهابية، والقائمقاميين ومتصرفية الجبل، هو قصة حكم ذاتي داخل السلطنة العثمانية بتدخلات القوى الكبرى في تلك الأيام. مستشار النمسا مترنيخ اقترح التقسيم عبر نظام القائماقميين. الدول الأوروبية السبع ضمنت نظام المتصرفية. وفرنسا المنتدبة أعلنت قيام لبنان الكبير عام 1920 بلسان الجنرال غورو، من شرفة قصر الصنوبر في بيروت. وهذه الأيام يحتفل لبنان بذكرى استقلال خسره، ثم حقق استقلالاً آخر يكاد يخسره، ثم دخل في مخاض استقلال جديد عبر الثورة الشعبية السلمية في الشارع.

في مثل هذه الأيام من عام 1943 حصل لبنان على الاستقلال عن فرنسا، وسط حماسة شعبية ودعم مصري وبريطاني وسوفياتي. وكان في المقابل، اعتراض من مجموعة متشددة على هذا الاستقلال الذي رأت أنه جاء قبل أوانه، وبقيت تحتفل وحدها بذكرى إعلان لبنان الكبير على أساس أنه "الاستقلال عن سوريا". لكن الجمهورية الاستقلالية فشلت في مواجهة تحديات المعادلة، التي وردت في خطاب الرئيس الثالث للجمهورية الجنرال فؤاد شهاب، وهي "الانتقال من استقلال الدولة الى دولة الاستقلال". إذ تقاسم أمراء الطوائف السلطة التي انخرطت في صراع المحاور الإقليمية والدولية، فخسروا "استقلال الدولة"، ولم يبنوا "دولة الاستقلال". والبلد الذي قال رئيس حكومته الاستقلالية الأولى رياض الصلح، إنه لن يكون "مقراً" للاستعمار، ولا "ممراً" له إلى أشقائه العرب، وجد نفسه محكوماً بأن يكون "ساحة" لصراع الجبارين الدوليين، أميركا والاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، ولصراع محورين عربيين وإقليميين مرتبطين بهما. ثم صار الصراع ساخناً في الساحة بين الجبارين، ومعهما المنظمات الفلسطينية وسوريا وإسرائيل وعدد من الدول العربية.

عام 2005 حقق لبنان ما سمي بـ"الاستقلال الثاني" عبر "ثورة الأرز"، والتحولات في السياسات الدولية التي قادت إلى انسحاب القوات العسكرية السورية. كان اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه شرارة الثورة التي بدأت بتظاهرة حاشدة في بيروت، لم يشهد لبنان مثيلاً لها. ولكن عوامل الثورة كانت تتراكم منذ صارت قوات الردع العربية قوات سورية خالصة، وبدأت الوصاية السورية تتغلغل في النسيج السياسي والاجتماعي، وتسيطر على كل مفاصل القرار في المؤسسات التي صارت شكلية، برعاية أميركية – أوروبية – عربية. وما حدث في المسار الاستقلالي هو أن قوى "14 آذار" (مارس) التي قادت الثورة، وقوى "8 آذار" التي بقيت بقيادة "حزب الله" حليفة لسوريا وجزءاً من "محور الممانعة والمقاومة" الذي تقوده إيران، عملت على "التساكن" السياسي في السلطة. ومع الوقت، بدأت حسابات المصالح تلعب دورها في قوى "14 آذار"، بحيث وصلنا إلى أيام "الوصاية الجديدة" تحت عنوان "المقاومة".

وليس انفجار الثورة الشعبية السلمية مجرد احتجاجات على سوء السياسات التي قادت إلى تعميق الأزمة المالية والاقتصادية، وزيادة البطالة وهجرة الشباب، بمقدار ما هو أيضاً رفض للتركيبة السياسية في السلطة وخارجها. وما يحدث هو مخاض في الشارع لولادة ما يمكن أن يسمى "الاستقلال الثالث"، عودة لبنان إلى نفسه ورفض جره إلى أي محور، وخصوصاً الإيراني. وهذا مسار طويل على خطين مترابطين: أوّلهما طبعاً بناء "دولة الاستقلال" بالفعل، وثانيهما إكمال تحرير الأرض الذي حققته المقاومة الوطنية ثم الإسلامية، بعدما تفاهمت دمشق وطهران على إقصاء المقاومة الوطنية وحصر كل شيء بـ "حزب الله". إكمال لا فقط باستعادة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، بل أيضاً بتحرير المواطنين من العصبيات الطائفية والمذهبية وتحرير الدولة من سطوة أمراء الطوائف والمذاهب. فالتحرير من دون تحرر وطني تبقى مفاعيله في الإطار الجغرافي. والتحرير مع التحرر يصنعان التغيير في الجغرافيا-السياسية.

و"التاريخ ليس فقط ما حدث في الماضي بل أيضاً ما تفكر فيه الناس في الحاضر وتراه في الماضي"، كما قال روبرت صامويلسون.

المزيد من آراء