Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

انتحار فجع لبنان...جورج زريق يشعل نفسه حتى الموت لعجزه عن تأمين القسط المدرسي لابنته

التحضير لتظاهرات شعبية منددة الاثنين، فهل يلهم جورج زريق "انتفاضة معيشية"؟

شهيد الأقساط المدرسية في لبنان جورج زريق مع ابنته (مواقع التواصل الإجتماعي)

سقط المواطن اللبناني جورج زريق ضحيةً جديدة للوضع الاقتصادي المتدهور في بلاده. فبعدما ضاق ذرعاً بأوضاعه المادية المتردية وما نتج منها من ضغوط متواصلة من قبل إدارة المدرسة حيث يعلّم ابنته في قرية بكفتين للروم الأرثوذكس في منطقة الكورة شمال لبنان، قرر زريق أن يضع حداً لحياته عبر إشعال نفسه في باحة تلك المدرسة احتجاجاً. قراره هذا، جاء بعدما رفضت إدارة المدرسة إعطاءه إفادة لنقل ابنته إلى مدرسة رسمية (تابعة للدولة)، قبل تسديد المستحقات المتراكمة عليه بسبب سوء وضعه المادي.

وأوضح أحد أفراد العائلة في حديث خاص إلى "اندبندنت عربية"، أن "جورج تعهّد، خلال لقائه مدير المدرسة بشارة حبيب، بأنه سيوقّع ورقةً يعده فيها بأنه سيدفع المبلغ كاملاً على شكل دفعات متتالية حتى مطلع الصيف المقبل، إلا أن المدير رفض ذلك، كما أنه لم يأخذ على محمل الجد تهديدات الوالد بإحراق نفسه في الباحة".

وعند الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة 8 فبراير (شباط) الحالي، أشعل الوالد نفسه في باحة المدرسة، وسارع بعضهم إلى نجدته لكنه ما لبث أن فارق الحياة. ابنته الصغيرة ليلي لم تكن في المدرسة حينها ولا ابنه البكر أوليفر الذي نُقل إلى مدرسة رسمية أخرى.

 

المدرسة "تأسف"

في اليوم التالي، أصدرت المدرسة بياناً أسفت فيه لوقوع "الحادث الأليم" الذي أدى إلى وفاة زريق، مكذبةً المعلومات حول تهديده بطرد ابنته من المدرسة. وأشار البيان إلى إعفائه من الأقساط بين عامَي 2004 و2015 "نظراً إلى أوضاعه الاقتصادية". إلا أنها في المقابل، كانت وجهت إليه رسالةً تحضّه على الالتزام بدفع النفقات الأخرى كالنقليات والتسجيل عند بدء العام الدراسي. ,في لبنان، غالباً ما تقدم الكنائس المسيحية المساعدات المادية للتلاميذ في المدارس التابعة للمطرانيات. وأشارت مصادر مقربة من مطرانية الروم الأرثوذوكس في شمال لبنان إلى أن "زريق كان يتلقى المنح المدرسية كاملة من خلال رعية مار رأس مسقا".

روايات مختلفة

وأفاد أحد أهالي الطلاب الآخرين في تلك المدرسة، بأن "المدير استدعى الوالد للتكلم معه في شأن دفع بدلات المواصلات"، ونقل عن لسان المدير أنه "كان يأتي إلى مكتبي في الإدارة منذ ست سنوات ولم أعرف عنه سوى أنه رجل خلوق جداً، لكنني استغربت أن أخلاقه مذاك باتت توحي بالعكس"، مؤكداً أنه تحدث مع زريق في شأن "تسديد نفقات النقليات فقط وليس الأقساط، إذ إنه لم يسدد أي قسط مدرسي في السنوات الأربع الأخيرة". ونفى أحد أفراد عائلة القتيل ويدعى بسام حرب كلام مدير المدرسة، وقال إن "جورج ذهب ليتفاوض مع المدير لطلب وظيفة عمل في المدرسة كسائق للحافلات، إلا أنه رفض طلبه ومارس عليه ضغوطاً لإجباره على تسديد الأقساط، إلا أنه وفي لحظة غضب أشعل النار بنفسه في باحة المدرسة أمام الجميع". وتساءل حرب عن سبب ممارسة "هذه الضغوط كلها على هذا الرجل اليوم بعد أربع سنوات من إعفائه من سداد الأقساط؟ ولماذا لم يأخذ هذا المدير في الاعتبار أوضاع زريق المتردية إذ يعمل كسائق بالأجرة؟"، لافتاً إلى أن "سيارة زريق مستأجرة وهو كبقية السائقين في الشمال المعدومي الحال يحتفظون في سيارتهم بالمازوت المعبأ بالقناني البلاستيكية تحسباً لانقطاعهم من تلك المادة على الطريق". 

فتح تحقيق

من جهة أخرى، سارعت عائلة جورج إلى مطالبة الجهات المعنية والقضاء المختص بـ "فتح تحقيق في هذا الملف". وقال حرب: "مرجعنا الوحيد هو القضاء وننتظر إثره النتيجة. ليس في استطاعتنا أن نلوم الدولة فنحن نتجه نحو المجاعة والهلاك". في المقابل، سارع وزير التربية والتعليم العالي الجديد أكرم شهيب إلى تلبية الطلب "بفتح تحقيق"، موصياً بـ "التكفل بأولاد جورج زريق وتأمين المنح المدرسية التي يحتاجونها إلى حين تحصيل علمهم الجامعي". وأوضح مصدر تابع لوزارة التربية أن "الأشخاص الذين يريدون أن ينقلوا أبناءهم من مدرسة خاصة إلى رسمية، يمكنهم أن يطلبوا المساعدة مباشرة من الوزارة لتأمين الأوراق الأساسية في حال رفضت المدرسة إعطاءهم إياها".

تصعيد شعبي

وإذا عدنا إلى الأسابيع القليلة الماضية، دفع تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في لبنان إلى نزول آلاف المتظاهرين من كل المناطق للاعتصام في الشوارع ضد التقشف والحرمان. وقد تُعدّ اليوم وفاة زريق إلهاماً جديداً لانتفاضة شعبية، إذ إن بعض الناشطين ومن ضمنهم لجان أهالي المدارس الخاصة سيصعّدون اعتصامهم أمام وزارة التربية يوم الاثنين. ولفت الخبير الاقتصادي جوزيف فرح إلى أن "ما وصل إليه زريق سببه أولاً إقرار سلسلة الرتب والرواتب (لموظفي الدولة)، التي أدت إلى رفع الأقساط المدرسية لتغطية نفقاتها في مؤسسات القطاع الخاص"، مشيراً إلى أن "الوضع الاقتصادي في لبنان متراجع، خصوصاً في ظل التجاذبات السياسية وعدم تشكيل الحكومة لمدة تسعة أشهر. كما أن نسبة الفقر ارتفعت إلى 30 في المئة، أما نسبة البطالة والتي كانت عند 15 في المئة وصلت اليوم إلى 25 في المئة عموماً، وإلى 35 في المئة بين الشباب".

وأثّرت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في القطاع التربوي تحديداً، والسبب وفق فرح، عائد إلى "ارتفاع الكلفة"، لافتاً إلى أن "أكثرية الناس لا تزال حتى الآن تفضّل المدارس الخاصة على الرسمية نظراً إلى إمكانات الأخيرة الضعيفة". ورأى الخبير الاقتصادي اللبناني أنه "يجب على وزارة التربية أن تتدخل في هذا الموضوع، إذ لا يمكن أن يستمر القطاع التربوي على هذا المنوال، وعلى وزارة التربية أن تضع معايير ومقاييس مناسبة في موضوع الأقساط المدرسية وألا تكون متفاوتة جداً". ولفت فرح إلى أن "منطقة الشمال، تُعدّ الأكثر فقراً وحرماناً اليوم مقارنةً بكل المناطق اللبنانية، وتحديداً في طرابلس وعكار والكورة"، مشدداً على أهمية أن "يتحول اقتصادنا (في لبنان) من ريعي إلى منتج، بالتركيز على دعم القطاعات المنتجة (كالصناعة والتجارة) وليس فقط الاكتفاء بقطاع الخدمات، كالتجارة والسياحة وهي قطاعات مزاجية"، معتبراً أنه "عندما يبدأ الاستثمار والتركيز على القطاعات المنتجة، سيتحسن مستوى المعيشة ومعه القطاع التربوي".

"بوعزيزي لبنان"؟

وتفاعل ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي منذ الخميس الماضي، إضافة إلى شخصيات سياسية، مع الحدث، وأدانوا "المأساة"، ولقّب بعضهم الوالد بـ "شهيد الضرائب والغلاء المعيشي" و "بوعزيزي لبنان". وبعد مبادرة وزارة التربية، تحرّك وزير الدولة لشؤون التجارة الخارجية حسن مراد فأعلن التكفل بـ "إتمام الدراسة الجامعية لأولاد الضحية مجاناً". ووصل صدى هذه القضية إلى دول عربية حيث سارع النائب الكويتي خلف العنزي إلى التبرع بـ ١٠ آلاف دولار أميركي لعائلة زريق. أما عن الدعم الذي تلقاه أهالي الراحل، فقال قريبه حرب "الحمدلله الناس تتضامن وتلقينا اتصالات عدة من كل الجهات المعنية". أما عن صحة ما يتم تداوله عن معاناة جورج من أمراض عصبية ونفسية، فنفى حرب الإشاعات جملة وتفصيلاً. ولا شك في أن الوضع الاقتصادي في لبنان صعب جداً حالياً، فالأغلبية الساحقة من القطاعات شبه مشلولة، المؤسسات تقفل أبوابها وتصرف عمالها، الدورة الاقتصادية متوقفة. ونشهد حالات معاناة يومية تشبه حالة زريق، كحالة فادي رعد المضرِب عن الطعام منذ ١٠ أيام في طرابلس، وغيرهما.

 

وصرح النائب السابق عن منطقة الكورة، فادي كرم إلى "اندبندنت عربية" "نحاول كمسؤولين قدر المستطاع أن نؤمّن الحاجات الضرورية لهؤلاء المواطنين. اليوم جورج ضحّى بنفسه جراء الظروف الاقتصادية الصعبة، وهذه حال شريحة كبيرة من اللبنانيين ولا يمكننا أن نلوم قطاع التعليم فقط. علينا كمسؤولين أن نبحث عن حلول اقتصادية تمكّن المواطن من إعالة نفسه وعائلته". وأضاف "لدينا طلبات متنوعة يومياً، وأبرزها طلب الدخول إلى المستشفيات أو الحاجة إلى إجراء فحوصات طبية أو أدوية أو متابعة تعليم تلاميذ في المدارس والجامعات". ويُلفت النظر إلى أن الدولة تدعم التعليم الرسمي مرتين، إذ إنها في المرة الأولى، تُنشئ المدارس الرسمية وفي المرة الثانية تعطي منحاً مدرسية لموظفيها والمتعاقدين معها، الذين يعلم معظمهم أولاده في المدارس والجامعات الخاصة. وبذلك تسهم الدولة في شكل غير مباشر في خفض مستوى التعليم في المدارس الرسمية.

من جهة أخرى، تمنح الدولة اللبنانية تراخيص لكل الطوائف لإنشاء مدارسها الخاصة، إضافة إلى الترخيص لأشخاص من قطاع الأعمال لبناء مؤسسات تعليمية خاصة بهم.  وأشار الخبير الاقتصادي عصام شلهوب إلى وجود "حدين أدنيين في المجتمع اللبناني. الحد الأدنى للأجر الذي أعطته الدولة عبر إقرارها سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام، ما رفع الحد الأدنى للأجر في القطاع الخاص أيضاً، الأمر الذي تسبب بمشكلة رفع الأقساط المدرسية". وأضاف شلهوب أن "المدارس الخاصة استغلت هذا الكلام عن زيادة الأجر في المرحلة الأولى، فبادرت مباشرةً إلى زيادة أقساطها وبالتالي استغلت إقرار السلسلة أيضاً، إلا أن الأخيرة لم يستفد منها إلا موظفو القطاع العام الذي يستفيد في الوقت نفسه من المنح المدرسية".

ضرائب وتضخّم

وتابع "في الشق الثاني، أدى الغلاء الضريبي والتضخم إلى رفع كل الأسعار وبالتالي مستوى المعيشة، إذ لم يعد المواطن قادراً على سداد الأقساط كلها، التي ارتفعت أضعاف الحد الأدنى للأجور"، مشيراً إلى أن "ما حدث مع جورج زريق غير مستبعد أن يفقد فيه الإنسان كل أمل في الحياة. هذا الوضع أدى إلى حادثة مأسوية وسيؤدي مستقبلاً إلى مآسٍ أخرى. لن تقف عند زريق". وقال شلهوب "كثير من اللبنانيين لا يستطيعون تسجيل أولادهم في المدارس الخاصة، التي فقدت مستواها لأن المعلمين التابعين للمدرسة الرسمية، هم ذاتهم يعلمون في المدارس الخاصة. لا نفهم هذه الازدواجية الموجودة عند القطاع العام، إذ يسمح لأساتذته بالتعليم في القطاع الخاص ولا يرفع نسبة التعليم أو مستوى التعليم فيه".

ويتخبط لبنان بأزمات عدة، تفرض على المسؤولين تداركها والعمل على وضع "خريطة طريق" إنقاذية، تعيد إلى الناس أبسط حقوقهم وثقتهم بالدولة. فالتعليم هو أحد حقوق الإنسان الأساسية وبداية لحل مشكلة الفقر المنتشر في كل المناطق اللبنانية. وبعد تشبيه هذه الحادثة بشرارة الثورة التونسية محمد بوعزيزي الذي أحرق نفسه من أجل "لقمة العيش"، يبقى التساؤل حول ما إذا كان موته سيشرّع الأبواب أمام اندلاع ثورة اجتماعية في بلد ظل حتى تاريخه، بمنأىً عن موجة الانتفاضات العربية.

المزيد من تحقيقات ومطولات