تقدم مسرحية "المعلقتان" نصاً أول لكاتب شاب هو حسن مخزوم وتجربة أولى للمخرجة الشابة لينا عسيران مع ممثلتين شابتين هما يارا زخور وسارة عبدو يرافقهما ممثل شاب هو طوني فرح. عمل شبابي بأمتياز، لكنه لم يخل بتاتاً من روح احترافية عالية سواء في الكتابة أو الإخراج والتمثيل، وفي طرح أسئلة تعني الإنسان المعاصر وشؤونه اليومية والوجودية، وتعني أيضاً اللعبة المسرحية نفسها وإشكالاتها.
ليست المرة الأولى حتماً يتطرق فيها كاتب ومخرجة إلى فكرة "المصعد"، فالكاتب والمخرج اللبناني ربيع مروة قدم عام 1993 عرضاً مسرحياً من كتابته وإخراجه بعنوان "الأسانسور" وشارك في أدائه أربعة ممثلين هم لينا صانع وفادي أبو سمرا ومنى سعيدون ونعمة نعمة، وكان العرض حينذاك أشبه بحدث مسرحي واجتماعي لارتباطه ظاهراً بأزمة انقطاع التيار الكهربائي وندرة "الموتورات" الكهربائية. وقد وضع مروة الممثلين الأربعة في مصعد ضيق يشبه السجن الصغير فراحوا يؤدون أدوارهم ملتصقين بعضاً ببعض تعبيراً عن حال الحصار بل الاختناق الفردي والعام. طبعاً لم يتسن للفريق المسرحي الشاب أن يشاهد هذا العرض، فأفراده جميعاً كانواً صغاراً، وهذا أصلاً ما يؤكده العرض نفسه الذي شاء الكاتب مخزوم ثم المخرجة عسيران، كسر فكرة حصر الممثلتين داخل قفص المصعد في بعض المشاهد، فحرراهما منه مجازاً وسمحا لهما بالخروح في لحظات معينة ومقصودة. وهذه جيدة تؤكد ضرورة التخييل في العمل المسرحي. فالمصعد الضيق يمكن أن يكون فسحة واسعة للّعب إذا شاء المخرج أن يمضي في لعبة التوهيم المسرحي، جاعلاً الممثلين يعيشون حال الضيق نفسياً وجسدياً. وفي دورة سابقة من مهرجان "أفينيون" قدم المخرج أندريه فورنيه مسرحية بعنوان "الأسانسور" أيضاً وسجن رجلاً وامرأة في القفص ليؤديا في داخله دور الأب والابنة. والنص البديع كتبه جان بيار رووس بعمق وتوتر وجمالية، وصدر عن دار "مي مو" وأعتقد أنه يحتاج إلى أن يترجم إلى العربية نظراً الى بعده الإنساني والوجودي.
مصعد خاص
نجح "الفريق" اللبناني الشاب في خلق "مصعده" الخاص الذي لا يشبه "المصاعد" الأخرى (حتى في السينما) وبرزت حال من التناسق أو التناغم بين أفراد الفريق كتابة وإخراجاً وتمثيلاً. كأنها لعبة واحدة يتشارك الجميع في أدائها والتواطؤ داخلها. فتاتان ينقطع بهما المصعد في بناية، واحدة منهما ممثلة تكون على موعد لإجراء "كاستينغ" لدور تؤديه في مسرحية عن شاعرة منتحرة، والثانية تبدو أشد عبثية فهي "عالقة" منذ فترة لا تحددها. هنا تبرز هوية النص الموزع بين نزعتين، واقعية وفانتازية، تحيط بهما حال عبثية ذات منحى "طبيعي" (ناتوراليست). النص ليس واقعياً تماماً، حتى الشخصيتان ليستا واقعيتين تماماً، وقد أراد الكاتب والمخرجة أن يجعلاهما "معلقتين" بين الفعل واللافعل، وهذا ما جعلهما تفتقران إلى بعض الملامح المحددة التي ترسخ ما يسمى "الكاراكتير". لكنهما ليستا شخصيتين "كلاميتين" بحسب عبثية صموئيل بيكيت وأوجين يونسكو، إنهما شخصيتان تتداعيان، تبوحان، تعترفان، تتألمان، تشكوان وتسخران سخرية عبثية تكاد تكون سوداء. ربما كان في مقدور الكاتب أن يجذب هاتين الشخصيتين إلى مزيد من الواقعية التي تسمح لهما بالتعبير عن واقع لبناني سياسي واجتماعي ووجودي مأزوم، لكنه آثر أن يغرقهما في سيل من الحوار والمونولوغ (القصير والمتقطع) الذاتيين، الوجدانيين والوجوديين. حتى الدور الذي كان يفترض أن تتمرن عليه الممثلة القديرة يارا زخور، يتطرق إلى شاعرة غربية منتحرة، فهي تسمي ضمن من تسمي الشاعرة الأميركية سيلفيا بلاث أو الإرجنتينية اليخاندرا بيثارنيك. وعندما تلقي شعراً قالت إنها حفظته، فهي تغرق في نصوص انشائية ضبابية، وكان في مقدور الكاتب أن يجعلها تؤدي قصائد للشاعرة المنتحرة. لقد وقع النص في أجزاء منه في ما يشبه المجانية لا سيما في المونولوغات الشعرية، وليت الكاتب مرر هنا بعضاً من المشاهد التي تتمرن الممثلة عليها.
شخصيتان متناقضتان أو شبه متناقضتين، تتواجهان في هذه الفسحة الضيقة، تختلفان واحدتهما عن الأخرى، يارا تعاني فوبيا الأماكن المغلقة والمرتفعات وسواهما، لكنها تميل إلى أن تكون واقعية، فهي تعي أنها "علقت" في المصعد المعطل عندما كانت تقصد الشقة التي تتمرن فيها، أما سارة فأشد فانتازية وعبثية، تعاني رهاب التين وعلامات التعجب وفوبيا البشر. وتتظاهر أنها لا تبالي بحياتها ولا ، وتؤثر المزاح والسخرية حتى في لحظات الخطر، عندما تحدث ضوضاء أو يرتفع أزيز العجلات أو في لحظات فقدان الجاذبية التي تجعل الممثلتين "معلقتين" فعلاً في الفراغ، وهو فراغ نمكاني مثلما هو فراغ نفسي ووجودي عبر عنه النص بوضوح. اللافت جداً أن الممثلتين تتواطآن كل التواطؤ في اللعبة، تعطي الواحدة الأخرى مقدار ما تأخذ منها، تتقاسمان الخوف والسخرية حتى من الذات، تتبادلان الأدوار والمواقع داخل هذا الحيز المكاني الضيق الذي نجحت المخرجة كثيراً في توظيفه بين أعلى المصعد وأسفله، الأعلى أشبه بنافذة ولو أنها تطل على العتمة، ومنها يطل أحياناً الممثل طوني فرح الذي أدى بنجاح دور العامل التقني. ونجحت المخرجة أيضاً في "زحزحة" المصعد وقلبه ليتحول إلى وظائف أخرى وأجملها ربما عندما يبدو مثل زنزانة تطل الممثلتان من وراء قضبانها. وهذا ما أغنى الناحية السينوغرافية القائمة أصلاً على عناصر فقيرة يتمثل معظمها في قفص المصعد. ودفعت المخرجة الممثلتين خارج القفص لتغنيا وترقصا ولتلقي إحداهما الشعر أو لتعزف الثانية على الغيتار. وكم بدت جميلة فعلاً لوحة الرقص شبه المرتجل وهي منحت العرض بعداً مشهدياً . وبدت موسيقى علي صبّاح المرافقة للعرض كأنها نابعة من المواقف وليست طارئة على الجو.
قدم فريق "المعلقتان" عرضاً جميلاً، محترفاً على الرغم من شبابيته، ومفعماً بأسئلة شبه فلسفية تطاول الإنسان والوجود والموت والعزلة في صيغة بسيطة وغير معقدة. ولم يتوان العرض أيضاً عن مساءلة الفن المسرحي نفسه، كتابة وإخراجاً وتمثيلاً، بحثاً عن مشهدية ودراماتورجية مختلفة، تحمل هموم الفنانين الشباب. ويعرّف العرض الجمهور على ممثلتين قديرتين، يارا زخور وسارة عبدو، وهما من متخرجتان أكاديمياً مثل المخرجة لينا عسيران، وكان الجمهور شاهد يارا في دور رائع نافست به ممثلات مهرجان بيروت للمسرح ، في مسرحية "البحر يموت أيضاً" المستوحاة من نصوص الكاتب الإسباني لوركا، أعدها وأخرجها المسرحي أنطوان الأشقر. هنا توظف يارا وسارة ، جسديهما وتعابيرهما في حركة درامية متعددة الإيقاعات، بين توتر وانفعال ولهو عبثي وهدوء هو هدوء ما قبل العاصفة.
قدم العرض في مسرح الجيب – مونو وهو مسرح صغير يتسع لثلاثين شخصاً.