ملخص
تنضمّ بروكسل هذا الشتاء إلى المدن العالميّة التي تحتفي بكبار المبدعين عبر التجارب الغامرة، مع افتتاح معرض "جبران خليل جبران: التجربة الغامرة للحب" The Immersive Experience of Love، الذي يضع جبران (1883- 1931) في مصافّ كبار الرسّامين والشعراء الذين خُصِّص لهم هذا النوع الرفيع من العروض الفنيّة.
هذه التجربة الاستثنائية، التي فتحت أبوابها للجمهور في السادس من ديسمبر (كانون الأول) في قصر المعارض في بروكسل Palais 2- Bruxelles Expo، تستند إلى مسيرة جبران الغنيّة مستحضرة لوحاته ورسوماته وقصائده وأفكاره وهي مسيرة متوّجة بالحب. من رسوم كتاب "النبيّ" والروح الهائمة لماري هاسكل إلى لوحات بورتريه لنساء تركن أثراً على حياته، من بينها وجه"شارلوت تيلر هي واحدة من أشهر لوحات جبران خليل جبران، رسمها عام 1911 بعد دراسته في باريس، وهي بورتريه لامرأة كانت نموذجاً له وربما كانت ملهمته، وتُظهر شغفه بالرسم والتعبير عن الجمال. وتُعد من الأعمال المميزة لجبران التي اكتشفت أخيراً وتظهر أسلوبه الرومانسي.
تكتسب أفكار صاحب تحفة "النبيّ" بُعداً جديداً، في معرضٍ غامرٍ يقع عند تقاطع الفنّ والروحانيّة. وهو من إعداد المبدع الإيطالي ماسيميليانو سيكّاردي وفريقه وعلى رأسهم لوكا لونغوباردي، بالتعاون مع شركة الإنتاج Belstein ولجنة جبران الوطنيّة. ويخوض الزوّار غوصاً ضوئياً في عالم الشاعر والرسّام الذي ألهم جون لينون، وإلفيس بريسلي، وديفيد بوي، وستيف جوبز، وغيرهم من الأيقونات. هذه التجربة الثلاثية الأبعاد التي تمتد لـ35 دقيقة، تُعدّ الأولى من نوعها عالمياً، إذ إنها تجمع للمرة الأولى بين "جبران الرسّام" و"جبران الكاتب والمفكّر"، في رحلة عبر الحبّ والشِعر والفنّ، وقّعها بجمالية آسرة سيكّاردي وهو مخرج Van Gogh Immersive، إحدى أهم التجارب الغامرة في العالم.
بين الفنّ والضوء والروحانيّة
"جبران خليل جبران: التجربة الغامرة للحب"، معرض شعريّ وحسّي يعيد إحياء لوحات الفنان اللبناني وكتاباته الخالدة. في اعتراف مستحق لموهبة رجلٍ فريد ومتعدّد الأبعاد ساهم في تطوير الفنون والآداب وحمل إلى العالم، في فكره وكتاباته، رسالة محبة وحوار وتسامح وسلام. يتنقّل الزوّار بين ثيمات الحبّ والحقيقة والحميميّة، حيث تتجلّى رؤية جبران للروح الإنسانيّة والجمال بوصفهما مساراً يقود من العتمة إلى النور.
ينهض عالم جبران من جديد عبر الموسيقى واللون والفضاء المحيط، فلوحاته تنبض بالحياة المستمدّة من طبيعة مسقط رأسه "بشريّ" بصخورها وضبابها، فيما تتردّد قصائده لتحتضن الزائر في أجواء رقيقة وحالمة، فتتحوّل كلّ قاعة إلى فضاءٍ للاكتشاف، حيث يلتقي الخيال بالعاطفة. في هذا التركيب الفنّي، يدخل الزائر فضاءً هادئاً يكاد يكون معلّقاً خارج الزمن. تتحوّل لوحات جبران خليل جبران إلى إسقاطات بزاوية 360°، تغمر المكان بألوان نابضة وصور حية، تترافق مع اقتباسات مُلهِمة من قصائده وكتاباته حول الحبّ، والإيمان، والحريّة، والألفة، هنا تتقاطع فلسفة جبران ومُثله الجماليّة مع كتابات الفيلسوف الفلمنكي موريس ماترلينك، الذي أثّر في فكره وأغناه. إنها تجربة قادرة على استمالة عشّاق الفنّ ومحبي العوالم الغامرة وقرّاء "النبي" على حدّ سواء؛ تجربة إنسانيّة كونيّة تُعاش في بروكسل، وتشكّل انتصاراً لفنّ جبران.
روح الكائن في الطبيعة
لعلّ جزءاً من أسطورة جبران ــ الفنان ــ أنّ فنه لم يحظَ بالإجماع، لا في حياته ولا بعد رحيله. فقد رآه بعض النقّاد نابغة لبنان، فيما انتقده آخرون متّهمين نتاجه الفني بالبقاء أسير الفكرة على حساب الشكل، وبأن أعماله ليست سوى وسيلة إيضاح بصري لما تقوله العبارة الأدبيّة، من دون قيمة جماليّة مستقلّة. وربّما لا نجد جواباً أدقّ على هذا الجدل سوى في كلام جبران نفسه: "يقول بعض الناس أشياء معقّدة حول ما أرسم. كتب ناقد أميركي عن كتابٍ يضمّ عدداً كبيراً من رسوماتي، معتبراً أنّ المعاني التي عبّرتُ عنها مقصودة. لكنني لم أفعل ذلك عمداً. فعندما أنجز عملاً جميلاً بعض الشيء، لا أدركه فوراً، وبعد ثلاث أو أربع ساعات من الانتهاء لا أستطيع أن أقول شيئاً عن موضوع اللوحة. وهذا ما لا يحدث لي في الكتابة، إذ أعرف تماماً ما أقول، بينما لا أعرف ماذا أرسم أو ألوّن. وحين أقرأ كلّ هذه التحليلات، أشعر وكأنني كنت أغش".
جبران رسّام رؤيوي بنى ذاته بالسعي والعمل الدؤوب، مؤسِّساً نهجاً خاصّاً يقوم على تأمّلٍ روحانيّ في الإنسان بوصفه محور الكون. عبّر في لوحاته عن تحرّره وهواجسه ورغباته وسعيه إلى المطلق، فبدت أعماله مشبعةً بنورٍ داخليّ يلامس عالم اللامنظور، على نحوٍ يوازي ما تزخر به نصوصه من رموز واستعارات. وبصفته أحد روّاد نهضة الأدب العربي، وبفضل كتاباته بالعربية والإنجليزية، اعتُبر مرشداً روحياً ساحراً تمكن من الكشف عن أسرار الحب والحرية والحياة والموت.
كانت فرشاة جبران صولجانه بعد قلمه؛ أدرك قوّتها الكامنة، فانصرف إلى العزلة بوصفها شرطاً للتأمّل والغوص في الأعماق. ارتبط فنه بالطبيعة وبراءة النفس ومثاليّة الوجود الإلهي. في صومعته، كان يحنّ إلى الأبعاد العلويّة، وهو حنينٌ تغذّى من تراث أسرته الروحيّ ومن مناخات أرضه الجبليّة، حيث الصوامع والأديرة، وحيث تناقلت الأجيال حكايات الأسلاف الباحثين عن العزلة والصلاة في الجرود البعيدة.
الملامح التي أسست للرمزية في فن جبران
يلتقي في فن جبران الخيال الرومنسي والمفهوم الرمزي مع المثال النهضوي الكلاسيكي. لعله من هنا تكتسب تجربته فرادتها واستثنائيتها وإشكالياتها في آن. تأكدت ميوله الفنية وتبلورت بعد سنوات قليلة من إقامته في بوسطن، حيث عرض للمرة الأولى عام 1904، مجموعة من أعماله في محترف المصوّر فريد هولند داي، فعكست رسومه الفحمية مدى حساسيته لجمالية لغة الأسود والأبيض في طبقات الظل والنور الكامنة في الصورة الفوتوغرافية. وقد وصفتها جوزفين بيبودي بأنها حملت: "مزاجاً شعرياً وخيالاً مشرقياً"- مما يشير إلى أن جبران كان منذ بدايته يميل إلى الرؤية الرمزية الحاملة مسحة روحانية عميقة متصلة بإيمانه المسيحي.
لكن ثمة عوامل أسهمت منذ البداية في التكوين الفني لجبران واختياراته لموضوعاته، جاءت من طائفة الرسوم التي زيّن بها جبران الكتب والدواوين الشعرية وعكست معرفته بالقياسات اليونانية ونسبها والجمال المثالي الكلاسيكي ومن اطلاعه على الأدب الإنجليزي وتصاوير الكتب الأدبية. فقد أعجب بأعمال وليم بليك W.Blake (1757- 1827)، كشاعر ورؤيوي ورسام ونحات، وتأثر بأفكاره وضبابية خيالاته ذات الينابيع الروحانية وتلافيف الحركة اللولبية في رسومه. يقول عنه جبران لميخائيل نعيمة: "جاءني بليك ليؤنس غربتي كنت أظنني تائهاً وها بليك يمشي أمامي وسأكون سعيداً عندما يقول الناس في ما قالوه في بليك. هو مجنون. الجنون في الفن إبداع". ولئن تأثر جبران ببليك غير أنه احتفظ بذاتيته، حتى رأت فيهما بربارة يونغ شاعرين مختلفين كل الاختلاف قولها: "وبينما صوّر بليك ملائكة وقديسين وشياطين خرافات وأساطير. عاش جبران مع كائنات نورانية تسبح في عالم من الكمال نقية خالصة".
تأثر جبران أيضاً بالميتولوجيات والكتب السماوية وتوقف عند نشأة الكون من مادة هلامية، وربما منها أتت إليه فكرة الضباب الذي يرمز الى اللاشكل الذي يتبلور وينعقد بواسطة القدرة الكلية أو الذات الكبرى. وبفضل مجتمع بوسطن، اطلع جبران على نظريات أفلاطون وتعرف إلى نخبة من الشعراء الثائرين فتعاطف مع أفكار إمرسون فيلسوف التعالي ورسول الطبيعة الذي حذّر من التعبد للماديات ودعا إلى تنقية النفس من الشهوانية لتصفو فتتحد بالله. وكانت هذه الفلسفات، لا سيما البرهمية والكونفوشية والزاردشتية، تنتشر في بوسطن منذ أواسط القرن التاسع عشر. تعزز مساره الفني بوجود ماري هاسكل ملهمة حياته وفنه، التي شجعته للسفر إلى باريس (1908) حيث تأثر برودان وكبار الفنانين الرمزيين خصوصاً بوفي دوشافان. قد نجد ملامح هذا التأثر غير الواعي ربما بأعمال شافان في الألوان المخفّفة المتقشفة للترابي الصلصالي والأزرق السماوي وفي التسطيح الذي يستبعد إظهار الأحجام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اكتشف جبران في مرحلته الباريسية أعمال أوجين كاريير E.Carrière، وما تنطوي عليه موضوعات الأمومة من لغز وعاطفة وضياء وضبابية في آن. فقد اعتبرها بأنها الأقرب إلى قلبه- كما كتب لماري هاسكل في رسالة يقول فيها: "شخصياته سواء كانت جالسة أم واقفة وراء الضباب، هي أكثر مخاطبة لي من أعمال أي فنان سواه، باستثناء ليوناردو دافنشي. لقد فهم كاريير لغة الوجوه والأيدي أكثر مما فهمها سواه من الرسامين. لقد فهم الشخصية الإنسانية في عمقها، وحياته لا تقل جمالاً عن منجزاته. فقد تألم كثيراً وعرف سحر الألم. لقد فهم أن الدموع تكسب كل شيء لمعاناً".
طهارة الجسد
أراد جبران أن ينتزع أشخاصه من التراب، فأحاطهم بهالةٍ غائمة تُذكّر بسماء لبنان النقيّة، حيث تتآلف الأشكال والأنوار تآلفاً عجيباً. تكاد الأجساد تنمحي تحت وطأة الحنان، رخوةً وناعمة، لا تستقرّ على الأرض بل تبدو كأنّها تتّحد بالغمام. مزج جبران بين طهارة الجسد والعُري، فجرّد القامات العارية من مادّيتها وغرائزها، وأبقى على نزوعها العاطفي وتأمّلاتها وعذاباتها. تتحرّك الأجساد في عالمٍ منزوع الجاذبيّة، على خلفيّات طبيعيّة تتحوّل إلى كتلٍ حيّة من الأجساد بدل الصخور الصمّاء، فيما تتعاقب سلالات البشر في حلقاتٍ كونيّة تدور حول اليد المجنّحة أو تهبط كشلالٍ إلى الأعماق. يقول جبران: "غالباً ما أرسم الأجساد عارية لأنّ الحياة نفسها عارية… أرى في الجبل كائناً حيّاً، وفي انحدار المياه حياةً تتدفّق. لا نستطيع أن نعلّم الناس طهارة العُري؛ عليهم أن يكتشفوها بأنفسهم".
كانت الطبيعة في فنّ جبران موضع تجلّي الرؤى ومنبع الأشكال، غير أنّها تتجاوز الوصف البصري لتقترب من المثال، مزيجاً من الواقع وأجنحة الخيال. لذلك جاءت مشبعة برمزيّة ميتافيزيقيّة، وباختيارات لونيّة محدودة تدور في فلك ثالوث الأرض والسماء والماء. وإذا كان المشهد الطبيعي يحتلّ مرتبةً ثانية بوصفه خلفيّة للحضور الإنساني، فإنّه يفتح البصيرة على طبيعةٍ بشريّة بقممها وسفوحها وسواقيها وغيومها الشاردة، حيث تتجلّى الصلة بين السماويّ المقدّس والترابيّ الفاني، وما يعرج بينهما من ترانيم وصلوات. في هذه الطبيعة، وجد جبران موئلاً لوجوهه الهائمة، ومنها استعاد قيثارة طفولته الضائعة بين وادي قاديشا المقدّس وحفافي قنّوبين.
هل أراد جبران أن تحتفظ لوحته دائماً بسرّها وغموضها؟ لذا لم يُعنون لوحاته ولم يؤرّخها، قائلاً: "الرؤى لا تُعنون". وهكذا، في جمعه الرؤى بالبناء الباطني عبر الشكل، ترسّخت فرادة أسلوبه الجبراني، سواء وقّع لوحاته أم لم يفعل. وحين سُئل: "لِمَ لا توقّع أعمالك؟" أجاب: "ستُعرف أنّها لجبران بعد أن يطول رقادي في الأرض الطيّبة السمراء تحت الأرز".