Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هنري زغيب يتحذلق في ترجمة "النبي" متجاهلا جبران

تغليب الشخصي وإهمال الترجمات السابقة وحكم على النص الأصل بالقدم واستخدام تراكيب مستهجنة

الطبعة الأميركية الأولى من كتاب "النبي" 1923 (متحف جبران)

ملخص

تغليب الشخصي وإهمال الترجمات السابقة وحكم على النص الأصل بالقدم واستخدام تراكيب مستهجنة

يقول الشاعر البريطاني تي إس إليوت إن على كل نص مترجم أن تعاد ترجمته بعد عشر سنين، فالترجمة بنظره، تحتاج إلى أن تتجدد وأن تنفتح على اقتراحات أخرى. قد تكون السنون العشر هذه، قصيرة إذا ما قيست بـ"عمر" الترجمة نفسها، التي يمكنها أن تصمد لأعوام مزيدة. لكن المبدأ حقيقي ومصيب، وقد أخذ به الغرب الذي تتجدد فيه الترجمات على مر العقود.

قد تكون مقولة إليوت صاحب "الأرض الخراب" مدخلاً لقراءة الترجمة الأحدث لكتاب جبران خليل جبران "النبي" الذي يُحتفى هذه السنة بالذكرى المئوية لصدوره بالإنجليزية عام 1923 في أميركا، وقد أنجزها الشاعر والإعلامي هنري زغيب وصدرت في طبعة فاخرة عن مركز التراث اللبناني التابع للجامعة اللبنانية الأميركية. وأُعلن أخيراً أن ترجمة جديدة أيضاً لـ"النبي" صدرت في بريطانيا، قام بها الكاتب وأستاذ اللغة الإنجليزية السوري جميل العابد، المقيم في بريطانيا. وكان الناقد الأكاديمي اللبناني نديم نعيمة قد ترجم "النبي" ضمن الاعمال الجبرانية الكاملة بالإنجليزية (دار نوفل). وواضح أن ترجمات هذا الكتاب إلى العربية باتت تتوالى، بعضها يخرج إلى العلانية وبعضها يظل شبه مجهول، ومنها ما يشكل مفاجأة، إيجابية أو سلبية.

ترى في أي منزلة تقع ترجمة زغيب الجديدة؟ هل استطاع أن يأتي بجديد في هذا القبيل، لا سيما أن كتّاباً  كباراً تصدوا لهذا النص ترجمةً وتقديماً؟

ضرورة التخصص

يتحدث زغيب في المقدمة، وكأنه يلمح إلى نفسه، عن "المترجم المتمكن من لغته الأم ومن لغة النص الأصلي"، وهذا مصيب مبدئياً، بخاصة أن على من يترجم "النبي" يجب أن يكون متخصصاً في الأدب واللغة الإنجليزيين، ومتضلعاً من العربية، ومن فن ترجمة هذا النوع من الأدب المكتوب بلغة غير اللغة الأم، فجبران كاتب أنغلوفوني وليس أميركياً. أما التضلع من الإنجليزية فهو غير التحدث أوالتدبر بها، ويفترض تخصصاً أكاديمياً، في اللغة والأدب الإنجليزيين، وهذا ما يفتقد إليه الشاعر زغيب المتخصص في الأدب العربي.

اللافت أولاً في الكتاب أن زغيب شاء توصيف ترجمته بـ"الصوغ"، وأورد على الغلاف هذه الجملة "صاغه بالعربية وقدم له". وهذا "توصيف" لم يسبقه إليه أحد، حتى كبار الشعراء في العالم لم يتعمدوا هذه "الحيلة" في ترجماتهم، ومنهم الشاعر الفرنسي الكبير ستيفان مالارمه المعروف بـ"فن الصوغ"، فهو اعتمد مفردة "ترجمة" عندما نقل قصائد الشاعر الأميركي ادغار الن بو إلى الفرنسية منجزاً عملاً إبداعياً فريداً، والأمثلة كثيرة. وبحسب مبادئ علم الترجمة، ليس من ترجمة منفصلة عن فعل صوغها، فالمترجم يترجم ويصوغ لحظة الترجمة أو بعد الانتهاء منها. في هذا الصدد يقول الشاعر والأكاديمي الفرنسي هنري ميشونيك، مترجم الأسفار الأدبية في "التوراة": "لا نترجم لغة بل نصاً. وإذا نسينا فسرعان ما يظهر هذا النسيان". ويتحدث أيضاً عن "وزن الروح" في الترجمة. أما العلامة الإيطالي أمبريتو إيكو فيقول: "الترجمة هي قول الشيء نفسه، تقريباً". ولعل في هذه الـ"تقريباً" يكمن السر.

ربما قصد هنري زغيب بهذا "التوصيف" المستغرب، أنه أفاد من ترجمات سابقة لـ"النبي" فصاغ ترجمته انطلاقاً منها، آخذاً من هنا وهناك، ومقارناً ما بين الصيغ و"الاقتراحات" والتراكيب، ليخلص إلى صيغته، مع الاتكاء على النص الإنجليزي. لكنه لم يول احتراماً، لجهود المترجمين السابقين فوصف ترجماتهم بـ"السابقة"، وكأنه يتجاهلهم عمداً، بخاصة أن بينهم أساتذة كباراً لا يمكن أن يُقارن هو بهم، وفي مقدمهم الأديب ميخائيل نعيمة والشاعر يوسف الخال، مترجم التوراة الحديثة، والعلامة الأب يوحنا قمير الذي، برأيي المتواضع، أنجز إحدى أجمل ترجمة لـ"النبي" بالعربية وقد أصدرها مرفقة بمقدمات وشروح، وبترجمته البديعة  لـ"زارادشت" نيتشه، ولو عن الفرنسية. وبرأي قمير أن ترجمة "النبي" يجب أن تستفيد من كتاب "زارادشت" الذي نسج جبران على منواله الأسلوبي فقط، لا الرؤيوي ولا الفلسفي.

تجاهل الترجمات السابقة

تجاهل زغيب هؤلاء وكأنهم لم يوجدوا، وهذا يخالف أخلاقيات الترجمة، التي قال بها المترجم الكبير القديس جيروم، شفيع المترجمين. والمفاجئ أن زغيب بينما تناسى هؤلاء الأساتذة، تذكر جمعاً من الأكاديميين الذين استعان بهم في ترجمته، فقرأ بعضُهم ترجمته قبل صدورها بأناة وقارنها بالأصل، وبعضهم أنقذه، كما يقول في كلمة الشكر في المقدمة، "من هفوات كتابية وأخطاء لغوية شائعة"، وأحدهم هو الأكاديمي المقيم في أميركا، عدنان حيدر، الذي كما يقول زغيب، "حدب على الترجمة جملة جملة، مقارناً إياها بالأصل الإنجليزي بدقة دؤوب". وقد أمضى معه زغيب "ساعات ليلية طويلة ممضة، هاتفياً، بين لبنان وأميركا". ولجأ أيضاً إلى صديق في فرنسا كي يقارن بين ترجمته وبعض الترجمات الفرنسية. ولعل المخافة الكبرى هنا أن تكون "كثرة الطباخين قد أحرقت الطبخة"، بحسب المثل الشعبي. ترى هل تحتاج ترجمة كاتب متمكن من اللغتين إلى مثل الاستشارات الممضة؟ والمستغرب، أن زغيب لم يلجأ مثلاً إلى عمل الأكاديمية والمترجمة نجوى نصر التي أنجزت كتاباً علمياً مهماً، قارنت فيه مقارنة لغوية وألسنية وسيميولوجية بين مقاطع من أبرز ترجمات "النبي" إلى العربية، وكتابها هذا مرجع في الترجمة الجبرانية.

 يحدد زغيب في المقدمة طريقة عمله في الترجمة، فيحصرها في مراحل ثلاث: الأولى ترجمة المعنى في نقل أمين لمضمون النص وليس لشكله ولا لأسلوبه. هنا يفرّق زغيب على طريقة النقد التقليدي، بين المعنى أو المضمون، والشكل والأسلوب، متجاوزاً معطيات النقد الحديث الذي ألغى الحاجز بين المضون والشكل، جاعلاً منهما وحدة عضوية، فلا تتم مقاربة الشكل على حدة والمضمون على حدة، بل معاً. وقد قال الشاعر الكبير بول فاليري: "إن الشكل ليس سوى المضمون وقد تصفّى". هل يمكن فعلاً ترجمة المضمون منفصلاً عن الشكل الذي تجلى، أو تجسد فيه؟ هل يمكن ترجمة المدلول منفصلاً عن الدال، إذا استعرنا العبارة الألسنية؟

اختراع قديم

المرحلة الثانية لدى زغيب، هي اللجوء إلى "معنى المعنى" و"اختراق حجب الكلمات" بغية بلوغ مدلولها الداخلي وعمقها الأخير، خدمة لأفكار نص جبران وليس للغته. وهنا يبدو زغيب كأنه يتبجح بمقولة "معنى المعنى" كما لو أنه اخترعها أو اكتشفها، وهو أخذها في معناها الحديث، على الأرجح، عن الناقد الأكاديمي عدنان حيدر، الملم بها والذي توسع في الكلام عنها في مشاركته في الندوات الجبرانية، التي أقامتها الجامعة احتفالاً بمئوية "النبي". وأشار زغيب في هوامش الترجمة إلى كتاب بالإنجليزية عنوانه "معنى المعنى" يبدو بوضوح تام أنه لم يحصل عليه ولم يقرأه البتة، فهو اجتزأ عنوانه الأصلي الذي يضيف "دراسة عن تأثير اللغة في الفكر وعلم الرموز". والكتاب موجه للطلاب في مجالات علم اللغة والفلسفة والعلوم المعرفية وعلم الدلالات والسيميائية وصدر العام 1923 ثم طبع في الثمانينيات وترجمت منه فصول إلى الفرنسية. وارتكب خطأ أيضاً في نسب هذا الكتاب، الذي وضعه ناقدان معروفان، إلى مؤلف واحد هو الناقد آيفور آرمسترونغ ريتشاردز، حاذفاً اسم الناقد الآخر الذي أسهم في تأليفه وهو سي. كي. أوغدن.

 ويستشهد زغيب دعماً لمقولة "معنى المعنى" بما أورده في شأنها العلامة عبد القاهر الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز"، وقد فاته أن كل طلاب الأدب العربي توقفوا عندها وعند فكرتها، وهي تفيد بأن علم المعنى هو علم الدلالة المختص بدرس معاني الألفاظ والعبارات والتراكيب. ويبسط الجرجاني المقولة معتبراً أن الصورة الأدبية لا تخلو من "معاني المعاني"، ويمكن إدراكها من خلال المجاز كالكناية والاستعارة والتشبيه... مثل هذا التفسير يوضح أن زغيب لم يأت باختراع جديد وأن "معنى المعنى" لا يحتاج إلى مثل هذا التهليل الهادف إلى تفخيم عمله كمترجم.

أما المرحلة الثالثة فهو يدرجها في سياق "الصوغ" وما يسميه زغيب تنصيع اللغة والأسلوب، ويقول إنه في هذه المرحلة يغلق النص الأصلي ويعمل على نصه (أجل نصه) العربي "صقلاً وتنصيعاً". فالأسلوب بالعربية يعدّه من مسؤوليته، بل هو يتحدث عن "نصه العربي" منفصلاً عن النص الإنجليزي. وهنا لا تبقى الكلمات حروفاً أمامه "بل ملامس بيانو" يصوغ (هو) بها أنغاماً و"يزغردها"، بما "يفي جبران معناه ويرضي مبناي".

معنى ومبنى

إننا هنا إذاً أمام معنى لجبران ومبنى لهنري زغيب. هذا درس في العنجهة والخيلاء لم يسبق زغيب إليه أحد. بل إن كلامه عن أسلوبه بالعربية ينم عن جهل بمفهوم الأسلوب الذي هو الإنسان (كما قال بوفون في القرن الثامن عشر) والإنسان هنا هو جبران، والأسلوب يظل أسلوبه مهما انتقل النص إلى لغات أخرى. ويكفي أن نتذكر ما قاله غوستاف فلوبير: "الأسلوب يكمن تحت الكلمات أكثر مما هو جسدها". أجل الأسلوب هو الروح، روح النص وروح كاتبه. أما فعل "زغرد" فلا يدخل بتاتاً في معجم جبران، الكاتب الوجداني الوجودي الرؤيوي المتأمل الهادئ المصغي... الزغردة تشوه أسلوب جبران وتخرجه عن سياقه الروحاني وتحول نصه إلى جعجعة لفظية. وليس جبران البتة في هذا الصدد. بل هو يقول عن "النبي": "هذا الكتاب الصغير هو جزء من حشاشتي، فلم أدون فصلاً من فصوله إلا وشعرت بتغيير في أعماق روحي".

عمد هنري زغيب إلى الترجمة ضد جبران، وفي ظنه أنه يؤدي دوره الخاص ورسالته في حركة ترجمة "النبي". الصوغ والتنميق والزغردة ليست خصالاً جبرانية. كأن زغيباً غريب عن لغة جبران العربية، اللغة الأم التي كتب بها كتباً رائعة. بل هو يتغاضى عن خصال لغة جبران العربية التي فتحت أفقاً جديداً في الأدب العربي النهضوي، لا سيما في المقلب الثاني من النهضة. جدد جبران اللغة التي كانت أغرقت في الفصاحة والبلاغة والبيان والتقعير والكلفة، وجعلها لغة الحياة المتقدمة إلى الأمام. ونذكر جميعاً كيف وجه المحافظون والتقليديون سهامهم إلى جبران عندما استخدم فعل "تحممت بنور" بدل "استحممت"، في قصيدة "المواكب". وفي استخدام هذا الفعل أثبت جبران أن العربية يجب ألا تبقى أسيرة المعاجم القديمة، بل يجب أن تواكب العصر، ولكن انطلاقاً من خصائصها نفسها ومعاييرها وقواعدها. هذا التحديث لم يرض سدنة البلاغة والفصاحة والسبك والفن للفن، لكنه فتح الطريق أمام لغة العصر. حتى سعيد عقل عارض لغة جبران لخلوها من اللعب اللغوي والنحت والصنعة، فلم يكتب عنه سوى مقال قصير واحد في الثمانينيات من القرن المنصرم. ومرة سخر منه في إحدى إطلالاته التلفزيونية سائلاً إياه: "الغنا سر الوجود، يا جبران؟". وهذا شطر من قصيدة "المواكب"، وقد فات عقل أن ما يقصده جبران هنا هو المعرفة الأورفية التي يعود أصلها إلى أسطورة أورفيوس الشاعر الموسيقي الإغريقي، الذي فتن الآلهة بغنائه... وحكايته معروفة وقد كتب عنه جبران في كتاب "الموسيقى".

لغة سعيد عقل

استخدم هنري زغيب  في ترجمته بعض استخدامات سعيد عقل واشتقاقاته وألاعيبه اللفظية، وكرر استخدامها حتى بدت نافرة وغريبة عن أسلوب جبران، البعيد كل البعد عنها. ومنها المبالغة  في بتر الاسم الموصول إلى "أل": الكانت (التي كانت)، الجوفّتها (التي جوّفتها)، البومة العيناها، القمم اللاتبلغ، يا الوحدك، وهرع الجميع مستقبلينه، وسواها وسواها... ويبرر زغيب لجوءه إلى هذه الحيلة السعيد عقلية (وجدت طبعاً قبله) بـ"ترشيق الجملة وتخفيفها من الاسم الموصول"، مع أنه يعلم أن الأسماء الموصولة تملك في أحيان كثيرة وقعاً موسيقياً عذباً وطبيعياً. وبالغ زغيب أيضاً في لعبة "التأخير والتقديم" وفي اصطناعها وإفقادها حسنها: "تعليم القفزَ السلحفاةِ"، "وأنتم جالسون في ظلال الأبيض الحور اللطيفة"، "النبرة في صوتكم يخاطبُ أذن سماعه"، "تمسي ذكرياتٍ سنواتُك معنا"...

يقول زغيب: "أنقذت ترجمتي من تراكيب النص الأصلي (الجبراني) بإيقاعها العتيق"، ويضيف: "سكبت النص (الجبراني) في لغة رشيقة هي بنت عصري اليوم لا عصر جبران". ويحكم على لغة جبران بكونها "قديمة أو متحذلقة وذات أدوات واصطلاحات عتيقة بطل استعمالها". ولعل الشاعر زغيب نفسه يعلم تمام العلم أن لغة جبران لا علاقة لها البتة بـ"الحذلقة" أو ما يسمى بالفرنسية "بريسيوزيتي"، وكأنه يتحدث عن "خصوم" جبران رواد "الفن للفن" أو الصنعة اللغوية، وهم كثر ومنهم سعيد عقل الناثر... لا يصطنع جبران ولا يتكلف ولا يفتعل ولا "يتأنق" مجاناً، فهو سليل أدب الحياة والحكمة والتأمل في آن واحد، وهو الذي يفيض سلاسة وعذوبة طبيعية وانطباعية وغنائية... ويخطئ زغيب (ربما سهواً) في وصف معجم جبران اللغوي بـ"الباروكي"، جاهلاً أن الباروكية إنما هي مدرسة تعود إلى نهاية القرن السادس عشر ومنتصف السابع عشر، وقد تجلت في الأدب وفي الرسم والعمارة خصوصاً، ولها معاييرها ومواصفاتها، ومنها وفرة الأشكال والتنافر والتخييل والفانتازيا التي تواجه المدرسة الكلاسيكية. ومن روادها غيوم دو بارتاس وجان دو سبوند وأغريبا دوبينيه... ترى كيف يمكن إدراج أدب جبران في مثل هذه المدرسة التاريخية؟

يستخدم الشاعر زغيب في ترجمته "التحديثية" و"العصرية" تراكيب ومفردات ناجمة عن التحذلق والتنصيع والتلميع والتفصيح والشكلنة (ما عرف به سعيد عقل أيضاً)، وهي لا علاقة لها بالحداثة أدباً ولغة، ولا بجبران نفسه. ومن هذه التراكيب والمفردات: ينائيك، وما هي حتى، إطّلابك، مع ذا، يستاهل ومستاهلون (من دون همزة الألف)، تهاديا قلبيكما، تعذوذب، مزهوهرة، زرّاع، خيوط مسديّة، أفهمُكم أكثب، هذه الأعلاه، جندلتم، مرة إحدى... ولا أدري كيف فاتت زغيب الشغوف بالعربية، أخطاء ومنها: استخدامه الناصية بمعنى مقدم السفينة ومعروف أن الناصية هي مقدم الرأس ومقدم شعر الرأس، وناصية الشارع رأسه... ويستخدم فعل تساكب في صيغة الفعل المتعدي بينما هو لازم فيقول: "تساكبا الكأس ولا تشربا من الكأس ذاتها"، تساكب تعني في المعاجم: تساكبت دموعه وانسكبت وانصبت. ويستخدم أيضاً مصدر فعل ضاع (العطر) فعلاً متعدياً وهو لازم، كأن يقول: "كضوع الآسِ عطرَه في الوادي" (لو وضع كسرة بدلاً من الفتحة على عطره لكان يمكن عدها بدلاً)، استخدام "إحدى" بدلًا من واحدة، فيقول: "يزور المدينة مرة إحدى كل عام"، و"إحدى" كما يعلم زغيب هي من العدد المركب (إحدى عشرة سنة) ومذكرها "أحد" (أحد عشر عاماً) ويُسمح باستخدامها في مثل هذه الصيغة: "فلانة إحدى الأحد لا مثيل لها"...

استبدال عشوائي

يقترح هنري زغيب استخدام كلمة "حب" بدل كلمة "المحبة" في "النبي"، وهذا ما عمد إليه مترجمو الكتاب ما خلا الارشمندريت أنطونيوس بشير أول المترجمين وأقدمهم ("يتمرجل" عليه زغيب) وراجت شعبياً خصوصاً بعدما غنت فيروز هذا المقطع من الكتاب، فانطبعت الكلمة عبر صوتها في ذاكرة الناس، علماً أن المحبة هي مصدر (ميمي) أيضاً، وقد تختلف أو تأتلف مع الحب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي شأن كلمة الله الواردة كثيراً في "النبي" وفي معظم مؤلفات جبران، يستخدم زغيب في ما يشبه الاعتباط، كلمة الإله. ويبرر هذا الخيار في كون كلمة الله الصحيحة برأيه "ديناً ومعتقداً"، لا تنطبق "إلا على المؤمنين بأديان محددة ولا تشمل مَن عباداتُهم تناجي ألوهيات أخرى". فاستخدم كلمة الإله لـ"شموليتها في الإيمان والمعتقدات المختلفة"، وبرأيه أن جبران كان يقصد الإله في معنى الألوهة المطلق. لا أحتاج شخصياً أن أرد عليه في شأن هذه الكلمة، بصفتي قارئاً، مع أن جبران لم يكن ذا نزعة دينية إغريقية تقول بتعدد الآلهة، ولم يكن رومانياً ولا وثيناً، بل كان يميل إلى التيار الثيوزوفي الذي راج كثيراً في أميركا حينذاك، ومال أيضاً إلى الهندوسية. وكنت أتمنى لو قرأ زغيب بعض الكتب والدراسات التي تناولت مفهوم الدين أو الله لدى جبران وفي مقدمها كتاب الشاعر الأكاديمي ربيعة أبي فاضل بجزأيه، الذي نشرته دار الجيل، أو على الأقل دراسة الأكاديمي جورج شكيب سعادة التي نشرتها "المشرق". ولعل جبران نفسه يرد على زغيب في مسألة الله بنفسه، فهو استخدمها بوفرة في كتبه العربية والإنجليزية، ومنها: "إن الله جبل الإنسان الأول"، "الله رحمة"، "إن الله قد بعث أرواحكم في هذه الحياة"، "كيف ترفعون أعينكم نحو الله القوي"، "إن الله قد وهب نفوسكم أجنحة"، "لم يدر باجتماعاتنا السرية أحد سوى الله"، "إن الله قد وضع في قلوبكم...". واستخدم صفات عدة لله تدخل في سياق المسيحية والإسلام ومنها: "أبوكم السماوي"، "العادل"، "الرحوم"، "البصير"، "العليم"، "الروح السرمدي"، "العرش الذي نشعر بوجوده ولا نراه" وسواها. ويرتكب زغيب خطأ في تأويل صفة "الوثقى" التي لا تستخدم إلا في عبارة "العروة الوثقى" المرتبطة بالدين الإسلامي، فيستخدمها في وصف للخطى قائلاً: "بخطى وثقى" (عوض واثقة) وهي فعلاً صفة للعروة التي "لا تنقطع ولا تنفصم".

تبديل البنية

وشاء زغيب من جهة التوزيع "التيبوغرافي" لصفحات "النبي" كسر البنية التي اختارها جبران لنصه، موزعاً إياه إلى مقاطع (أو كتل) وجمل تتوالى صفحة تلو أخرى، بحسب حركة النص التي تمثل حركة "المصطفى" في تنقله ولقاءاته ومخاطبته الجماعات والأفراد وعظاته التي يلقيها. وهذه البنية هي التي تُستخدم عادة في الكتب المقدسة وفي الكتب العرفانية مثل إنجيل المسيح، وإنجيل بودا، وكتب الفيدا، وحتى في كتب المتصوفة الفرس (سعدي، حافظ، الرومي...)، وحتى كتاب "زارادشت" لنيتشه الذي جعله جبران مثالاً أسلوبياً له، دون مضمونه. يقول زغيب إنه رفع عن جمل الكتاب "ضغط" التراكم الأفقي، فنثرها عمودياً (تأملوا هذا الوصف)، تاركاً لها "متنفساً على بياض الصفحة كي تستقل كل جملة منفردة على سطر خاص بها". هذا تعدّ صارخ على البنية الجبرانية وعلى نثريتها وطابعها الرمزي، ولو شاء جبران اعتماد هذا التوزيع لقام هو به بنفسه ولما انتظر زغيب كل هذه القرون لينقذ نصه من "ضغط" التراكم الأفقي. وأي ضغط وأي تراكم يقصدهما في نص يسيل بعذوبة كماء نهر؟

 لقد انتهك زغيب خصوصية نص جبران وحوله إلى ما يشبه الشعر الحر القائم على الأسطر، وقد اقتطع الأسطر من بنيتها، مختصراً السطر في كلمة واحدة أو كلمتين مما أساء إلى شكل النص. كان جبران مطلعاً على الشعر الحر وعلى والت ويتمان الذي كتب عنه أمين الريحاني، وكان في إمكانه اختيار هذا الشكل.

 تقول الأكاديمية نجوى نصر إن جبران هو أول من "ترجم" هذا الكتاب، فهو ترجم أفكاره الشرقية إلى الإنجليزية في أسلوب هو أسلوبه. وكان جبران، كما يرد في سيرته، صواباً أم خطأً، قد كتب صفحات من "النبي" بالعربية في السادسة عشرة من عمره. بل إن جبران عاش "النبي" طوال سنوات وكتبه في ذهنه وبروحه. ولا شك في أن نفَس "النبي" وحتى طيف أسلوبه، تجليا في نصوص جبرانية عدة، ليت زغيب قرأها أو عاد إليها قبل أن يتحذلق في ترجمته، ومنها نص "جمال الموت" و"أغان" و"صوت الشاعر" وسواها وسواها.

لو عاد هنري زغيب إلى النصوص الجبرانية العربية وأعاد قراءتها وأصغى فيها إلى صوت جبران وتأمل أبعاده الفكرية والروحية، لما كان تعامل مع "النبي" بمثل هذا الادعاء والتشاوف، ولما نعت لغته وأسلوبه بالقدم والعتق ولا بالتأخر عن العصر. ويعلم زغيب أن كتاب "النبي" لو لم يكن معاصراً وحديثاً في لغته وخطابه، لما كان جذب القراء الشباب جيلاً تلو جيل.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة