Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ديدرو قبل "الموسوعة" وبعدها... 4 مجلدات حول الفن التشكيلي وفيلم نادر

الفيلسوف الذي جعل من نفسه يوماً الناقد الأول في التاريخ الأوروبي

دنيس ديدرو (1713-1784) (ويكيبيديا)

ملخص

الفيلم منذ عروضه الأولى، مروراً بعرضه التلفزيوني لاحقاً وعروضه طبعاً في مدارس الفن التشكيلي، لم يتوقف عن إلهام الفلاسفة في تعاطيهم مع ذلك الصنف الفني تعاطياً كان أكثر تواضعاً بكثير قبل ذلك، إضافة طبعاً إلى أنه رسخ مكانة ديدرو بوصفه أول ناقد فني حديث في التاريخ الأوروبي.

قبل نحو نصف قرن من الآن حين راح النقد التشكيلي يزدهر في وقت تكاثرت فيه الكتب التي تؤرخ له وتجعله فناً قائماً بذاته خلال النصف الثاني من القرن الـ 20، يثير اهتمام المفكرين والفلاسفة على خطى ميشال فوكو وجيل دولوز وحتى جورج باتاي، راح كثر من المهتمين يطرحون على أنفسهم سؤالاً يبدو أنه حيّر كثراً منهم ولا سيما في فرنسا، عمن يمكنه أن يكون الفيلسوف الأوروبي الأول الذي أولى فنّ الرسم هذا عناية قبل أي واحد من زملائه.

يومها لم يتأخر الجواب في الظهور، فكتابات الفيلسوف التنويري الموسوعي دنيس ديدرو كانت هناك في انتظار من يحب أن يكتشفها، مجموعة في أربعة مجلدات ضخمة تضم مجموعة كبيرة من الدراسات والتعليقات في هذا المجال دوّنها ديدرو خلال أعوام عدة تابع فيها ما كان يشكل حينها صالوناً ملكياً للفنون عند أواسط القرن الـ 18. وهو عمل جبار حققه ديدرو بدأب ودقة جعلا المجلدات تتخذ في نهاية المطاف شكل نوع من التأريخ للحركة التشكيلية، في فرنسا بخاصة خلال تلك المرحلة الزمنية الانتقالية البالغة التعقيد.

وطبعاً من غير المنطقي القول إن التاريخ أبقى على كل أولئك الفنانين الذين كتب ديدرو عنهم، لكنه، أي التاريخ طبعاً، حفظ الأعمال الفنية وإن مخبّأة وموزعة في صالونات البيوت والكنائس وحتى في المؤسسات الرسمية والقصور الكبيرة. وذلك بالطبع بعدما عرضت في الصالونات الملكية السنوية، ونالت حظاً ما من الاهتمام، ليغوص معظمها بعد ذلك في نسيان مدهش ويمحي ذكر رساميها من التاريخ، إنصافاً أو ظلماً، لا يمكن أحد أن يأتي بجواب قاطع، حتى ولا مدونات الفيلسوف الكبير التي لا شك أنها حاضرة دائماً تراجع وتقرأ ولكن غالباً للتوقف عند رأي مؤلفها في الكبار الذين أبقى التاريخ على ذكرهم، من أبناء تلك المرحلة، ونادراً بالطبع لاكتشاف مغمورين من بينهم إلا حين يجري اكتشاف تحفة ما في مكان ناء فتلفت الأنظار ويبدأ البحث عن سيرة رسامها وأعماله الأخرى.

 

فيلم استثنائي

لقد ظلت الأوضاع على تلك الحال، إذاً، طوال الفترة التاريخية التي تفصل زمن ديدرو عن زمننا. ولكن حتى وإن كان الكتاب معروفاً ومتداولاً، فإنه في نهاية الأمر احتاج إلى السينما كي تخرج به من المضمار النخبوي إلى العالم الأكثر اتساعاً. وذلك في فيلم لن يكون على أية حال، هوليوودي الضخامة، ولا تحفة فنية استثنائية، لكنه حين حقق في فرنسا، بدعم جامعي وراح يعرض في مناسبات متنوعة قبل انتقاله إلى شاشة التلفزة تحت عنوانه البديهي "صالونات ديدرو"، سرعان ما اكتسب أهمية فائقة لم تكن متوقعة على أية حال.

وذلك بالتحديد لأن السينمائيين الشابين اللذين حققاه، سيلفان روميت وبيار سامسون، في اشتغالهما عليه، لم يتوقفا عند أجزاء الكتاب وفصوله كما يقتضي الأمر، بل انطلقا منه ليتحريا وجود العدد الأكبر من اللوحات التي يتحدث عنها، ليس في المتاحف الكبرى والقصور الفاخرة، بل ليس حتى في الكنائس التي تعرف باحتوائها على أعمال فنية مدهشة عادة، بل في تلك الأماكن الصغيرة الغامضة الخفية التي انتهى إليها مصير المئات من اللوحات التي ولدت من مخيلة المبدعين، أو في الواقع الذي عاشوه وعايشوه طوال القرن الـ 18.

وهكذا بعد أن كان المشروع يسعى لرصد ما كتبه ديدرو في زاويته المنتظمة في صحيفة "المراسلة الأدبية" كنوع من المتابعة لاهتمام فيلسوف متنوع بما أنتجه عصره من فنون، تحول إلى اكتشاف لعصر بأكمله من الفن والفنانين الذين لا يعرف أحد عنهم شيئاً في زمننا الحديث هذا، وهذا على رغم أن طول الفيلم بالكاد يتجاوز الساعة.

الفيلسوف وفكره الفني

الواقع أن الفيلم لم يسرد ذلك التاريخ كما يمكننا أن نتصور، فهو أقصر من أن يفعل وأقل طموحاً من أن يحاول. كل ما في الأمر أنه حقق ذلك كله، ولو في عناوينه العريضة، من خلال طموح آخر سيبدو في نهاية الأمر أكثر أهمية بكثير. فهو اهتم بالتدريج ومن خلال لعبة الاكتشاف التي انصرف إليها، بالكيفية التي تطورت بها نظرة الفيلسوف نفسه إلى الفن التشكيلي، فكانت تلك النظرة في تطورها مفتاح تفسير ولادة النقد التشكيلي الحقيقي، وكيف أن كتابات ديدرو كانت القابلة التي ولدت ذلك النقد وغالباً عبر الاستشهاد باللوحات نفسها إنما دائماً من خلال نظرة ديدرو إليها.

وهذا ما تجلى من خلال اهتمام الفيلم بتقسيم تعاطي الفيلسوف مع الفن التشكيلي إلى أربع مراحل انطلاقاً من محورين لا أكثر، الأول محور كرونولوجي، يهتم أكثر ما يهتم بتطور نظرة ديدرو إلى الفن. وهنا يؤكد لنا الفيلم أن الأهم في "اللعبة" كلها هو أن ديدرو قد تغير هو نفسه كثيراً، وأن تجربته قد تعمقت تبعاً لتعاطيه مع الصالونات عاماً بعد عام، بل تطورت كذلك علاقته مع فناني عصره، فهو الذي انطلق من نقد ينصب على لعبة الوهم في اللوحات، نراه في مرحلة تالية يتخلى عن الانبهار الذي كان يولده لديه ذلك الاهتمام، ليخبرنا في المرحلة الجديدة أن ما على مسطح اللوحة ليس الواقع بل مجموعة من مواد وعجائن وألوان وأحبار، ينشرها الفنان فتتحول إلى ما يسعى إليه. وفي انطلاقته من هذا "الاكتشاف" المنطقي يصل ديدرو إلى المحور التالي وهو محور وصفي، هو الذي يمكنه من أن ينطلق من المقدمات ليؤكد أن ما على اللوحة الآن إنما هو نص سردي وصفي يجعل الرسم نوعاً من حكاية تروى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عالم مسرحي متكامل

في مرحلة تالية يسميها الفيلم، محوراً إضافياً، يخبرنا هذا الأخير كيف أن ديدرو يصل إلى فكرة بالغة الدلالة والأهمية هي أن ليس علينا في هذا الإطار أن نهمل الجانب المسرحي، وهو أمر يفرضه علينا كون اللوحة نفسها مزدوجة المعنى. فهي فضاء مسرحي وهي لوحة تشكيلية، ومن هنا حين يصف لنا الفيلسوف على سبيل المثال، في واحد من أجمل فصول كتابه، لوحة "خطيبة القرية" للرسام كروز منطلقاً من توزيع عناصر المكان وعمل مصمم الأزياء والسينوغرافيا التي تهيمن على اللوحة، يكاد يصل في وصفه إلى نوع من إعادة ابتكار لحوارات مفترضة لمسرحية متخيلة.

ولعل الطريف هنا هو أن مخرجي الفيلم تحدثا في ندوة صحافية أعقبت عرضه في مهرجان لسينما الفنون أقيم عند ظهوره للمرة الأولى أوائل سنوات الـ 80، عن تجربة بالغة الطرافة قاما بها. وكان ذلك حين عرضا الفيلم في قاعة "الكوميدي فرانسيز"، أمام ممثلين وتقنيين كانوا يعملون على تحضير عمل مسرحي لهم.

ولقد أجمع هؤلاء على أن العرض كان بالغ الأهمية بالنسبة إليهم من ناحية أنه خلق لديهم نظرة جديدة إلى العلاقة بين الفن التشكيلي والمسرح، بل جعلهم يبدلون كثيراً من عناصر عملهم التي كانت راسخة من قبل.

ويقينا أن ديدرو لو كان حياً، لكان من شأنه أن يسرّ كثيراً بتلك التجربة إضافة، طبعاً، إلى سروره بما يقوله الفيلم في نهاية المطاف، أولاً من أن الفن التشكيلي يمكنه، بل يجدر به حتى، أن يكون على علاقة مباشرة بالفلسفة، وثانياً من الكيفية التي اشتغل بها هذا الفن على تطوره هو نفسه، الشخصي.

ويبقى أن نشير إلى أن الفيلم منذ عروضه الأولى، مروراً بعرضه التلفزيوني لاحقاً وعروضه طبعاً في مدارس الفن التشكيلي، لم يتوقف عن إلهام الفلاسفة في تعاطيهم مع ذلك الصنف الفني تعاطياً كان أكثر تواضعاً بكثير قبل ذلك، إضافة طبعاً إلى أنه رسخ مكانة ديدرو بوصفه أول ناقد فني حديث في التاريخ الأوروبي.

المزيد من ثقافة