Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مخرجان ينجزان فيلمين مقتبسين عن رواية الفرنسي المشاكس أوكتاف ميربو

رينوار حقق "يوميات وصيفة" في هوليوود وبونويل أعادها إلى وطنها

من فيلم جان رينوار (1946) (موقع الفيلم)

ملخص

ولكن من هي سيليستين بعد كل شيء؟

هي واحدة من الروايات الفرنسية الأكثر مشاكسة على المجتمع والزمن الفرنسيين بأحداثها التي تقع في الريف الفرنسي في عشرينيات القرن الـ20 ساخرة من بورجوازيته وضروب نفاقها. ولئن كان يمكن توقع هذا الاهتمام الأخلاقي بتلك الطبقة التي كان الكاتب أوكتاف ميربو يعتبرها طفيلية تعيش في الأكاذيب والضلال، فإن مقداراً من الفضح أكثر كان متوقعاً من السينمائيين الكبيرين، الفرنسي جان رينوار والإسباني لويس بونويل، حين اختار كل منهما اقتباس تلك الرواية نفسها في فيلم سينمائي، صوره على طريقته أو كما الحال بالنسبة إلى الفرنسي، كما تمكن، مع فارق زمني بين تحقيق كل منهما لفيلمه يصل إلى أكثر من عقد ونصف العقد. وسيكون هذا الفارق لصالح الإسباني الذي سيتميز فيلمه بإفلات موفق من الرقابة، لأسباب عديدة كما سنرى، فيما وقع فيلم الفرنسي جان رينوار في فخ الرقابة المتزمتة الأميركية في تلك المرحلة الصعبة من تاريخ هوليوود. ولكن لماذا هوليوود ورقابتها، ونحن نعرف أن الرواية الأصلية فرنسية خالصة تدور أحداثها في فرنسا وتتحدث بسلاطة لسان وفضح حقيقي عن البورجوازية الفرنسية الريفية وأخلاقياتها ونمط عيشها، كما أشرنا؟

 

فرنسي في أميركا

ببساطة لأن رينوار، المعتبر الأكثر فرنسية بين السينمائيين الفرنسيين، كان يعيش في عام 1946 حين حقق "يوميات وصيفة" في أميركا هرباً من الاحتلال النازي لبلاده. ومن هنا نراه حين قيض له أن يحقق فيلمه هذا في اقتباس عن رواية ميربو يسارع إلى القبول بذلك بكل حماس لسببين جوهريين: أولهما لأنه وجد الموضوع يناسبه تماماً ويتماشى مع حنينه لوطنه ولو في العالم الجديد، وثانيهما، وهذا أهم بالنسبة إليه، لأنه أدرك أن اشتغاله على هذا الموضوع يواصل ما كان اهتم به في فيلمه القديم الذي كان حققه مباشرة قبل الحرب في فرنسا "قواعد اللعبة"، أي تصويره الصراع الطبقي في الريف الفرنسي من خلال التناحر الخفي بين البورجوازيين وخدمهم في قصر العائلة التي يعيش أفرادها حياتهم وصراعاتهم غير آبهين بخدم القصر ونظرتهم إليهم. لكن رينوار في أميركا كان طبعاً غير رينوار في فرنسا، والرقابة هنا كانت هناك غيرها هنا. من ثم كان منطقياً أن أفلتت الرواية من نظرته الثاقبة، وهو الذي حين حقق "قواعد اللعبة" عام 1939 كان لا يزال خاضعاً فكرياً لتأثيرات تعاونه مع حكم الجبهة الشعبية اليساري، الذي كشف له قبل أن يكشف لجمهوره توجهاته التقدمية مدعوماً من رقابة متواطئة معه. أما حين حقق "يوميات وصيفة" عام 1946 فوجد نفسه مكبلاً بقيود الرقابة الأميركية المتنبهة بنظرة عداء شديد إلى ما يحاوله أولئك المنفيون الفرنسيون بوجه خاص، والأوروبيون عموماً من تحايل عليها، يحاولون، من خلاله، تمرير أفكار وأيديولوجيات يرسم لها "قانون هايز" المتزمت لائحة طويلة يدفعون ثمنها. ولقد كان الثمن بالنسبة إلى رينوار باهظاً، مما جعل الإسباني بونويل يتفوق عليه حين أقدم على الاشتغال على الرواية نفسها في عام 1963، من بطولة جان مورو التي كانت في بداياتها الفنية المجيدة، مقابل فاتنة تشارلي تشابلن بوليت غودار التي أسند إليها رينوار دور سيليستين في فيلمه، فبدت فاتنة لكن في إمكاننا أن نتصور الفوارق بينها وبين الفاتنة الفرنسية الحقيقية، مما زاد الطين بلة بالنسبة إلى فيلم المنفى الرينواري.

الخادمة الحسناء وحلمها

ولكن من هي سيليستين بعد كل شيء؟ هي وصيفة تعمل في الرواية في البيوت الريفية الكبرى موزعة جمالها وابتساماتها ولطفها على الشخصيات الذكورية من السادة في تلك البيوت آملة، في كل لحظة، وعبر "تضحياتها، أن تمكنها مبادراتها وأريحيتها العاطفية والجنسية من الوصول بدورها إلى مستوى الطبقة التي تخدمها وبالتحديد من طريق إيقاع واحد من أولئك الذكور في حبائل شخصيتها الآسرة. ومن هنا عبر تنقلها بين البيوت تتنقل سيليستين من رجل إلى آخر، لا فرق عندها إن كان متزوجاً أو عجوزاً وسيماً أم قبيحاً، شرط أن يؤمن لها مستوى من العيش يخلصها من وضعها الطبقي ويضمن لها تحقيق حلمها بأن ينتهي بها الأمر إلى الارتقاء إلى مستوى مخدوميها بدلاً من أن تبقى خادمة إلى الأبد. وطبعاً يمكننا أن ندرك هنا أن سيليستين ستحقق في نهاية الأمر، وفي الاقتباس "الأميركي" كما في الاقتباس "الفرنسي" من بعده، جزءاً أساسياً من حلمها نصف تحقيق، وربما من دون أن تضطر إلى دفع ثمن غال مقابل ذلك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غير أن الأهم هو أن الفيلمين، ولكن كل على طريقته، سيكونان قد فضحا تلك البورجوازية التي تعيش من النفاق والاكتفاء بالمظاهر والبريق الخادع الذي تؤمنه ثروات يفيدنا الاقتباس السينمائي، في الحالتين، أنها تزيد من ضلال تلك الطبقة، وفي المقابل، من أحقاد طبقة الخدم التي تعيش نهارها وليلها حاقدة على السادة معتبرة نفسها أكثر استحقاقاً منهم للعيش الرغيد.

رقابتان لرواية واحدة

وطبعاً نعرف أن الموضوع ليس جديداً على الإطلاق، لكن اللافت هنا هو أن رواية الكاتب والصحافي أوكتاف ميربو، الذي كان ينظر إليه باعتباره متحرراً من أي التزام بأية أعراف اجتماعية أخلاقية، بل ملتزماً نظرة سيليستين مشرعاً تطلعاتها الطبقية مبرراً، ليس بالتحديد، رغبتها في التمرد على واقعها من منظور طبقي، بل من منظور فردي "يدعم" ارتقاءها في المجتمع لتصبح من السادة باعتبار أن هذا التحول حق شرعي لها لا بد لجمالها وذكائها أن يضمناه لها، كما لا بد للثمن الذي ستدفعه مقابل ذلك عن طيب خاطر أن يكون مكافأتها في نهاية الأمر. والحقيقة أن هذا الجانب من "التحليل الاجتماعي" هو الذي لم يتمكن جان رينوار من إظهاره في فيلمه الذي كتب له السيناريو بنفسه في أمانة مطلقة لرواية ميربو، لكنه اضطر إلى القبول أولاً بتغييرات فرضتها الرقابة الأميركية، وبعد ذلك بإضافات وعظية فرضها النجم الأميركي في ذلك الحين بيرجس ميريديث الذي تولى بطولة الفيلم، كما أنه، مقابل مساهمته في تمويل الفيلم، فرض عليه رؤية أخلاقية تتماشى مع مطالب الرقابة، وتتناقض كلياً مع ما كان رينوار يتطلع إلى أن يسمي فيلمه به، وكما أشرنا كنوع من مواصلة ما كان صوره في "قواعد اللعبة".

ومن ذلك ما اضطر إلى القبول به حين صرف النظر تماماً عما كان يبدو جوهرياً في الرواية، أي تنقل سيليستين إلى العمل لدى عائلات مختلفة مما يمكنها من أن تنشر الغسيل القذر لتلك العائلات وحقيقة أساليب عيشهم. لقد رأت الرقابة الأميركية، كما رأى بطل الفيلم، مموله، في ذلك نوعاً من تعميم اعتبراه "شيوعياً" يدخله على الحياة الأميركية "طابوراً خامساً" يسعى إلى نسف القواعد الأخلاقية لتلك الحياة و"السخرية" من حلم الأميركيين الشهير. ومن هنا كان على رينوار، في نهاية الأمر، أن ينظر إلى حالة سيليستين بوصفها حالة فردية، فألغى ذلك التجوال بين دارة وأخرى من الدارات البورجوازية، ليركز هم فيلمه على استعراض الأوضاع التي يعيشها الخدم في مواجهة ما اعتبره "أنانية البورجوازيين" مكتفياً بالتعبير عن إدانته تلك الأنانية، ومن منظور الشفقة على ضحاياها، عبر فصل محدد من فصول الرواية الأصلية هو المتعلق بسرقة الأواني الفضية لا أكثر، ناظراً إلى تلك السرقة بوصفها، وكان ذلك على أية حال، أقصى ما يمكن للرقابة الأميركية أن تتهاون مع عرضه على الشاشة، وحتى هنا، بعد صراع مرير معها، نوعاً من محاولة فردية لإعادة توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء!

هوة بين عالمين

ويمكننا أن نتصور هنا كيف أن هذا التدخل من الرقابة الأميركية، الذي سيقول رينوار دائماً إنه أفقد فيلمه كل معنى وعمق، سيكون هو نقطة الضعف التي مكنت بونويل بعد ما يقارب عقدين من السنين، من أن يبدو متفوقاً عليه في تلك المعركة غير المتكافئة من حول فيلمين أتيا من منطلق واحد، لكن كل واحد منهما تعايش مع الزمان والمكان اللذين طبعاه ليكشفا عمق واتساع الهوة التي كانت تفصل في ذلك الحين بين هوليوود وأوروبا، وتتجلى بخاصة في التعامل الرقابي مع فن السينما.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة