نعرف أن السينمائي الروسي سيرغاي إيزنشتاين المؤسس - إلى جانب زميله الأميركي في المقلب الآخر من العالم ديفيد غريفيث - لنظريات التوليف السينمائي منذ العقد الثاني من القرن الـ20 أي للقواعد التي انبنى عليها التوليف (المونتاج) الخاص بذلك الفن، الذي لم يولد إلا في العقد الأخير من القرن السابق من دون أن يصاحبه أي تنظير مسبق، كان واسع الثقافة إلى حد مدهش، وهو لئن كان قد طبق ما يمكن تطبيقه من ثقافته الواسعة في أفلامه فإنه ملأ ألوف الصفحات التي كتبها طوال مساره العملي بما يقارب بين ثقافته المتنوعة تلك وأفلامه، التي كانت على رغم قلة عددها نوعاً من المزج بين قدراته الإبداعية الهائلة ونظرياته التي لولاها لما كان ثمة اليوم فن يمكننا أن نعزو إليه تلك التطورات التي عاشها الفن السينمائي، متحولاً من مجرد "فرجة" إلى فن جميل شامل وعميق في نهاية الأمر واكب حياة البشر منذ قرن وربع القرن تقريباً.
من هنا اعتاد الباحثون والمؤرخون على مختلف مذاهبهم ومشاربهم ألا يترددوا في أخذ كل ما كتبه ذلك المبدع/ المنظر الكبير، مأخذ الجد وقلما جرؤ واحدهم على مساجلة أية فكرة من أفكار صاحب "الدارعة بوتمكين" و"إيفان الرهيب" وسواهما من تحف سينمائية لم ير أحد عيباً في اعتبار كثر لها "مجرد" تطبيقات للنظريات الإيزنشتاينية ولا سيما في مضمار التوليف. ومن هنا ما قيل يوماً من أنه لئن كتب إيزنشتاين بأن التنويري الموسوعي الفرنسي ديني ديدرو (1713 - 1784) يجدر بنا اعتباره المؤسس الحقيقي الأول لفن المونتاج، ومن ثم يركض الجميع إلى موسوعاتهم لمعرفة تاريخ مولد ديدرو وتاريخ رحيله فيفاجأون بأن صاحب "الموسوعة الشهيرة غادر عالمنا مكللاً بالمجد الفكري قبل قرن ونيف من ولادة السينما". فكيف يكون له باع في "اختراع" هذا الفن؟
التنويري الذي اخترع التوليف
لكن إيزنشتاين لم يكن لا مغالياً ولا مخطئاً في ما أكده بمقال مهم له، حول ذلك الموضوع بالذات ونشر للمرة الأولى عام 1943. صحيح أن السينمائي الروسي الكبير لم يتحدث عن "اختراع" ديدرو فن التوليف السينمائي بصورة مباشرة كما أشرنا، لكنه قدم تحليلاً بالغ الرهافة يفيد في نهاية الأمر بأن مساهمة ديدرو الحاسمة في سجالات القرن الـ20 حول العلاقة بين النص المكتوب والصورة لا بد أن تلفت النظر بكونها مساهمة أساسية توصل إلى الاختراع الذي لم يكن له وجود قبل القرن الـ20، بمعنى أن ديدرو قد انتظر قرابة القرن وأكثر كثيراً قبل أن يوجد من يطبق نظرياته على الأسس التي بنيت عليها ممارسة التوليف السينمائي، بيد أن إيزنشتاين يستند إلى ما كتبه ديدرو حول فنين آخرين - هما الرسم والمسرح – من دون أن يكون في مقدوره على أية حال أن يتوقع أن يتوحد الفنان الأقدمان في تاريخ الفنون السبعة المعروفة منذ فجر الإبداع الإنساني، ليؤديا إلى ولادة السينما، ولا أن تتبع تلك الولادة بعد رحيله هو نفسه بكل تلك الفترة الزمنية، ولادة نظرياتها. ففي نهاية الأمر كان التنويري العقلاني الفرنسي أكثر صدقاً ونزاهة من أن يزعم على غرار المنجمين من نصابي التلفزة، في لبنان بخاصة، أنه يعرف مسبقاً ما الذي سيحدث في العام المقبل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كل ما في الأمر أن ديدرو وفي مجال كان يتحدث فيه تحديداً عن واقعية الرسام الفرنسي شاردان الذي اهتم أكثر ما اهتم في لوحاته بالحياة اليومية للبسطاء من الناس، محتذياً في ذلك حذو رسامي الحياة اليومية الواقعية الهولنديين - فيرمير وأصحابه - وجد أن من الممكن له أن يورد جملة من ملاحظات فائقة الأهمية حول العلاقة بين النص المكتوب والمشهد البصري، مما قاده يومها إلى المسرح ليضع أول نظرية في التاريخ حول الأداء المسرحي حيث يتمازج التعبيران: البصري والسمعي في بوتقة واحدة ستحول في القرن الـ20 وفي مسار ولادة السينما إلى فن مستقل بفضل لعبة التوليف تلك.
مساهمة من المعاقين
والحقيقة أن إيزنشتاين إنما اعتمد في نظرته تلك إلى نص استقاه من دراسة لديدرو عنوانها "رسائل حول الطرش والبكم" ملاحظاً كيف أن الكاتب لم يفصل في رسائله تلك بين الموقف التجريبي والموقف الجمالي وهو الذي "نراه يؤكد عبر رصده العلمي والفلسفي للمعاقين في ذينك المجالين حتمية الوصول إلى مسرح جديد، ومن ثم إلى اختراع ما سيصبح تدريجاً فن الإخراج بالمعنى الحديث للكلمة". وهكذا وكما يخبرنا إيزنشتاين، إذ درس هذا المخرج الروسي الذي بدأ مساره المهني على أية حال مخرجاً مسرحياً لينتقل فور ذلك إلى الإخراج السينمائي ما إن تحولت تلك الممارسة إلى عمل إبداعي وبفضل نظرياته تحديداً، يخبرنا كيف أن ديدرو قد وجه اهتمامه أول الأمر إلى حالة العميان متسائلاً حول أهمية تمكينهم في صالات المسرح من الحصول على مستوى سمع أعلى من ذاك المتاح عادة لغير العميان، ومن بعد ذلك "نقل ديدرو اهتمامه إلى الطرش فاقدي السمع" متحدثاً عن واقع أن افتقارهم إلى تلك الحاسة يجعل رؤيتهم أكثر حدة وقوة.
وهنا يخبرنا ديدرو في النص الذي اشتغل عليه إيزنشتاين بأنه إذا كان يتعمد أن يحضر كثيراً من المسرحيات فهو إنما يفعل ذلك مرات كي يستمع إلى الحوارات التي تشكل عصب النص المسرحي، ومرات أخرى كي يستمتع بالبعد البصري لما يقدم على الخشبة، بل إنه "يخبرنا كيف أنه غالباً ما كان يحدث له أن يسد أذنيه أولاً كي يستمتع أكثر بالبعد البصري لما يشاهد، وثانياً كي يمتحن قدرة ذلك البعد على إيصال ما تريد المسرحية إيصاله من أفكار ومواقف".
ومن هذا يستنتج السينمائي الروسي الكبير بأن في مقدورنا أن نستخلص من ذلك كله ما يتعلق بمنظومة يسميها "تكاملاً بين الفنون المختلفة" و"ترابطاً حقيقياً بين العناصر المتضاربة في عملية التلقي" ينتجان عن تلك الأبعاد الجمالية التي يتمكن العرض عبرها من تحقيق نوع من توزيع ذي دلالة لمختلف الخطوط التي تبدو للوهلة الأولى متنافسة في ما بينها، في مخاطبتها لشتى الحواس. وهنا من الطبيعي لإيزنشتاين أن ينتقل في تعليقه إلى تأكيد منه متعلق بنفس هذا التحليل إنما يعثر عليه هذه المرة في نص آخر لديدرو يجده في "خطاب حول الشعر الدرامي" وتحت مسمى أكثر دلالة، بل حتى أكثر ارتباطاً بالتوليف كما سيولد عند بدايات القرن الـ20: "المسرح المركب". فهل يمكننا أن نزعم، يتساءل إيزنشتاين، أن هذه التركيبية شيء آخر غير التوليف الذي نرى خطأ أنه لم يولد إلا مع بلوغ السينما سن الرشد على يده كما على يد زميله الأميركي غريفيث؟
غودار على الخط
وفي هذا السياق يبدو لافتاً قدر الثقة التي يضعها إيزنشتاين في تأكيده أبوة ديدرو لفن التوليف ولو انطلاقاً هنا من نظرة إلى تجريبية صاحب الموسوعة وحديثه المتعلق بالمسرح تعلقاً يفتح على أنواع عدة من الفنون في آن معاً. بما في ذلك الفن السينمائي، "الذي ما كان من شأنه أن يخطر في بال المفكر الفرنسي" حتى وإن كنا نلاحظ كيف أن ديدرو وبعبقرية استثنائية عرف كيف يزاوج بين فن الإيماء وفصاحة الخطاب المنطوق مازجاً في حديثه بين مشهد يغلب عليه الكلام وآخر يقوم على الحركة خصوصاً" مزاوجة سيرينا جان لوك غودار لاحقاً، وكما سيخبرنا جاك ريفيت زميل غودار في "الموجة الجديدة الفرنسية" بحسب ما يذكر الباحث جان كلود بونيه، بأن ليس من الضروري أن تتم في الوقت نفسه ما يقترب من قولة غودار الشهير من أنه "من الطبيعي أن يكون لكل عمل فني بداية ووسط ونهاية من دون أن تأتي في العمل على مثل ذلك الترتيب"، وذلك بالتأكيد يشكل إضافة إلى نظرة إيزنشتاين إلى التوليف، تلك النظرة التي يخبرنا هذا الأخير بنفسه أنه قد يمكن أن يكون استقاها من ذلك المفكر التنويري الموسوعي الذي ولد ومات قبل عقود طويلة جداً من ولادة السينما وولادة إيزنشتاين وولادتنا جميعاً!