ملخص
رغم أن وجود منظمات المجتمع المدني في المناطق السورية قديم لكنها لم تسفر عن حركة مدنية واضحة، لا سيما وأنها قمعت ووقعت تحت سيطرة السلطة خلال عود مختلفة أبرزها حقبة الأسدين، لكن الثورة السورية شكلت فرصة كبيرة لبروز مئات الجمعيات والمنظمات المدنية التي تتلقى الدعم من الهيئات الأممية والدول المانحة، لكنها لم تستطع أن تحيد نفسها عن الاستقطاب السياسي وبخاصة بعد سقوط نظام الأسد.
لا يبدو العمل المدني من خلال الجمعيات والمنظمات المستقلة وغير الحكومية عملاً أو ظاهرة طارئة في سوريا، بل يعود تاريخه لما قبل تشكُّل الدولة السورية الحالية عندما كانت مناطقها ولايات عثمانية، خصوصاً عندما تراجع الشكل المركزي للدولة العثمانية، وبات العمل المدني أكثر تمظهراً من خلال المنتديات والجمعيات، وحتى الصالونات الأدبية التي كانت تنشر الوعي المجتمعي والثقافي والقومي وتدعو للتقدم بالمجتمع نحو الحداثة والتطور.
وفي زمن الانتداب الفرنسي نظمت الجمعيات والمنتديات بقانون، واستمرت في أداء دورها الملاحظ حتى الانقلاب المعروف بثورة الثامن من مارس (آذار) 1963 التي وصل بها حزب البعث إلى السلطة، ليضمحل هذا الدور بصورة متدرجة مع ربط الحزب والسلطة جميع التنظيمات والجمعيات بها، والتضييق على التي كانت تأبى الخضوع لينعدم هذا الدور بصورة شبه كلية زمن حافظ الأسد.
لكن مع تسلم بشار الحكم وإطلاقه شعارات الإصلاح في مناحي الحياة، عادت المنتديات الثقافية والسياسية للنشاط في إطار ما عرف بـ "ربيع دمشق"، وكذلك تأسست جمعيات ولجان مهتمة بحرية التعبير وحقوق الإنسان.
وسرعان ما أغلقت تلك المنتديات، واعتقل عدد من منظميها وأصبح آخرون ممنوعون من السفر، واستدعي غيرهم إلى الفروع الأمنية لتغيب مع ذلك آمال السوريين بوعود الانفتاح نهائياً حتى انفجرت الاحتجاجات الشعبية في مارس 2011، ليظهر جيل جديد من الناشطين السوريين من خلال ما عرفت بالتنسيقيات التي كانت تنظم التظاهرات، ومن ثم تحولوا إلى العمل الإنساني والإغاثي وحتى دخل عدد منهم في الأعمال العسكرية.
ومنذ تلك الفترة نشأت الجمعيات والمنظمات التي كانت غالبيتها ذات طابع إنساني وإغاثي، وأُسست في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري، وكذلك فإن تركيا اتخذت هي الأخرى من مدن مثل غازي عنتاب وإسطنبول التركيتين مركزاً لمقارهما، إضافة إلى دول مجاورة أخرى مثل الأردن ولبنان والعراق وبدرجة أقل مصر، فيما رحل خلال الأعوام اللاحقة عدد من المنظمات الناشئة إلى الولايات المتحدة والدول الأوربية بحثاً عن مناخ أفضل جراء ضغوط الدول المجاورة التي طاولت عدداً من هذه المنظمات وأعضاءها وخصوصاً تركيا.
الاستقطاب السياسي
إضافة إلى عمل هذه المنظمات في المجالات الإنسانية والحقوقية والإعلامية وحتى السياسية، معتمدة في تمويلها على المشاريع المقدمة من الهيئات والمنظمات الأممية والدولية والدول المانحة مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية، اتخذت منظمات المجتمع المدني مع الوقت دوراً واضحاً في العملية التفاوضية بين النظام السوري، إذ أنشأ المبعوث الخاص إلى سوريا غرفة خاصة بمنظمات المجتمع المدني تمثل الطرف الثالث، إضافة إلى المعارضة والنظام في المفاوضات، لا سيما المتعلقة بعملية الانتقال السياسي التي طالت لأعوام، وخصوصاً اللجنة الدستورية، من دون تحقيق أية نتائج.
ومع سقوط النظام ووصول الشرع إلى السلطة كرئيس للمرحلة الانتقالية، انتقلت معظم هذه المنظمات إلى دمشق أو حصلت على ترخيص رسمي من الحكومة السورية الموقتة بعد أن كان معظمها محظوراً من قبل النظام السوري السابق.
ووفق إحصاء رسمي نشر في مايو (أيار) الماضي، فإن عدد هذه المنظمات والجمعيات السورية التي حصلت على رخص مزاولة العمل من وزارة الشؤون الاجتماعية تجاوز 600 جهة، وعلى رغم بروز هذه المنظمات كطرف ساعد السوريين من خلال الضغط على النظام والأطراف السورية المختلفة خلال أعوام الحرب، فإنها تشهد الآن استقطاباً سياسياً ومناطقياً بسبب أحداث عدة كما جرى في الساحل السوري والسويداء، وكذلك المناوشات والتعقيدات التي تحيط بعلاقة شمال شرقي سوريا والحكومة في دمشق.
أهم تلك الاستقطابات برز في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) بعد نشر "منصة مدنية" التي تضم 240 منظمة مجتمع مدني من مختلف التخصصات، بياناً حول الأوضاع في الجزيرة السورية وشمال وشرقي سوريا، وانتقدت "قوات سوريا الديمقراطية" معتبرة إياها من أبرز القوى التي ارتكبت انتهاكات و"عمقت حال الانقسام الجغرافي والسياسي والاجتماعي داخل البلاد"، وتناول بيان "مدنية" اتفاق الـ 10 من مارس 2025 وضرورة تنفيذه بنيات سليمة من جميع الأطراف، واعتماد الشفافية في تطبيق بنوده وإشراك منظمات المجتمع المدني، داعية "قوات سوريا الديمقراطية" إلى الاستفادة من رغبة الدولة في تنفيذ الاتفاق واعتبار القضية السورية قضية وطنية داخلية "لا جزءاً من صراع عابر للحدود"، مطالبة إياها بفك الارتباط بأية قوى خارجية "لتجنيب سوريا مزيداً من الصراع من الأطراف الدولية أو الإقليمية، أو فواعل ما دون الدولة".
وعدّ بيان "مدينة"، التي يترأس مجلس إدارتها رجل الأعمال السوري أيمن الأصفري الذي جرى سابقاً تداول اسمه لتولي منصب رفيع في حكومة الشرع، النازحين من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية مهجرين قسراً وأولئك الذين نزحوا تحت وطأة العمليات التركية في المناطق الكردية نازحين داخليين، مما أثار رد فعل غاضب من الناشطين الذين اعتبروا البيان خروجاً من "مدنية" عن سياق مهماتها وحيادها، وقال مسؤولون من منظمات منضوية تحتها إن البيان جرت صياغته من دون استشارتهم.
دعوة إلى التوازن
ولم يتوقف الأمر عند ناشطين سوريين من شمال شرقي البلاد وآخرين من مناطق أخرى، بل أصدرت 47 منظمة وجهة مدنية شمال شرقي سوريا موقفاً مشتركاً حول الحاجة إلى خطاب مدني مسؤول في ضوء بيان "مدنية" حول منطقة الجزيرة، مشددة على تعاظم مسؤولية الفاعلين المدنيين "مع ازدياد هشاشة المشهد السوري واستمرار الانقسام المجتمعي، وأن الموقف المدني يصبح بالغ الأهمية في حماية السلم الأهلي وتعزيز العدالة ومنع أي انزلاق باتجاه الكراهية أو إعادة إنتاج الصراع".
وعليه اعتبرت أن بيان "مدنية" قدّم قراءة سياسية منحازة للتطورات في شمال وشرق سوريا "بما يضعف حياد المنصة ويقوض ثقة المجتمعات التي لا تحظى أساساً بتمثيل كاف داخل الأطر الوطنية، ويُغذي ديناميات خطرة لخطاب الكراهية الذي تعانيه المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة الانتقالية منذ أعوام".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وانتقدت المنظمات التي وقّعت على البيان، وهي منضمة أساساً لمنصة "مدنية"، بيان الأخيرة واستخدامه توصيفات مزدوجة وغير مبررة للسكان، بوصفهم "نازحين" في حال التهجير القسري لسكان سري كانيه (رأس العين) وعفرين وتل أبيض، و"مهجرين" في حال المهجرين من مناطق شمال شرقي سوريا، في تجاهل لمعايير واضحة ومعترف بها دولياً، مؤكدة أن البيان ركز على تدهور البنية التحتية من دون أية إشارة إلى أسبابها المباشرة، بما في ذلك أعوام مكافحة تنظيم "داعش" وقصف النظام السابق والهجمات العسكرية التركية المتكررة التي استهدفت منشآت خدمية وحيوية شمال وشرق سوريا.
كذلك شددت منظمات شمال وشرق سوريا على أن "مدنية" اعتمدت أحكاماً انتقائية وقراءة غير متوازنة في توصيف الانتهاكات، موضحة أن البيان توقف مطولاً عند انتهاكات مزعومة في مناطق شمال وشرق سوريا، متجاهلاً الانتهاكات الواسعة على خطوط التماس وفي المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة الانتقالية وأطراف أخرى، إضافة إلى ما وصفه بيان المنظمات بتجاهل السياق السياسي والدولي المرتبط باتفاق الـ 10 من مارس الماضي، و"الذي جاء نتيجة رغبة صادقة في بدء حوار وطني وبرعاية من جهات دولية، وفي مقدمها الولايات المتحدة".
وختمت المنظمات بأن بيان "مدنية" لم يأت على ذكر استمرار هجمات "داعش" التي لا تزال مصدر تهديد مباشر للأمن والاستقرار، ولا الاعتداءات المتكررة للفصائل المسلحة على خطوط التماس، ولا أزمة المخيمات التي تعاني خفضاً حاداً في التمويل أو بقاء مخيمات غير معترف بها خارج أية استجابة إنسانية، وتجاهل كذلك حرمان مئات آلاف السكان من المياه بسبب تحكم تركيا بمحطة "علوك" ومنابع الفرات والخابور، وإغلاق المعابر أمام الحركة الإنسانية والمدنية، مؤكدة أن تغييب هذه التحديات يُفقد أي تحليل صدقيته ويجعل البيان متعارضاً مع أبسط مقتضيات المهنية.
ودعت المنظمات "مدنية" إلى مراجعة بيانها الأخير وسحبه والاعتذار واستخلاص الدروس منه، والعودة لنهجٍ يعكس التزامها المعلن بالاستقلال والموضوعية، مع تحمّل الفاعلين المدنيين مسؤولية الخطاب الذي ينتجونه، والتأكد من اتساقه مع مبادئ الحياد والشمول وعدم التمييز، إضافة إلى أن تعزيز الحوار بين مكونات المجتمع المدني السوري في مختلف المناطق، بما يشمل المنظمات الفاعلة في شمال وشرق سوريا والداخل السوري والشتات، بهدف تجاوز الصور النمطية والمواقف المنحازة وفتح مساحات للتعاون المهني، وكذلك الالتزام بالمبادئ الأساس للعمل المدني وتبني نهج شامل وغير انتقائي وغير منحاز، واعتماد مقاربات تستند إلى حقوق الإنسان لا إلى الاصطفافات السياسية، بما يمنع تحويل البيانات المدنية إلى أدوات للاستقطاب أو التوظيف السياسي، وختاماً مراعاة الحساسية الشديدة للسياق في شمال وشرق سوريا وضمان عدم الإسهام ولو عن غير قصد، في تأجيج خطاب الكراهية أو إعادة تدوير أنماط الإقصاء.
ضرورة استعادة الدور
من جهته قال المدير التنفيذي لمنظمة "العدالة من أجل الحياة" جلال الحمد إن المنظمات المدنية تعاني بالفعل انقسامات، لا سيما مع الاستقطاب السياسي والمجتمعي الذي جرى عقب سقوط الأسد، الذي "كان جزء منه نتيجة مخلفات نظام الأسد، إضافة إلى أسباب أخرى"، وأوضح لـ "اندبندنت عربية" أن إعادة لملمة دور منظمات المجتمع المدني أمر مهم للغاية مع وضع هدف بعيد بألا تتبع الانقسام السياسي، مؤكداً أن ثمة فرصة لدى منظمات المجتمع المدني بأن "تلتقي على حد أدنى بدأنا نفقده شيئاً فشيئاً في بعض الأماكن، ويمكن لهذه المنظمات أن تجتمع وتتفق على المبادئ الأساس لحقوق الإنسان مثل الحق في الحياة، والحق في العيش الكريم والحق في المشاركة السياسية وفي العيش بكرامة، على رغم الاختلاف السياسي في ما بينها".
وأضاف الحمد أن التجربة خلال عام تقريباً من سقوط نظام الأسد تُبين أن الحد الأدنى من هذه المبادئ يمكن ألا تجمع عليه كل المنظمات، لكن يبقى هذا الحد الأدنى قادراً على جمع شريحة واسعة من منظمات المجتمع المدني، وبالتالي الهدف هو استعادة دورها.
وعبّر مدير منظمة "العدالة من أجل الحياة" عن مخاوفه من أن يؤدي الانقسام إلى تشتيت دور منظمات المجتمع المدني في دعم وحماية التغيير السياسي من أية محاولة للاستئثار أو رسم خط أحادي الجانب والنظرة وفق تعبيره، مشدداً على الأهمية البالغة في استعادة دور مجتمع المدني ولملمته من خلال البناء على الحد الأدنى من المبادئ، مع الإقرار بوجود خلاف سياسي عميق يمكن ردمه، ومؤكداً أن هذه المبادئ قابلة للعمل لجمع شريحة واسعة من المنظمات، "ولكن من المؤكد أنها لن تستطيع جمع كل المنظمات، فحتى هذا الحد الأدنى تخلى عنه بعضها"، على حد قوله.