ملخص
في قلب العاصمة السعودية الرياض، وبينما عقدت أخيراً جلسات المنتدى العالمي لتحالف الحضارات، يبرز سؤال جوهري يتجاوز أروقة الدبلوماسية الرسمية إلى عمق الوجدان الشعبي، هل يمكن للمشترك الثقافي أن يكون الجسر الذي عجزت السياسة عن بنائه لعقود؟
لعل قصة الملحمة الصينية "يماكان Yimakan" تقدم الإجابة الأكثر دهشة، فهذه العبارة التي تفتتح بها قومية "هيزي" في أقصى شمال شرقي الصين حكاياتها الأسطورية، تطابق في جرسها ووظيفتها عبارة "كان يا ما كان" العربية، مما يفتح فصلاً جديداً من فصول التلاقي الحضاري في عالم يبحث عن مشتركات إنسانية وسط ركام الصراعات.
صراع البراهين بين العرب والصين
تعد ملحمة "يماكان" فناً غنائياً قصصياً نادراً، أدرجته "اليونيسكو" ضمن التراث الإنساني أخيراً، مما لفت إليه الأنظار. لكن المثير للجدل هو هذا التشابه المفاجئ مع نظير له عربي قديم. فبينما يصر الجانب الصيني على أصالتها المحلية، يرى باحثون عرب فيها أثراً حياً لرحلة الحكاية العربية نحو الشرق.
تؤكد المصادر الرسمية الصينية، ومن بينها أبحاث "الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية" وخبراء التراث في مقاطعة هيلونغجيانغ أن الكلمة نابعة من لغة قومية "هيزي".
ويبرهن اللغويون الصينيون بأن "يِي ما" (Yima) تعني في لغتهم القديمة "الإنشاد البطولي"، و"كان" (kan) تشير إلى "القصة". وحجتهم الأساسية هي الجغرافيا، فشعب "هيزي" يعيش في مناطق نائية شمالاً، بعيداً من مراكز الاستيطان العربي التاريخية في كانتون أو شيان، مما يجعل التأثر المباشر مستبعداً من وجهة نظرهم.
وفي هذا الصدد يفيد الأكاديمي الصيني المستعرب همام وانغ يوان "اندبندنت عربية" بأن "يماكان" يعتبر "فناً وتراثاً شفوياً أصيلاً لشعب الهِجِيِه (Hezhen) في شمال شرقي الصين بمحافظة هيلونغجيانغ، ولا يمت بصلة إلى أصول أو تأثيرات عربية، إذ شكل عبر قرون وسيلة أساسية لحفظ الذاكرة الثقافية في ظل غياب نظام كتابة خاص بلغتهم".
ولفت إلى أن بلاده عملت على توثيق هذا الإرث بصورة واسعة عبر تسجيل أكثر من 1000 ساعة صوتية وإنشاء أرشيف رقمي وإدماجه في المدارس والمجتمعات المحلية.
وتحرص الصين التي تضم 56 مجموعة عرقية، على صون تراث جميع مكوناتها، وأدرجت حتى اليوم 45 عنصراً تراثياً في قوائم "اليونيسكو"، لتتصدر بذلك الدول الأكثر تسجيلاً عالمياً.
أطروحة "الهجرة اللغوية"
في المقابل، يتبنى عدد من الباحثين العرب فرضية الأصيل العربي، مستندين إلى أن الحكايات لا تعرف الحدود الجغرافية.
الباحث والمؤرخ السوري قتيبة الشهابي أشار ضمن دراساته حول الآثار العربية في الشرق الأقصى، إلى أن التجار والرحالة العرب نقلوا معهم "مفاتيح الكلام" التي استقرت في وجدان القوميات التي احتكوا بها.
وتشير دراسات أكاديمية حول "ألف ليلة وليلة" كما ورد في كتابات الباحث المصري عبده عبود ضمن بحوثه عن الأدب المقارن، إلى أن صيغة الاستهلال القصصي العربي "كان يا ما كان" هي صيغة عابرة للثقافات، انتقلت مع حركة الترجمة والتدوين في العصر العباسي وصولاً إلى أسرة "تانغ" الصينية.
ويرى أصحاب هذا الرأي أن "يماكان" الصينية ليست مجرد مصادفة صوتية، بل هي محاكاة صوتية لعبارة "كان يا ما كان" العربية، استعارها الصينيون الأوائل كرمز لبداية "عالم الخيال".
لكن المفكر والناقد السعودي سعد البازعي توقف عن الجزم بالعلاقة وإن أقر بأنها لافتة، وقال "لا أدري ما معنى الكلمة الصينية. إن كانت تحمل الدلالة ذاتها فقد تكون مصادفة أو تأثير للحكايات العربية. وحسم الأمر يحتاج إلى تتبع إيتيمولوجي (أصل المفردات) من قبل متخصصين في اللغات. لكنه تشابه جدير بالبحث".
بينما يرجح صاحب السردية العربية البروفيسور أدهام محمد حنش أن "تأثر الصين بألف ليلة وليلة هو الأقرب"، وليس العكس وهو أن تكون الفكرة العربية مقتبسة أصلاً من بكين، معتبراً أن الأدب الصيني ليس شائع التأثير في الماضي البعيد، حتى إن جاء في الأثر "اطلبوا العلم ولو في الصين".
شواهد التأثر الصيني بـ"ألف ليلة وليلة"
لا تقف القصة عند حدود "يِماكان"، بل تمتد لتشمل تأثراً صينياً عميقاً بـ"ألف ليلة وليلة" العربية، مما يعزز فرضية التلاقي اللغوي، فمن المفارقات التاريخية أن قصة "علاء الدين والمصباح السحري" في أصلها العربي تدور أحداثها في "إحدى مدن الصين"، مما يعكس تصور العربي القديم للصين كأرض للسحر والغرائب، وفي المقابل، استقبل الخيال الصيني هذه القصص وأعاد إنتاجها في مسارح العرائس والظل الصينية.
وتذكر المصادر الصينية أن قصصاً تشبه بنيوية "ألف ليلة وليلة" (قصة داخل قصة) بدأت تظهر في الأدب الصيني الكلاسيكي، تحديداً في قصص "بيزي" الشعبية التي استلهمت روح المغامرة والرحلات البحرية من "السندباد البحري" الذي كانت رحلاته تنتهي غالباً في الموانئ الصينية.
ولاحظ الباحثون في جامعة بكين للدراسات الأجنبية أن أسلوب "الراوي المهدد بالموت" (إطار شهرزاد) وجد أصداءً في بعض الملاحم الشمالية الصينية، حيث كان "الِيماكان" يغنى لاستعطاف الأرواح أو القوى الطبيعية، في محاكاة وظيفية لفعل القص من أجل النجاة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حكاية من سفر "يماكان"
لدى البحث في المصادر الصينية المترجمة عن نماذج من قصص "يماكان" المنقولة كتابياً عن أصلها الشفوي، تشير "الموسوعة الصينية" إلى أن أحد أشهر قصصها تعرف بملحمة "ميرغن القوي"، وهي تجسد روح البطولة والمغامرة لدى شعب "هيزي" في شمال الصين، منقولة بتصرف يسير للحفاظ على هيكل القصة الأصلي.
"يحكى في قديم الزمان عن البطل (ميرغن) الذي ولد في قبيلة تعيش على ضفاف نهر هيلونغجيانغ العظيم، حيث كانت الأرض تعاني جور الوحوش الكاسرة والأرواح الشريرة التي تسرق الشمس وتمنع الصيد. شبّ ميرغن فارساً لا يشق له غبار، ممتشقاً قوسه السحري وممتطياً جواده الذي يسبق الريح، وقرر الخروج في رحلة محفوفة بالأخطار نحو الجبال الجليدية الوعرة لمواجهة الغازي (خارباتو) الذي اختطف نساء القبيلة ونهب خيراتها. خاض ميرغن معارك ضارية استمرت لأيام بلياليها، مستخدماً ذكاءه وحيل الصيد التي تعلمها من أجداده، حتى تمكن في النهاية من هزيمة الوحش وتحرير الأسرى."
"عند عودة البطل منتصراً لديار قومه، استقبله الشيوخ والشباب بالأهازيج والرقصات، وأقيمت مأدبة كبرى امتدت لسبعة أيام. ومنذ ذلك الحين، أصبحت قصة ميرغن تروى وتغنى في سهرات ’الِيماكان‘ لتعلم الأجيال معنى الشجاعة والوفاء للأرض والقبيلة. وتختتم الملحمة دائماً بالتأكيد على أن روح ميرغن لا تزال تحرس النهر والغابات، وأن صدى غنائه يتردد مع خرير الماء وحفيف الأشجار، مذكراً الجميع بأن الخير ينتصر دوماً على الشر مهما طال أمد الظلام، لتبقى ذكراه خالدة في وجدان شعب ’هيزي‘ كرمز للحرية والكرامة الإنسانية."
وعند تصفح سفر "ألف ليلة وليلة" الخالد، نجد أن أحد أبطال "شهرزاد" البارزين، العاشق "كان ما كان" المتيم بابنة عمه في بغداد، ففي الليلة 138 وما بعدها، يحتج البطل على رفض تزويجه فيذهب إلى الغابة ويختفي عن الأنظار، في رحلة طويلة مليئة بالمغامرات والبطولة والأحداث، عاد منها لبغداد بعد حين.
لكن "كان ما كان" أصبحت لاحقاً في السردية العربية عتبة لكل حكاية أو قصة شفوية.
"دبلوماسية الحضارات"
يأتي الجدل اللغوي ليؤكد السياق الذي طرحه الرئيس الصيني شي جينبينغ خلا مقالة له استفتح بها قبل نحو عامين زيارة الرياض، فأكد أن تاريخ التواصل بين الصين والدول العربية "يمتد لأكثر من ألفي عام، إذ شكل طريق الحرير البري وطريق التوابل البحري شريانين حيويين لتبادل منجزات الحضارتين في مجالات الفلك والطب والورق والخزف، في رحلة تاريخية سجلت أقدم الروابط الرسمية منذ عصر أسرة هان الصينية، وصولاً إلى مغامرات البحار العربي ’أبو عبيد‘ التي استلهمت منها قصص السندباد".
ووثق أن تلك العلاقة بتبادل حضاري فريد شهد إعجاباً متبادلاً جسده الحديث النبوي "اطلبوا العلم ولو في الصين"، ورحلات الملاحين الصينيين مثل وانغ دا يوان وتشنغ خه إلى مكة وجدة والمدينة المنورة، وهي الروابط التي لا تزال آثارها حية حتى اليوم عبر المكتشفات الأثرية المشتركة للخزفيات الصينية في الموانئ السعودية القديمة، لتؤكد أن الصداقة بين بكين والرياض تضرب بجذورها في أعماق التاريخ الإنساني.
فإذا كانت الصين اليوم تعرّف نفسها كـ"دولة حضارة" وتبحث عن جذور ترابطها مع العرب عبر "مبادرة الحضارة العالمية"، فإن مثل هذه المشتركات اللغوية (سواء كانت أصيلة أو مستعارة) تصبح أدوات دبلوماسية قوية.
ففي وقت تمزق الحروب مناطق مثل غزة والسودان، يبرز الحوار الحضاري كـ"سلام وقائي. وكما يؤكد الباحث الخثلان، فإن نجاح الدبلوماسية السعودية ثقافياً، يكمن في تحويل هذه المبادرات إلى "مسار مستدام"، بأن تصبح قصص التلاقي الثقافي بين العرب والصين جزءاً من استراتيجية بناء الثقة العالمية.
واكتسب فن "يماكان"، وهو نوع غنائي وسردي تقليدي يروي الأساطير والحكايات الشعبية وقصص الحب والحرب والحياة اليومية، اهتماماً عالمياً متزايداً بعدما كان مهدداً بالاندثار مع مطلع القرن الـ21، حين لم يبقَ سوى خمسة مؤدين قادرين على إحياء أناشيده كاملة.
ويعد هذا الفن الذي يُؤدى من دون مصاحبة موسيقية ويعتمد ألحاناً متعددة لتجسيد الشخصيات والسرد بلغـة هيتشن الأم، بمثابة "موسوعة حية" توثق طقوس وعادات الجماعة وتسهم في نقل الذاكرة الثقافية وتعليم الأجيال الشابة.
وخلال جلسة لـ"اليونيسكو" في ديسمبر (كانون الأول) الجاري، نجح "يماكان" في الانتقال من قائمة الحماية العاجلة إلى القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، وأُدرج ضمن سجل الممارسات الجيدة في مجال الصون، في إنجاز وصفته الصين بأنه الأول من نوعه لمشروع ثقافي صيني يحقق هذا الاعتراف المزدوج، بما يعزز حماية التراث التقليدي ويقوي الثقة الثقافية.
وهكذا "يِماكان" أو "كان يا ما كان"، تظل الجملة السحرية التي تذكرنا بأننا، على رغم اختلاف لغاتنا ومواقعنا الجغرافية، بدأنا حكاياتنا الإنسانية بالنغمة نفسها، وننشد جميعاً النهاية نفسها "عالم أكثر سلاماً وازدهاراً".