ملخص
في سؤاله إن كنتُ أعرف مواقع إلكترونية، أو منصات رقمية، لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، أذهلني مقدار الغث في المواقع التي اطلعت عليها، فعدت إلى صديقي السائل بخفيّ حنين، ثم اقترحت عليه لاحقاً أن يلجأ إلى مواقع ومنصات أجنبية فيها على الأقل منسوب عالٍ من المهنية والنزاهة، وإن كانت تفتقر إلى الدفء والخصوصية، بسبب كونها من إنتاج الروبوتات المبرمَجة خوارزمياً.
الصاعق في المواقع الرائجة على شبكة الإنترنت أنها غير مهنية، وذات أنفاس تراثية غارقة في القِدم، والأخطر من ذلك أنها تستبطن في أحشائها نزعة إلى "التبشير"، بحيث لا يكون هدفها تعليم العربية بطريقة مستقلة وعلمية ونزيهة، وإنما الترويج لفكرة عقائدية محددة، يتم إنتاجها بطريقة منفرة من خلال أمثلة غير جاذبة تستثني كل الأمثلة الكونية المضادة لأفكارها الدينية الضيقة.
تدريب أم خطبة دينية؟
تحرص هذه المواقع، جلها، على بدء درس التدريب بخطبة دينية عصماء لا صلة لها بالدرس، ويتم إرفاق النماذج التوضيحية في التعليم بصور ذات إيحاءات تعلي من قيمة فكرة وتستثني، بل تلغي أفكاراً أخرى. وأعتقد أن الفكرة التي أريد إيصالها واضحة بحيث أتجنب الإفصاح أكثر، كيلا تتورط هذه المقالة في سوء الفهم، وكيلا تنحرف عن هدفها المتمثل في السؤال الجوهري عن تدني مرتبة العربية بين اللغات العالمية في الوقت الراهن.
المثال السابق قد يجيب عن بعض التساؤلات، لجهة التنفير من العربية، وحصرها في الدعوة، وإقناع أصحاب العقائد الأخرى باعتناقها، وهذا له سياق آخر غير سياق تدريس العربية للأجانب. والتنفير يتغذى من الطريقة الباهتة البالية في تعليم العربية التي تستعين بصور قديمة بالأبيض والأسود، وغير متحركة، وذات إيقاع ممل، مع أن الجهات الداعمة لمشاريع كهذه تتوافر على موازنات مالية كافية.
التعليم باللهجات المحلية
أضف إلى ذلك رغبة بعضهم بتدريس العربية بنبرة مستقاة من اللهجة المحلية، فتكون الحروف منطوقة بغير ما هو متفق عليه، فأنت أيها الراغب في تعلم العربية تتعلمها بالمغربية أو المصرية أو اللبنانية.
ومن الملاحظات البالغة الدقة أن هذه المنصات تنبع من جهود ذاتية، وبعضها يروج لنفسه لجعل هذه الدروس مدفوعة الثمن، من دون أن يكون المدرب مؤهلاً أو معتمداً، ومن دون أن يترافق عمله مع رقابة تتوثق من سلامة تعليمه، ونضوج أمثلته، وكفاءة الخطوات التي من خلالها يتم تعليم اللغة.
الراغبون في تعلم اللغة العربية هم، في الوقت نفسه، راغبون أيضاً في تعلم ثقافة العرب وقيمهم ومأكلهم وملبسهم، ما يعني إبراز التعددية الثقافية العربية بمستوياتها المختلفة. فليست كل النساء العربيات يرتدين الملابس الدينية، وليست كل الفتيات الصغيرات، في عمر الخامسة، يرتدين تلك الملابس، وليست كل المعلمات يتخفين وراء قماش لا يظهر منه سوى أصوات. الإصرار على تنميط الصور والبيانات والأمثلة يؤكد الرغبة المضمرة في ألا تتطابق حسابات الحقل مع حسابات البيدر، بمعنى أن المخرجات، عن قصد، ليست مرتبطة بالمدخلات، وهو ما يتنافى مع استراتيجيات التعليم ومراميه.
المنهج الخفي
واستطراداً، فإن تلك الرغبات المضمَرة تتعارض مع نزاهة العملية التعليمية، وقد تحدّث فقهاء التربية والتعليم عن ذلك بعمق، حينما أشاروا إلى "المنهج الخفي" المتمثل في ليْ أعناق المواد التدريسية، بما يتناسب ومعتقدات المعلم وميوله وانحيازاته. فإذا لم يكن المعلم متمتعاً بالإنصاف فإنه يلوّن إناء التلميذ بماء تلك الانحيازات التي لا يستطيع التلميذ الفكاك من أسرها، ولا تمييز غثها من سمينها، فيخضع لها ويتبناها، على رغم أنها انحيازات متنازَع عليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن المهم، حين الحديث عن عدم انتشار العربية وصيرورتها لغة عالمية، أن نميز بين اللغة والدين، فالأولى لها علاقة بالثقافة والمعرفة، والثاني متصل بالمعتقدات الإيمانية. الأولى مرتبطة بالإدراك العقلي، والثاني بالروحانيات.
ولعل عدم التمييز بين الأمرين، جعل اللغة أداة لتأدية فروض دينية وشعائر أكثر من كونها لغة تنشد الاشتباك مع العلم والاقتصاد والسياسة والفضاءات الرقمية. صارت اللغة شبه عاجزة عن مجاراة اللغات الأخرى، فالإنتاج المعرفي يتم بلغات أخرى، على رغم طغيان الإنجليزية التي أضحت لغة عالمية.
فقدان الجاذبية
بيْد أن تراجع العربية عن مضمار التنافس العلمي والثقافي عائد إلى فقدانها الجاذبية، وفقدان الترويج لها عنصرَ الإثارة والدهشة، وانحرافها عن تبيّن الأساليب المتطورة التي صارت تستعين الآن بآخر ما تفتق عنه عقل الذكاء الاصطناعي.
العالم يريد أن يتعرف إلينا، أن يفهمنا، أن يحسن الظن بنا، أن يغير الصورة القارّة في وعيه ولا وعيه بأننا قوم همج نعيش على أطراف الصحراء ونرعى الإبل، ولا نؤمن بأي تعددية سوى تعددية الزوجات، إلى آخر هذه السردية المقيتة الفاحشة الظلم التي لا نعمل على تبديدها وبيان تهافتها، بل نشارك في تعميقها بعجزنا وانكفائنا عن المشاركة الفعالة في المنجز الحضاري الإنساني.
ولا يبدو وسط هذه العتمة أي نور ساطع من قبل الجامعات والمؤسسات البحثية ومراكز الدراسات، حيث تخلو الساحة من مبادرات رصينة لتعليم العربية لكثيرين يحتاجونها لتدبر شؤونهم العملية بالدرجة الأساسية، وبعضهم يريد تمثل جماليات هذه اللغة ذات الإرث الحضاري الممتد في التاريخ والجغرافيا.
الإحياء ليس مستحيلاً
هذا الفراغ ترك الأجواء مفتوحة لمشاريع تعبوية ذات أفق ضيق ينظر إلى تعليم العربية بالطريقة التي يختارونها باعتباره عملاً جهادياً هدفه تجنيد الأتباع والداخلين في العقيدة، أكثر من أن تكون الغاية معرفية حضارية تعيد للعربية بهاءها المسلوب، وتدمجها في الحياة كأداة تثاقف، ولغة إنتاج في الميادين كافة.
ولو شاء المرء أن يواصل هجاء الذات، فإنه لا مندوحة سيذكّر بأهل العربية التي لا يجيدون نطقها، وبعضهم يخجل من الحديث بها، والعاملون فيها والمستخدمون لها في أعمالهم ينتهكون قواعدها ونحوها وصرفها مع كل رمشة عين.
الإحياء ليس عملاً مستحيلاً، وربما يكون إنتاج برامج وإنشاء منصات متطورة جزءاً من بداية مشوار طويل تسيطر عليه قيم النزاهة العلمية المستندة إلى ميراث تربوي ضارب في أعماق الثقافة الإنسانية، وبالتالي ليس علينا إعادة اكتشاف الآلة، وإنما معرفة كيفية تشغيلها والاستفادة من طاقاتها المذهلة.