ملخص
إن تجميع هذه الأرقام من أجر يبلغ 83 دولاراً وأسعار المواد الغذائية المرتفعة بلا ضابط، إلى تصاعد معدلات القتل والانتحار وسرقة الماشية، يرسم صورة لمجتمع منهار اقتصادياً ومتزعزع أمنياً ومفلس اجتماعياً من حيث الأمل. وتقدم المؤشرات الرسمية صورة واضحة ومروعة.
تواصل معدلات التضخم والغلاء المنفلت في إيران تقليص القدرة الشرائية للعمال، مما يؤدي إلى تدهور مستمر في مستوى معيشتهم ويفاقم مختلف الأزمات الاجتماعية. فقد بلغ سعر الدولار الواحد في السوق الإيرانية، الخميس الماضي، 125 ألفاً و785 توماناً، وهو رقم يسلط الضوء مجدداً على الانهيار الفعلي لقيمة الحد الأدنى لأجور العمال على الورق، فاستناداً إلى الحد الأدنى للأجور البالغ 10 ملايين و399 ألف تومان هذا العام، لا يتجاوز دخل العامل الإيراني اليوم 83 دولاراً شهرياً، أي ما يعادل 2.7 دولار يومياً.
وفي حين يبلغ الحد الأدنى لأجور العمال في الإمارات 1360 دولاراً، وفي السعودية ما لا يقل عن 1500 دولار، وفي تركيا 620 دولاراً، وفي العراق 270 دولاراً، وفي الأردن 410 دولارات، وفي أذربيجان 235 دولاراً شهرياً، فإن أجر العامل الإيراني البالغ 83 دولاراً يبين بوضوح أنه بات اليوم أرخص قوة عاملة في الشرق الأوسط.
بالتوازي، وصل سعر سبيكة الذهب في إيران إلى 133 مليوناً و780 ألف تومان، أي ما يعادل نحو 13 ضعف راتب عامل إيراني لشهر واحد. وللمقارنة التاريخية، كان الحد الأدنى للأجور عام 1979 يبلغ 630 توماناً فيما سعرت السبيكة بـ420 توماناً، مما يعني أن العامل حينها كان يستطيع شراء سبيكة ونصف سبيكة تقريباً من راتب شهر واحد.
ومع هذا التدهور الحاد في القيمة الحقيقية للأجور، تكشف إفادات نشطاء العمال وتقارير ميدانية صورة انهيار اقتصادي تخطى منذ زمن أزمة المعيشة.
وأكد الناشط العمالي نادر مرادي أن موجة الغلاء الجديدة، من ارتفاع أسعار بعض الأدوية الحيوية بمعدل 12 ضعفاً، مروراً بإلغاء الدعم عن الرز ومنتجات الألبان، وصولاً إلى مخطط الحكومة لرفع سعر البنزين، وجهت ضربة غير مسبوقة لأوضاع ملايين الإيرانيين. وقال إن "سعر الكيلوغرام الواحد من الرز الإيراني وصل إلى نحو 400 ألف تومان. وبحساب بسيط، يساوي سعر حبة رز واحدة ما يقارب 80 توماناً، وهذا يعني أن موائد الفقراء تفرغ يوماً بعد يوم".
سرقة الماشية والمنازل والسيارات مشهد من اتساع رقعة الفقر
لا تقتصر تداعيات الانهيار المعيشي على موائد الأسر فحسب، إذ تكشف الإحصاءات الرسمية أن آثار هذه الأزمة امتدت بسرعة إلى المجال الأمني والاجتماعي. فبحسب بيانات "مركز الإحصاء الإيراني"، تضاعفت سرقة الأبقار والأغنام خلال العقد الأخير، لترتفع من نحو 12 ألف حال في مطلع العقد الماضي إلى أكثر من 23 ألف حالة عام 2023. ويعد هذا الارتفاع، الذي يناهز 100 في المئة، الأسرع بين مختلف أنواع السرقات. وفي الفترة نفسها، ارتفعت سرقة المنازل بنسبة 76 في المئة وسرقة السيارات بنسبة 44 في المئة.
وتسجل محافظات كرمان والأحواز وخراسان رضوي أعلى معدلات سرقة الماشية. وتظهر هذه الأرقام كيف دفع الفقر العميق حال انعدام الأمن إلى الوصول حتى القرى والبلدات الصغيرة، حيث قد تكون رأس ماشية واحدة كل ما يملكه بعض الأسر من رأسمال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تصاعد حالات القتل والانتحار
وتشير بيانات "مركز البيانات المفتوحة الإيراني" إلى أن معدل القتل في إيران ارتفع بنسبة 40 في المئة خلال العقد الماضي، إذ ارتفع من أقل من 2000 حالة عام 2011 إلى نحو 2700 حالة عام 2023. ومن المتوقع أن تكون هذه الأرقام قد زادت خلال العامين الأخيرين نتيجة تدهور الوضع الاقتصادي.
وارتفع معدل الانتحار أيضاً بنسبة 70 في المئة خلال الفترة ذاتها، إذ انتقل من 3500 حالة عام 2011 إلى أكثر من 6 آلاف حالة عام 2023. وتتصدر محافظة إيلام القائمة بأعلى معدل انتحار يبلغ 16.8 حالة لكل 100 ألف نسمة، تليها محافظات كهكيلويه وبوير أحمد وكرمانشاه وچهارمحال وبختياري. وتعكس هذه الأرقام مجتمعاً يعاني ضغوطاً اقتصادية شديدة وتدهور في آفاق المستقبل والأمن النفسي.
في مثال على ذلك، على رغم من أن سعر زجاجة الحليب ارتفع منذ عام 1979 بأكثر من 35 ألف مرة، أعلن رئيس اتحاد منتجات الألبان أن متوسط استهلاك الفرد من الألبان في إيران انخفض من 130 كيلوغراماً عام 2010 إلى 50 كيلوغراماً فحسب، وهذا ما يعني أن نحو 40 إلى 45 مليون شخص لم يعد بإمكانهم شراء الألبان.
وأدى ارتفاع أسعار المواد الأولية للألبان بنسبة 70 في المئة خلال الأشهر الثلاثة الماضية، إلى جانب قفزة أسعار الحليب الخام من 23 ألفاً إلى 35 ألف تومان، إلى إرجاع جزء كبير من منتجات الألبان، إذ لم يعد لدى الناس القدرة على شرائها.
الرواية الرسمية للحكومة الإيرانية: تقدم تدريجي
في ذروة هذه الأزمات، ادعى المرشد الإيراني علي خامنئي في خطاب ألقاه، في 11 ديسمبر بالعاصمة طهران، أن "الشعب الإيراني بصموده وقدرته على التحمل يصنع الكرامة للإسلام، وأن بلدنا في طريق التقدم". غير أن الإحصاءات الرسمية تكشف عن أن هذه الرواية الحكومية لا تمت بصلة إلى واقع معيشة الناس.
وقال حسين راغفر الاقتصادي المقيم في إيران إن "ما لا يقل عن 7 ملايين شخص يعانون الجوع، وإن 34 مليوناً يعيشون تحت خط الفقر المدقع".
إن تجميع هذه الأرقام، من أجر يبلغ 83 دولاراً وأسعار المواد الغذائية المرتفعة بلا ضابط، إلى تصاعد معدلات القتل والانتحار وسرقة الماشية، يرسم صورة لمجتمع منهار اقتصادياً ومتزعزع أمنياً ومفلس اجتماعياً من حيث الأمل. وتقدم المؤشرات الرسمية صورة واضحة ومروعة. ويبدأ الفقر من موائد العمال، لكنه يمتد في النهاية ليضرب الأمن والصحة النفسية وحتى الأسس الاجتماعية للمجتمع بأسره، وفي هذا السياق، الشيء الوحيد الذي لا يرتفع هو القدرة الشرائية للمواطنين.