ملخص
إن شح المياه في إيران اليوم ليس مجرد أزمة مياه فحسب، بل أزمة تتعلق بقدرة المدن على الصمود وبالأمن الغذائي والهجرة المناخية وإدارة الاستهلاك والثقة العامة. فعندما يكون معدل الاستهلاك في جزء من المدينة أضعاف ما هو في جزء آخر، وعندما تفرغ السدود في غضون شهر واحد بسرعة كبيرة، وحين تمتد سياسة التقنين من طهران ومشهد إلى القرى الصغيرة، فهذه ليست إشارة إلى عام جاف فحسب، بل علامة على أزمة كبرى ستتكرر كل عام ما لم تجر إصلاحات جوهرية في بنية إدارة الموارد المائية.
مع بداية الشهر الثالث من فصل الخريف، باتت أوضاع الموارد المائية في إيران أقرب من أي وقت مضى إلى نقطة الانهيار. فتقنين المياه في طهران ومشهد وأصفهان ويزد وعشرات المدن الأخرى لم يعد تحذيراً فحسب، بل واقعاً يومياً يعيشه ملايين المواطنين. ووفقاً لإعلان رسمي من وزارة الطاقة، هبطت مخزونات السدود في البلاد مع نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي إلى أدنى مستوى خلال العقود الأخيرة، فيما سجلت 20 محافظة صفراً في معدل الهطل المطري، وهي أرقام تعني عملياً استمرار الجفاف الواسع وتشديد الضغط على مصادر مياه الشرب.
وتظهر متابعة وضع السدود أن الأزمة لم تحتوِ، بل ازدادت حدة في النصف الثاني من الخريف. فالمتساقطات المتفرقة في أكتوبر الماضي لم تنجح حتى في تعويض جزء بسيط من النقص الحاد في مخزون السدود، فيما وصلت مجموعة من أهم السدود في البلاد إلى مرحلة أقل من 10 في المئة من طاقتها الاستيعابية. هذه المعطيات، مقارنة بخريف العام الماضي، تعكس تفاقم الجفاف الذي دفع، بفعل الانخفاض غير المسبوق في واردات السدود، نحو حافة أزمة إنسانية.
وبحسب تقرير شركة إدارة موارد المياه الإيرانية، فإن واردات السدود من بداية سبتمبر (أيلول) الماضي وحتى منتصف نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري تراجعت بنسبة 40 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، علماً أن واردات العام الماضي كانت أصلاً في أدنى مستوياتها خلال العقد الأخير. وسدود لار وطالقان ولتيان وماملو ودوستي وطرق وبانزده خرداد ولومان واستقلال وشميل (نيان) وسفیدرود ونهب ونسا كرمان وتنكوئيه وسيرجان ورودبال داراب سجلت جميعها في بداية نوفمبر أقل من 10 في المئة من مخزونها، وهو ما يعني بالنسبة لبعضها، مثل سد دوستي ولار، الاقتراب من الجفاف التام.
طهران على حافة انقطاع شبكة المياه
حتى قبل بضعة أشهر فقط، كان الحديث عن تقنين المياه في طهران أقرب إلى التكهنات والتحذيرات، لكنه اليوم تحول إلى إجراء ملزم. ووفقاً لتقارير شركة مياه وصرف طهران، تطبق عمليات قطع المياه ليلاً في عشرات أحياء العاصمة بشكل منتظم، حيث تبدأ الانقطاعات من الساعة الثامنة أو العاشرة ليلاً وتستمر حتى الفجر.
وتظهر الصور المنشورة من سد أمير كبير (مدينة كرج) أن مستوى المياه ينخفض بمعدل يقارب ثلاثة أمتار أسبوعياً، وهو تراجع، في حال استمراره، سيؤدي عملياً إلى استحالة سحب المياه من بحيرة السد.
وفي حين ينفي نائب مدير شركة المياه الإقليمية في طهران، راما حبيبي، الإشاعات حول خروج سدود العاصمة من الخدمة، يؤكد في المقابل أن مخازن المياه بلغت الحجم الاستراتيجي، أي المستوى الذي قد يؤدي أي استنزاف إضافي منه إلى تهديد استقرار هيكل السد وشبكة نقل المياه.
هذا التصريح يعكس بوضوح أن طهران باتت مضطرة إلى خفض الاستهلاك والحفاظ في الوقت نفسه على الحد الأدنى من مخزون السدود، وهي وضعية وصفها المسؤولون أنفسهم بأنها غير مسبوقة.
التفاوت المائي وعدم المساواة في الاستهلاك
أحد أبرز أبعاد أزمة المياه في طهران هو التفاوت الواضح في أنماط الاستهلاك. فبحسب ما أعلنه المدير التنفيذي لشركة مياه وصرف طهران، محسن أردكاني، فإن المناطق من واحد إلى ثلاثة في العاصمة، التي لا تضم سوى أقل من خمس السكان، تستهلك نصف مياه طهران بأكملها.
هذا الخلل في النسب جعل كثيراً من سكان الأحياء الجنوبية في العاصمة طهران، الذين يواجهون انقطاعاً ليلياً يمتد لساعات، يعدون التقنين المائي تجسيداً للتمييز في توزيع المياه. ويتساءل المواطنون الغاضبون عبر شبكات التواصل الاجتماعي عن سبب تطبيق قطع المياه أساساً في مناطق متوسطة الدخل والأحياء الأقل قدرة، في حين لا تظهر أي مؤشرات إلى فرض قيود في مناطق الاستهلاك المرتفع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن التقنين المائي لا يقتصر على طهران وحدها. ففي مدينة مشهد، ثاني أكبر مدينة في البلاد، بدأ تطبيق برنامج منظم لقطع المياه منذ منتصف نوفمبر. وقد فرغ سد دوستي، المصدر الرئيس لتأمين مياه مشهد، عملياً بالكامل، وبحسب ما ذكره نصر الله بجمان فر، فإن السد لم يعد لديه أي مياه قابلة للنقل.
وفي محافظة خراسان رضوي، تشير التوقعات إلى أن التقنين المائي لن يستمر فقط حتى نهاية ديسمبر (كانون الأول)، بل قد يمتد إلى ساعات أطول من اليوم إذا تواصل الجفاف الحالي.
أما في المحافظات الوسطى والشرقية، فالوضع أكثر حرجاً، إذ تعيش محافظتا أصفهان ويزد، اللتان تعانيان من أزمة مياه منذ أعوام، على نظام تقنين أسبوعي لمياه الزراعة، فيما أفاد المزارعون أن حقول الحبوب وبساتين الفستق وصلت إلى حد الجفاف الكامل.
وفي أذربيجان الشرقية، صدرت إخطارات بقطع المياه عن عشرات القرى، فيما هبط ضغط المياه إلى الصفر في بعض المناطق. وصرح المدير التنفيذي لشركة المياه والصرف الصحي في البلاد، هاشم أميني، بأن أكثر من 50 مدينة إيرانية على حافة أزمة مائية خطرة.
غير أن التحذير الأبرز يتمثل في أن عدد السدود التي انخفض مخزونها إلى أقل من خمسة في المئة من طاقتها الإجمالية قفز خلال 20 يوماً فقط من ثمانية سدود إلى 32 سداً، وهي وتيرة هبوط لم تسجل منذ نصف قرن.
خريف بلا مطر وشتاء غامض
تزايد شعور المجتمع بالإحباط تجاه تحسن الأوضاع مع الاطلاع على خرائط الأرصاد الجوية. فالشهر الثاني من الخريف انتهى من دون أن تشهد معظم مناطق البلاد أمواجاً مطرية مؤثرة، إذ اقتصر هطول الأمطار على الشمال، بينما بقيت المناطق الوسطى والشرقية والجنوب الشرقية جافة بالكامل.
وبحسب توقعات هيئة الأرصاد الجوية، فإن الموجة المطرية الأكثر احتمالاً في المناطق قليلة الهطول لن تصل قبل بداية ديسمبر المقبل، غير أن تكرار فشل التنبؤات المطرية هذا العام جعل الآمال في ترميم مخزون السدود ضعيفة للغاية.
ويؤكد خبراء المناخ أنه، حتى لو وصلت أمطار الخريف والشتاء هذا العام إلى الحدود الطبيعية، فلن تكون قادرة على تعويض النقص الهائل في مخزون السدود.
ويرى المختصون أن إيران تعيش حالة من الجفاف المزمن الذي بدأ مطلع العقد الأول من القرن الحالي، وبلغ اليوم مرحلة لم تعد جفافاً مناخياً فحسب، بل جفافاً هيدرولوجياً وإدارياً أيضاً.
ويعني الجفاف الهيدرولوجي أن المتساقطات المتقطعة عند حدوثها لن توفر سوى حصة محدودة للتخزين الجديد، لأن التربة والمياه الجوفية ومخازن السدود استنزفت إلى درجة أن قسماً كبيراً من الأمطار سيذهب لتعويض العجز المتراكم من الأعوام الماضية.
السياسات المائية التي لم تتغير
غير أن الجانب الأهم في الأزمة يعود إلى إدارة الموارد المائية. ويؤكد خبراء البيئة أن مساهمة السياسات البشرية المدمرة في تفاقم هذه الأزمة لا تقل عن تأثير التغيرات المناخية.
فمشاريع نقل المياه بين الأحواض، والتوسع العمراني والصناعي من دون مراعاة القدرة البيئية، والاستخراج المفرط للمياه الجوفية، وبناء السدود غير الضرورية، وغياب نموذج استهلاك رشيد، جميعها سياسات مضت فيها وزارة الطاقة والجهات المعنية على مدى العقود الماضية.
وتبرز التداعيات الواضحة لهذه السياسات في جفاف المستنقعات، وهبوط الأرض، والعواصف الغبارية المحلية، وتدمير الأنهار، وأزمة غابات الشمال، وهي الغابات التي شهدت خلال الأعوام الأخيرة حرائق متكررة، ويصفها الخبراء بأنها أكثر الموروثات الطبيعية إنهاكاً في البلاد.
واليوم، مع التراجع غير المسبوق في مخزون السدود، تبدو كلفة أعوام من الإدارة الخطأ أوضح من أي وقت مضى. وأن استمرار سياسات نقل المياه والزراعة عالية الاستهلاك وغياب خطط فعلية لخفض الاستهلاك الحضري يعزز أيضاً احتمال أن تواجه إيران في الأعوام المقبلة سيناريوهات أشد خطورة، وهي سيناريوهات يصفها بعض الباحثين بأنها اقتراب تدريجي من الإفلاس المائي.
أزمة وتحذير
إن شح المياه في إيران اليوم ليس مجرد أزمة مياه فحسب، بل أزمة تتعلق بقدرة المدن على الصمود وبالأمن الغذائي والهجرة المناخية وإدارة الاستهلاك والثقة العامة. فعندما يكون معدل الاستهلاك في جزء من المدينة أضعاف ما هو في جزء آخر، وعندما تفرغ السدود في غضون شهر واحد بسرعة كبيرة، وحين تمتد سياسة التقنين من طهران ومشهد إلى القرى الصغيرة، فهذه ليست إشارة إلى عام جاف فحسب، بل علامة على أزمة كبرى ستتكرر كل عام ما لم تجرَ إصلاحات جوهرية في بنية إدارة الموارد المائية.
تقف إيران اليوم عند نقطة لم يعد استمرار المسار السابق فيها ممكناً، وإذا لم تصحح إدارة الموارد المائية بالتوازي مع تعديل أنماط الاستهلاك ووقف المشاريع المدمرة، فإن جفاف عام 2025 قد لا يكون سوى مقدمة لأعوام يصبح فيها تقنين المياه جزءاً دائماً من حياة الإيرانيين.
نقلاً عن "اندبندنت فارسية"