ملخص
أوكرانيا، على رغم الحرب والغزو، تبني منظومة عدالة يقودها الناجون لمواجهة العنف الجنسي فور وقوعه، مستندة إلى القانون الدولي وتجاربهم المباشرة، لتقدم نموذجاً جديداً عالمياً يدمج العدالة في الاستجابات الإنسانية ويجعلها أداة حماية وردع لا مجرد عقاب.
على رغم دخولها في حرب دامية واحتلال قوات العدو أجزاء من أراضيها، تنكب أوكرانيا على بناء منظومة متفردة قد تبدل طبيعة الصراعات العالمية وطرق الاستجابة لها خلال الأعوام المقبلة.
ومنذ أطلقت روسيا غزوها الواسع في فبراير (شباط) 2022، تتالت تقارير عن ممارسة القوات الروسية اعتداءات جنسية ضد المدنيين، شملت النساء والرجال والأطفال. ووصف الضحايا الناجون الاعتداءات بأنها تتنوع ما بين الاغتصاب والاختطاف والإذلال. وهذه الأفعال ليست عشوائية، إذ كثيراً ما استخدم العنف الجنسي كسلاح حربي يهدف إلى ترهيب المجتمعات وزعزعة استقرارها ومعاقبة من يقاومون الاحتلال. وكجزء من حملة منهجية للترهيب والسيطرة، شوهد العنف الجنسي في الحروب عبر التاريخ، من بنغلادش إلى البوسنة، ومن سوريا إلى الاتحاد السوفياتي خلال عهد ستالين.
ومن "المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة" إلى توثيق جرائم تنظيم "داعش" ضد الإيزيديين، يتكرر نمط مألوف: ترتكب الفظائع، وإن تحققت العدالة فإنها لا تأتي إلا بعد أعوام، وأحياناً عقود طويلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من خلال اختيارها مواجهة العنف الجنسي المرتبط بالنزاع بصورة مباشرة أثناء استمرار الحرب، تسعى أوكرانيا إلى كسر تلك الحلقة. وطورت هذه المقاربة بالتعاون مع الناجين أنفسهم، لا لمصلحتهم فقط، مما يجعلها قادرة على تغيير طريقة تحقيق العدالة في أوضاع النزاعات عالمياً.
ومنذ بداية تلك الحرب، سجلت 363 حالة عنف جنسي متصل بالصراع ضد مدنيين أوكرانيين، ووثقت رسمياً. ويعرف من يعملون في مناطق النزاع أن ذلك الرقم لا يمثل سوى الجزء الظاهر من أزمة أعمق بكثير. وتتآزر أحاسيس العار والوصمة والخطر على إسكات معظم الضحايا الناجين، فيما ينعم معظم المعتدين بالإفلات من العقاب.
وإن ما يصنع الفارق في حالة أوكرانيا ليس عدم حدوث تلك الجرائم، بل إن البلاد تعكف على بناء منظومة عدالة لمواجهة المعتدين بصورة فورية، مما يعني أن العدالة لن ترجأ إلى نهاية الحرب، بل سيصار إلى تنفيذها في خضم المعارك.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) عام 2024، شهدت أوكرانيا تحولاً هادئاً لكنه تاريخي. فقد دعي الناجون من العنف الجنسي إلى الجلوس جنباً إلى جنب مع المدعين والمحققين من وحدة الجرائم الجنسية التابعة لمكتب النائب العام، إضافة إلى الشرطة الوطنية وجهاز الأمن، للمشاركة في نقاشات صريحة ومؤلمة أحياناً ساعدوا من خلالها في صياغة الإجراءات التي ستنظم كيفية التعامل مع قضاياهم.
وبالاستعانة بخبراء، بينهم الدكتورة إنغريد إليوت من مبادرة بريطانيا لمنع العنف الجنسي في النزاعات ومنظمة "غلوبال رايتس كومبلاينس" Global Rights Compliance، أنجزت فرقة العمل الأوكرانية الجديدة، المتعددة الجهات، مجموعة مفصلة من الإجراءات التشغيلية المعيارية التي ستوجه كل تحقيق يتعلق بالعنف الجنسي المرتبط بالنزاع. والنتيجة نظام يرتكز على فهم الصدمة، ويقوم على أسس قانونية متينة، ويضع الناجين في صلب العملية.
وبات كل ناجٍ اليوم يتعامل مع جهة اتصال واحدة طوال مراحل قضيته بغية تجنيب الناجي مكابدة إعادة معايشة الصدمة. ويخضع جميع المحققين لتدريب إلزامي حول الصدمات، وتضمن السرية والموافقة المستنيرة في كل خطوة من خطوات التعامل مع القضايا.
ويتناقض هذا النموذج المتمحور حول الناجي، وبصورة حادة، مع جهود دولية سابقة في ذلك المجال. وحينما تشكلت "المحكمة الجنائية الدولية لرواندا" عام 1994، لم يدرج الاغتصاب ضمن لوائح الاتهام. واستغرق الأمر أربعة أعوام، إضافة إلى إدانة العمدة الرواندي السابق جان-بول آكايسو عام 1998، كي يعترف بالاغتصاب بوصفه من أعمال الإبادة الجماعية.
وترفض أوكرانيا تكرار ذاك الخطأ. وتعمل على إرساء بنية قانونية لتطبيق العدالة أثناء استمرار حدوث الجرائم.
ويضرب ذلك الإطار جذوره عميقاً في القانون الدولي. وقد أدرجت أوكرانيا "ميثاق إسطنبول" و"مدونة مراد" [مدونة قواعد سلوك عالمية في شأن تحسين جمع المعلومات من الناجيات والناجين من العنف الجنسي في النزاع ويعود اسمها للعراقية الإيزيدية نادية مراد الحاصلة على "جائزة نوبل للسلام"] وتوجيهات الاتحاد الأوروبي في بنيتها القانونية الداخلية، وجمعت بين حماية الناجين مع "قانون الإجراءات الجنائية". وبصورة محورية وحاسمة، يعترف الإطار بالضحايا الرجال، ويزيل وصمة العار التي كثيراً ما ردعت عدداً كبيراً عن التبليغ بالاعتداءات.
وربما تمثل الجانب الأكثر أهمية في أن ذلك الإطار صنيعة أوكرانية. وفشلت مجموعة من منظومات العدالة ما بعد النزاعات لأنها فرضت من الخارج. وتكمن فاعلية النموذج الأوكراني في انبثاقه من واقع البلاد وقيمها الديمقراطية وتصميمها على السعي إلى العدالة حتى أثناء الغزو.
ويذهب تأثير ذلك إلى أبعد من حدود أوكرانيا. وقد تتبنى بلدان عدة بصورة فورية جوانب من ذلك النموذج، بما في ذلك السودان وميانمار وجمهورية الكونغو الديمقراطية. والآن، بات في حوزة الأمم المتحدة و"المحكمة الجنائية الدولية"، نموذجاً أولياً عن إدماج آليات العدالة ضمن الاستجابات الإنسانية منذ لحظة اندلاع الصراع. وإذا تعلمت المؤسسات الدولية من أوكرانيا، فستضحي العدالة أقرب إلى النشاط الإيجابي من كونها رد فعل، ويعني ذلك أن تصبح أداة للحماية والردع، ولا تكتفي بالعقاب.
منحوتة "الناجون المشلولون بالخوف" Petrified Survivors – النصب التذكاري العالمي لضحايا العنف الجنسي في النزاعات – تجسد الفلسفة ذاتها التي يشكل الناجون صلبها وتقوم عليها إصلاحات العدالة في أوكرانيا. وأنشئت المنحوتة بالتعاون مع أكثر من 20 منظمة معنية بالعنف الجنسي في النزاعات، وهي معروضة حالياً في برلين، وجرى تطوير كل عنصر فيها عبر أعوام من المشاورات مع مجموعات الناجين حول العالم.
والناجون الأوكرانيون شاركوا بصورة مباشرة في صياغة المنحوتة، واختاروا زهرة دوار الشمس رمزاً للصمود والسلام والهوية الوطنية. واليوم أصبحت هذه الزهرة شعاراً قوياً للتضامن الدولي مع الناجين، وتحية تليق بشجاعتهم وقوتهم وقدرتهم على الفعل.
وفي وقت يتعرض القانون الدولي للضغوط، وتتزايد جرائم الحرب عالمياً، تقدم أوكرانيا نموذجاً جديداً للقيادة. وتثبت أنه حتى في خضم الغزو، سمو القانون أمر ممكن، وأن الضحايا الناجين يستطيعون المساعدة في تصميم منظومات تتولى حمايتهم. ويظهر النموذج الأوكراني أن العدالة التي يقودها الناجون من الممكن المباشرة بها فوراً، وليس بعد عقود عدة.
وأظهرت أوكرانيا للعالم ما يمكن فعله. والآن، على العالم أن يتصرف بناء عليه.
© The Independent