Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خسارة أميركا دعم الدول المتأرجحة

واشنطن تدفع أعضاء الـ "بريكس" نحو التحول لكتلة تعادي الولايات المتحدة

قادة دول الـ "بريكس" خلال قمة جمعتهم في ريو دي جانيرو- البرازيل، يوليو (تموز) 2025 (رويترز)

ملخص

تدفع سياسات ترمب التصادمية دول الـ "بريكس" المتأرجحة، مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، إلى أحضان الصين وروسيا، مما يهدد بتحول المجموعة إلى كتلة معادية للغرب، ويضعف النفوذ الأميركي عالمياً عبر مساعٍ محتملة إلى إلغاء هيمنة الدولار وإنشاء نظام اقتصادي بديل يقلص قوة واشنطن المالية والسياسية.

وسط المعركة الدولية القائمة لتشكيل النظام العالمي، بات لمجموعة الـ "بريكس"، وتضم 10 دول يتشكل اسمها من الأحرف الأولى لأسماء أعضائها الخمسة الأول (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، اليوم أهمية متزايدة، وتمثل المجموعة قرابة ثلث الاقتصاد العالمي (إجمال الناتج المحلي الدولي) ونحو نصف سكان العالم، وهي قامت كي تمنح البلدان الواقعة ضمن ما يعرف بـ "الجنوب العالمي" تأثيراً أكبر في الساحة الدولية.

يسهم هذا الأمر ربما في جعل الـ "بريكس" تبدو بطبيعتها مجموعة معادية للغرب، فهي جزئياً بالنهاية تأسست على يد بكين وموسكو، بيد أن الـ "بريكس" وطوال الجزء الأكبر من تاريخها البالغ 16 عاماً، لم تضع نفسها في موقع معارض للولايات المتحدة وحلفائها، حتى إن كثيراً من الدول الأعضاء في المجموعة كثيراً ما كانوا حلفاء للولايات المتحدة، وقد أقامت واشنطن مثلاً علاقات تجارية قوية مع البرازيل، كما تعاونت وتتعاون مع الهند وإندونيسيا في مسائل الدفاع.

لكن جزءاً كبيراً من هذه الصورة اليوم يبدو في حال تبدل، فالصين وروسيا كثفتا جهودهما طوال عقد الأعوام الماضي كي تدفعا الدول الأخرى الأعضاء في الـ "بريكس" نحو تبني وجهة نظر للعالم متعارضة مع مصالح واشنطن، وقد غدت الصين في هذا الإطار الشريك التجاري الأول للبرازيل وتقوم بدعم جهود هذا البلد (البرازيل) لتقليص اعتماده على الدولار الأميركي، وكذلك تقوم روسيا من جهتها ببيع الهند كميات ضخمة من النفط، وقد سعت كل من الصين وروسيا إلى استمالة جنوب أفريقيا للشراكة، وذلك في سياق مقاومة "كولونيالية" النظام الذي تقوده الولايات المتحدة، وفق توصيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وفي الأثناء قامت الولايات المتحدة بتوتير علاقاتها مع دول صديقة منضوية في الـ "بريكس"، إذ لم يسبق للعلاقات الأميركية - الهندية أن اتسمت بهذا الحد من البرودة منذ عام 1998، حين فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الهند بسبب إجرائها تجارب على الأسلحة النووية، وفي سبتمبر (أيلول) الماضي قال نائب وزير الخارجية (الأميركي)، كريس لانداو، إن العلاقات الأميركية - البرازيلية تمر في "أحلك مراحلها منذ قرنين من الزمن"، وقد بلغت العلاقات مع جنوب أفريقيا أدنى هشاشتها منذ نهاية نظام الفصل العنصري عام 1994.

تختلف أسباب تدهور العلاقات في كل حال من هذه الحالات وبعض مظالم واشنطن ضد البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، الدول المتأرجحة التي ستسهم في تقرير هوية البلد الذي سيقود العالم، يبدو مظالم مشروعة، لكن إدارة ترمب وفي جميع الحالات المذكورة جعلت العلاقات تسوء أكثر بكثير مما ينبغي، ولأسباب يصعب توفيقها مع المصالح الوطنية الأميركية، وقد برز في النتيجة خطر جديد يتمثل في احتمال تبلور مجموعة الـ "بريكس" ككتلة تمتاز بحيوية أكبر، وتعادي الغرب وتخضع على نحو متزايد لهيمنة الصين وروسيا، وإن لم تغير الولايات المتحدة نهج سياساتها في أمد قريب فإنها على المدى البعيد ستدفع ثمن عملية إعادة التموضع التي قامت بها.

تداعي الأمور

لقد كان الديمقراطيون والجمهوريون لغاية هذا العام متوافقين على أن بناء علاقات أفضل بين الولايات المتحدة والهند أمر يستحق العناء، إذ إن فوائد ذلك كانت جلية لصناع السياسات بغض النظر عن ولاءاتهم الحزبية، فهم أدركوا إمكان الهند في المساعدة بتحقيق التوازن في مواجهة القوة الصينية بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، كذلك أدركوا أن الهند من موقعها كاقتصاد رئيس هو الأسرع نمواً (في العالم)، وفرت أرباح ومكاسب اقتصادية كبيرة للمستثمرين الأميركيين، إذ إنها تشكل الديمقراطية الأكبر في العالم، ومن المتوقع أن تغدو الدولة الأعلى كثافة سكانية عالمياً، كما هي الآن.

وكانت العلاقات الأميركية - الهندية التي تجمدت خلال الحرب الباردة بدأت بالتحرك أواخر فترة رئاسة كلينتون واستمرت بالتحسن في عهد كل رئيس أميركي ورئيس وزراء هندي منذ ذلك الحين، وقد أسفرت جهود بذلها الأميركيون من الحزبين (الديمقراطي والجمهوري) لتحسين العلاقات عن سلسلة من الإنجازات الأساس والملموسة في هذا الإطار، فتوصل البلدان عام 2008 إلى اتفاق حاسم أنهى العزلة النووية الطويلة التي عانتها الهند، وذلك عبر السماح لانطلاق التجارة النووية المدنية مع هذا البلد، على رغم عدم توقيع نيودلهي معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وخلال الأعوام التي تلت مذ ذاك حقق البلدان (الولايات المتحدة والهند) معدل مبيعات أسلحة بلغ قرابة 20 مليار دولار، وقد قام الكونغرس الأميركي عام 2016 بتصنيف الهند "شريكاً دفاعياً أساسياً"، التصنيف الذي يسمح لها بشراء تكنولوجيا عسكرية أميركية متطورة، وخلال ولايته الرئاسية الأولى تقرّب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وقد أعادت واشنطن عام 2017 إحياء (حلف) "الرباعية" الذي يركز على أمن منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ويضم أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة، كما استندت إدارة بايدن إلى صيغة التحالف المذكور عبر إطلاق شراكة تكنولوجية أسهمت في تطوير العلاقات الصناعية الدفاعية بين الولايات المتحدة والهند، وبعد تولي ترمب ولايته الرئاسية الثانية كان مودي من أول زعماء العالم الذين زاروا البيت الأبيض.

بعد ذلك، وفي حركة خاطفة من دون تردد، قام ترمب بقلب العلاقة مع الهند رأساً على عقب، فهو استعدى نيودلهي بداية عبر حديثه المتكرر عن إيقافه الصدام بين الهند وباكستان في كشمير خلال مايو (أيار) الماضي، الزعم الذي ترفضه نيودلهي، وعبر استضافته رئيس أركان الجيش الباكستاني في البيت الأبيض خلال يونيو (حزيران) الماضي، ووفق "نيويورك تايمز" لم يعد ترمب يخطط لحضور اجتماع قمة "الرباعية"، المقرر عقده في نيودلهي خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، والآن قد يجري إلغاء اجتماع القمة هذا، وكذلك قام ترمب بفرض تعرفات جمركية على الهند بـ 50 في المئة، تتضمن زيادة 25 في المئة كعقاب على شراء النفط الروسي، مهدداً بفرض تعرفات جمركية إضافية بـ 10 في المئة على أية دولة تسلك سبيل "السياسات المعادية لأميركا" التي تنتهجها مجموعة الـ "بريكس"، وقد نددت الهند من جهتها بالتعرفات الجمركية، وعدتها "غير عادلة وغير مبررة وغير منطقية"، وتقوم منذ ذلك الحين بتعزيز تعاونها مع روسيا والصين. وفي هذا السياق، وخلال أغسطس (آب) الماضي اتفقت نيودلهي وموسكو على توسيع العلاقات الثنائية بينهما في مجال التجارة، وفي سبتمبر الماضي قام مودي بزيارته الأولى للصين منذ سبعة أعوام لحضور اجتماع لـ "منظمة شانغهاي للتعاون"، وظهر في تلك الفعالية ممسكاً بيدي بوتين والزعيم الصيني شي جينبينغ.

لقد قامت الولايات المتحدة بتوتير علاقاتها مع دول صديقة ضمن مجموعة الـ "بريكس"

لم تكن علاقات واشنطن الثنائية مع البرازيل يوماً قريبة أو طموحة أو ذات أثر إستراتيجي طويل المدى كما كانت مع الهند، لكن الإدارات الأميركية المتعاقبة رأت أيضاً فائدة في التعاون مع برازيليا، فقد نمت علاقات التجارة والاستثمار باطراد خلال العقود الأخيرة، وتتمتع الولايات المتحدة بفائض تجاري في السلع يبلغ نحو 6.8 مليار دولار عام 2024، كما تعاون البلدان لعقود في مجالي الأمن ومكافحة المخدرات، ووقعا عدداً من الاتفاقات التي تربط شركاتهما في قطاع التكنولوجيا الدفاعية، وخلال ولايته الأولى أقام ترمب علاقات شخصية وثيقة مع الرئيس البرازيلي آنذاك جايير بولسونارو، وصنفت واشنطن البرازيل في عداد حلفائها الرئيسين من خارج الـ "ناتو".

بعدها، ومثلما حصل مع الهند، أدت عودة ترمب للرئاسة إلى وضع تلك العلاقات في مسار انحداري، ويبدو الجزء الأكبر من غضب ترمب تجاه البرازيل اليوم مرتبطاً بقرار هذا البلد محاكمة بولسونارو بسبب محاولته الانقلابية إثر خسارته الانتخابات عام 2022، التي ذكّرت ترمب على ما يبدو بمشكلاته القضائية الناتجة من مهاجمة أنصاره مبنى الـ "كابيتول" الأميركي في يناير (كانون الثاني) 2021، وفي يوليو (تموز) الماضي رفعت إدارة ترمب التعرفات الجمركية على البرازيل إلى 50 في المئة، مشيرة إلى حملة "مطاردة الساحرات" التي تجردها السلطات البرازيلية بحق بولسونارو، وكذلك استخدمت إدارة ترمب "قانون ماغنيتسكي الدولي" المخصص لمعاقبة أطراف أجنبية على انتهاكات حقوق الإنسان، وذلك لمعاقبة مسؤولين برازيليين مشاركين في محاكمة بولسونارو، بينهم رئيس المحكمة العليا البرازيلية وزوجته.

وفي سياق متصل، تبدو جذور مشكلات الولايات المتحدة مع جنوب أفريقيا سابقة لترمب بزمن طويل، إذ تزعم بريتوريا أنها تدعم حقوق الإنسان لكنها تميل إلى إدانة الظلم الصادر من الولايات المتحدة وحلفائها، فيما تتجاهل ما يصدر من الصين وروسيا، وقامت جنوب أفريقيا، على سبيل المثال، باتهام إسرائيل أمام "محكمة العدل الدولية" في ارتكاب إبادة في غزة، لكن عندما غزت روسيا أوكرانيا فإنها امتنعت مراراً من التصويت في الأمم المتحدة حول تلك الحرب، مثيرة غضب المسؤولين في واشنطن، وفي عام 2023 اتهم السفير الأميركي في بريتوريا جنوب أفريقيا بالسماح لسفينة روسية خاضعة للعقوبات الأميركية، وهي السفينة "ليدي آر" Lady R ، بتحميل أسلحة من قاعدة بحرية جنوب أفريقية، حتى إنه قدّم في عام 2024 مشروعاً في الكونغرس الأميركي يقضي بمراجعة علاقة الولايات المتحدة بجنوب أفريقيا، مما يشير إلى إحباط واسع النطاق في أوساط صناع السياسة الأميركيين تجاه بريتوريا.

على أن العلاقات بين جنوب أفريقيا والولايات المتحدة شهدت مزيداً من التدهور منذ أن عاد ترمب للرئاسة، وقد اتهم الرئيس الأميركي جنوب أفريقيا بشن إبادة جماعية بحق المزارعين البيض، الاتهام الذي يرفضه معظم المراقبين، كما بادر إلى خلق صيغة في سياسة الهجرة الأميركية تعطي الأولوية للاجئين الأفريكانيين [السكان البيض في جنوب أفريقيا]، على رغم تعليقه سياسة استقبال اللاجئين القادمين إلى الولايات المتحدة من أمكنة أخرى، وفي مارس (آذار) الماضي قامت إدارة ترمب بطرد سفير جنوب أفريقيا من الولايات المتحدة لزعمه أن حركة ترمب السياسية تندفع من "غريزة تفوق العرق الأبيض"، ثم في مايو عرض ترمب أمام رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا مقطع فيديو زعم أنه لأعمال عنف ترتكب ضد مزارعين بيض في جنوب أفريقيا، كما زود رامافوزا بمجموعة مقالات قال إنها تصف (حالات) "الموت.. الموت.. الموت الفظيع" (أي أعمال القتل) التي يتعرض لها البيض في جنوب أفريقيا، وفي أغسطس الماضي فرض ترمب تعرفات جمركية على جنوب أفريقيا بلغت 30 في المئة.

جدار من حجارة طوب

لدى الولايات المتحدة شكاوى ومظالم مشروعة تجاه البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، فنيودلهي اعتمدت تاريخياً سياسة تجارية حمائية بمتوسط معدل تعرفات جمركية يبلغ 12 في المئة، وقد بدأت بشراء النفط الروسي بكميات كبيرة بعد اجتياح روسيا لأوكرانيا كي تستفيد من أسعار النفط المخفضة بفعل العقوبات، أما البرازيل التي تحافظ على موقف سياسي يحمل روسيا وأوكرانيا مسؤولية متساوية تجاه الحرب، فقد بذلت في السياق جهوداً لتقليص اعتمادها على الدولار الأميركي، وتقوم بانتقاد واشنطن لفرضها عقوبات على فنزويلا، ساعية علناً إلى توجه "جيوسياسي جديد" أقل خضوعاً للهيمنة الأميركية، ويتحدث صناع السياسة في جنوب أفريقيا بالإطار عينه عن التحرر من النظام العالمي الجائر الذي فرضه الغرب، وذلك بموازاة حفاظهم على علاقات وثيقة مع بكين وموسكو، وحتى مع "حماس".

ومع ذلك فإن دفع واشنطن هذه الدول المتأرجحة بعيداً منها يُعد خطأً فادحاً، فالصين وروسيا تتنافسان بقوة مع الولايات المتحدة على كسب نفوذ لدى هذه الدول، لذا تجد البرازيل والهند وجنوب أفريقيا نفسها عالقة بين معسكر ليبرالي نسبياً تقوده واشنطن، ومحور تعديلي [يسعى إلى تغيير النظام الدولي] يضم الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا، ومن غير المرجح أن تنجح الولايات المتحدة في استقطاب هذه الدول بالكامل إلى صفها، إذ تفضل هي الإبقاء على علاقات متوازنة مع بكين وموسكو وواشنطن في الوقت نفسه، لكن إذا واصلت الولايات المتحدة استفزاز هذه الدول فقد تدفعها فعلاً إلى الابتعاد منها.

ومن مصلحة الولايات المتحدة أن ترى دول الـ "بريكس" منقسمة في فريقين: واحد يضم الصين وروسيا، وهو الذي يناوئ الولايات المتحدة، وآخر مؤلف من البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، الدول التي لا تتعارض تلقائياً مع واشنطن، وعندما تكون مجموعة الـ "بريكس" منقسمة وفي حال استقطاب يتراجع احتمال معارضتها مصالح واشنطن، لكن إن تمكن الفريق الأول من السيطرة وفرض إرادته فإن القوة الأميركية ستواجه متاعب ولا بد، إذ قد تقوم مجموعة الـ "بريكس" مثلاً ببذل جهود منسقة لإلغاء اعتماد الدولار في التجارة، وتقوم بابتكار أنظمة تسديد مالي بديلة تؤدي إلى تهاوي هيمنة النظام الاقتصادي الأميركي الدولية، وإلى إضعاف أحد الركائز الأساس للنفوذ الأميركي وفعالية العقوبات التي تعتمدها واشنطن، وإن قامت مجموعة الـ "بريكس" جماعياً بزيادة استثماراتها في مؤسسات بديلة، مثل "بنك التنمية الجديد" و"صندوق الاحتياط النقدي"، فإن المؤسسات المالية الموجودة راهناً، والتي تقودها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، مثل "صندوق النقد الدولي"، قد تخسر نفوذها، كما ستكسب الصين وروسيا في الإطار فرصاً أكثر لتوسعة مجالات نفوذهما في منطقة الجنوب العالمي، مما سيعرض مصالح الولايات المتحدة في تلك المناطق لخطر أكبر.

عندما تكون مجموعة الـ "بريكس" منقسمة على نفسها يتراجع احتمال معارضتها لمصالح الولايات المتحدة

وهنا فبدلاً من تنفير تلك الدول المتأرجحة في المسرح الدولي على الولايات المتحدة أن تعمل وتتعاون معها، إذ بوسع واشنطن مثلاً التعاون مع البرازيل لتنويع سلاسل توريدها لأشباه الموصلات، وموازنة النفوذ الصيني في أميركا اللاتينية، كما أن الهند تبقى لاعباً أساساً في منطقة الهندي والهادئ، فيتعين على واشنطن الاستمرار في استخدام حلف "الرباعية" لموازنة القوة الصينية (هناك في تلك المنطقة الحساسة)، وإن قامت واشنطن بتوقيع اتفاق تجارية مع بريتوريا فقد يغري المسؤولون الأميركيون جنوب أفريقيا للتعاون مع الولايات المتحدة في جهودها الدبلوماسية بمختلف أنحاء القارة الأفريقية، فهذه البلدان الثلاثة جميعها تتمتع بإمكان الوصول إلى المعادن الحيوية التي يمكنها من مساعدة الولايات المتحدة في تنويع مصادرها وعدم الاعتماد حصراً على موردين خصوم.

ومن المفارقة في هذا السياق أن إدارة ترمب، وفي بعض النواحي، تتمتع بوضع جيد على نحو غير عادي لإعادة بناء تلك العلاقات، إذ ما من رئيس أميركي في ذاكرتنا كان أقل تقيداً بالسياسات الموجودة، أو أكثر استعداداً لتبديل مسار سياساته، فإدارة ترمب مثلاً انتقلت، بين ليلة وضحاها، من الاحتضان الشديد للهند إلى موقف يندد بها، كما أن ترمب خلال الأشهر القليلة الماضية بدا عاجزاً عن تحديد من سينتصر في الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا، فراح يبدل في السياق هدف الضغوط التي يمارسها، والسياسة الخارجية الأميركية تتبدل بسرعة في هذه الأيام.

لكن حتى لو أحرزت الولايات المتحدة تقدماً كبيراً في سياق علاقاتها مع البرازيل والهند وجنوب أفريقيا فسيبقى هناك بعض الأضرار، فذكرى المواقف الأميركية المتقلبة لا تزول بسهولة، وحال الهند هنا تشكل مثالاً على ذلك، فلقد استلزم واشنطن ونيودلهي عقوداً كي تتجاوزا انعدام الثقة المتبادل بينها نتيجة الحرب الباردة حين كانت الهند قريبة من الاتحاد السوفياتي، فيما كانت الولايات المتحدة داخلة في شراكة مع باكستان، ولا  يزال صناع السياسة الهنود إلى اليوم يذكرون الدبلوماسيين الأميركيين بمسألة دعم الولايات المتحدة لباكستان خلال الحرب الهندية - الباكستانية عام 1971، وإرسال واشنطن قوة عمليات بحرية إلى خليج البنغال، لذا حتى لو غيرت الإدارة الأميركية سياستها في لحظة واحدة فلن تقوم دولة متعددة التحالفات مثل الهند، بالتحول فجأة وكلياً إلى معسكر الولايات المتحدة.

بيد أن ذلك لا يشكل مبرراً لعدم المحاولة، وإن فشلت واشنطن في تحسين علاقاتها ولو على نحو طفيف مع البرازيل والهند وجنوب أفريقيا، فستشرب بكين وموسكو نخب حسن حظهما.

 

ريتشارد فونتين هو الرئيس التنفيذي لـ "مركز الأمن الأميركي الجديد"، وعمل سابقاً في وزارة الخارجية الأميركية ومجلس الأمن القومي، كما شغل منصب مستشار للسياسة الخارجية لدى السيناتور الأميركي جون ماكين.

غيبس ماكينلي باحثة مساعدة للرئيس التنفيذي في مركز "الأمن الأميركي الجديد"، عملت سابقاً في "المعهد الجمهوري الدولي" ضمن برنامج مكافحة النفوذ السلطوي الأجنبي.

مترجم عن "فورين أفيرز"، 27 أكتوبر (تشرين الأول)، 2025

اقرأ المزيد

المزيد من آراء