Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الترمبية"… عقيدة السلطة والشعبوية في السياسة الأميركية

ظاهرة أصبحت مصطلحاً ضمن العلوم السياسية ولها أتباع داخل الولايات المتحدة والعالم

تعرف "الترمبية" بأنها ظاهرة سياسية واجتماعية نشأت مع صعود ترمب عام 2015 (اندبندنت عربية)

ملخص

"الترمبية" ظاهرة سياسية واجتماعية تمزج بين الشعبوية اليمينية والقومية الأميركية ونزعة سلطوية، نشأت مع صعود دونالد ترمب لكنها تمتد فكرياً إلى تيارات "المحافظة القديمة" في تاريخ أميركا.

شهد العالم خلال الربع الأول من القرن الـ21 واحدة من أكثر الظواهر السياسية إثارة للجدل في التاريخ الحديث، ومنذ صعود الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى المشهد السياسي بدأ يتبلور تيار جديد حمل أفكاره وشعاراته، ثم تجاوز شخصه ليصبح حركة فكرية واجتماعية تعبر عن مزيج من الشعبوية والقومية الأميركية، بات يعرف اليوم باسم "الترمبية".

ومع أن الظاهرة ارتبطت بترمب شخصياً إلا أن جذورها تمتد إلى قرون أبعد، إذ تتقاطع مع أفكار أميركية قديمة تعود إلى الرئيس الأميركي السابع أندرو جاكسون خلال القرن الـ19 الميلادي، الذي دعا إلى تقليص التدخلات الخارجية والتركيز على المصالح الوطنية، وهي الفكرة ذاتها التي أعاد ترمب لاحقاً بعثها في شعاره الأشهر "أميركا أولاً"، الذي مثل جوهر مشروعه السياسي.

ومع اتساع الفجوة في الداخل الأميركي الغاضب، تحولت "الترمبية" إلى أسلوب في الحكم أكثر من كونها برنامجاً سياسياً، وإلى مدرسة جديدة في فهم العلاقة بين القائد والشعب تقوم على المواجهة المباشرة وتحتفي بالاضطراب كوسيلة للتغيير.

وثمة ركائز أساس تقوم عليها "الترمبية" تمثلت في أسلوبها السياسي والإعلامي، أبرزها المواجهة مع الإعلام التقليدي ومزيج من الشعبوية والقومية والسياسة الحمائية المتعلقة بحماية المصالح الاقتصادية الأميركية، والانعزالية السياسية التي انبثقت لتغليب المصلحة القومية والرغبة في ألا تتحمل الولايات المتحدة أية كلفة جراء مشاركتها في أية أعمال عسكرية خارج حدود البلاد، ومنطق الصفقات التي تميز ترمب وتتصدر عقيدته السياسية في إدارة الدولة.

ما هي "الترمبية"؟

تعرف "الترمبية" بأنها ظاهرة سياسية واجتماعية نشأت مع صعود ترمب عام 2015، حين أعلن ترشحه بخطاب صادم هاجم فيه المهاجرين واتهم المكسيك بإرسال "مجرمين ومغتصبين"، واضعاً أول لبنة لمشروع سياسي يتحدى القواعد الليبرالية الراسخة.

وسرعان ما تجاوز هذا الخطاب حدوده الإعلامية إلى حراك شعبي واسع، وجد في ترمب تجسيداً لغضب الأميركيين من العولمة والهجرة والنخب الليبرالية.

وظهرت "الترمبية" ضمن سياق أزمة ثقة عميقة داخل المجتمع الأميركي، ترافقت مع تراجع الطبقة الوسطى الصناعية واتساع الهوة بين المراكز المالية في الساحلين الشرقي والغربي وبين مدن الداخل الأميركي.

 

ونشرت صحيفة "بوليتيكو" الأميركية تقريراً مطولاً للباحث والمؤرخ الأميركي ديفيد غرينبرغ بعنوان "التاريخ الفكري للترمبية"، تناول فيه الجذور العميقة للتيار الذي ارتبط باسم دونالد ترمب، وذكر فيه أن ما يعرف اليوم بـ"الترمبية" ليس مجرد نزعة شخصية أو انفعال سياسي عابر، بل امتداد لأيديولوجيا متجذرة في التاريخ الأميركي تقوم على مزيج من الشعبوية والقومية والنزعة السلطوية.

ويرى غرينبرغ أن ترمب نجح في إعادة إحياء تيار فكري ظل كامناً لعقود، هو ما يعرف بـ"المحافظة القديمة"، التي ظهرت مطلع القرن الـ20 كرد فعل على العولمة والتحولات الاجتماعية والثقافية في أميركا. ويشير الكاتب إلى أن أفكار هذا التيار التي تمزج بين الهوية البيضاء والانغلاق القومي والحمائية الاقتصادية، عادت لتجد صداها ضمن خطاب ترمب، بعدما كانت تراجعت إثر الحرب العالمية الثانية وصعود "الصفقة الجديدة" لفرانكلين روزفلت.

ويقول غرينبرغ إن اليمين الشعبوي الحديث الذي حمل ترمب إلى البيت الأبيض هو الامتداد المباشر لتلك النزعة القديمة التي قاومت التمدن والانفتاح والتعددية. فكما غذت المخاوف من فقدان الهوية الأميركية صعود الحركات اليمينية خلال عشرينيات القرن الماضي، أعادت الأزمات المعاصرة من حرب العراق إلى أزمة عام 2008 الاقتصادية ثم انتخاب الرئيس الأميركي من أصل أفريقي، باراك أوباما، إحياء الحس القومي بين فئات من الأميركيين البيض الذين شعروا بأن بلادهم لم تعد تعكس صورتهم ولا مصالحهم.

ويضيف الكاتب أن "الترمبية" تمثل اليوم تحولاً جوهرياً داخل الحزب الجمهوري، إذ دفعت به إلى أقصى اليمين في قضايا العرق والهجرة، ودفعت بشعارات مثل "أميركا أولاً" إلى صدارة المشهد السياسي. وخلال الوقت نفسه، حملت معها ميلاً نحو الانعزالية في السياسة الخارجية والتراجع عن الالتزام الأميركي بالتعددية والليبرالية الدولية.

وبحسب التقرير، فإن صعود ترمب أعاد إلى الحياة تياراً فكرياً ظل مهمشاً منذ الحرب العالمية الثانية، وأعطاه للمرة الأولى سلطة تنفيذية كاملة من داخل البيت الأبيض. ويخلص غرينبرغ إلى أن "الترمبية" بما تحمله من نزعات قومية وشعبوية، تمثل قطيعة مع القيم التي شكلت العمود الفقري للنظام الأميركي بعد الحرب وتؤدي إلى إعادة تشكيل مفهوم الديمقراطية الأميركية نفسها، لتتحول من نموذج عالمي منفتح إلى تجربة منغلقة على ذاتها تبحث عن مجدٍ ماضٍ في عالم متغير.

امتداد الظاهرة "الترمبية"

وفق قاموس جامعة كامبريدج، فإن "Trumpism" تعني سياسات وأفكار الرئيس دونالد ترمب، لكن بعضاً آخر يراها تتمثل في السعي الواضح من الرئيس الأميركي الـ47 لتأسيس حزب جمهوري جديد لا يكون له علاقات كثيرة بالأفكار التي كان يعمل بها الجمهوريون قبل ظهور ترمب على الساحة السياسية.

وقدم ترمب نفسه باعتباره "صوت الناس ضد النظام"، وهذا جوهر الشعبوية. ووفق دراسة نشرتها كلية "كينيدي" بجامعة هارفرد الأميركية عن صعود الشعبوية داخل الولايات المتحدة، يقوم الخطاب الشعبوي على ثنائية أخلاقية وهي الشعب النقي مقابل النخبة الفاسدة، إذ تقول الدراسة إن ترمب مثل هذا القالب بوضوح عبر تصوير النخبة الإعلامية والسياسية، وحتى القضائية، كجزء من مؤامرة ضد "الأميركي الحقيقي".

وتوضح "نيويورك تايمز" أن هذا الخطاب مثل انقلاباً على المعادلة الكلاسيكية للحزب الجمهوري، الذي انشغل لعقود بخفض الضرائب وتوسيع حرية السوق. ونقل ترمب النقاش نحو حماية المواطن الأميركي من آثار العولمة والهجرة، وصاغ بذلك ما وصفته الصحيفة بـ"القومية الاقتصادية العدوانية"، التي أعادت استقطاب الناخبين البيض من الطبقة العاملة في الولايات الصناعية.

ويصف المراقبون الرئيس الأميركي دونالد ترمب بأنه مثال نموذج واضح للشعبوية، بينما يقدمه أنصاره بوصفه "شعبوياً إيجابياً" يدافع عن مصالح الطبقة العاملة الأميركية.

 

وفي هذا السياق، أشارت الصحافية والسكرتيرة الصحافية السابقة لترمب، كايلي مكيناني، ضمن كتابها "الثورة الأميركية الجديدة: صنع حركة شعبوية" إلى أن ترمب جسد "شعبوية ثورية" تستلهم روح الثورة الأميركية، وتتبنى خطاباً يدعو إلى الحرية ويستنهض الفئات التي شعرت بأن "حكومة فاسدة وغير مبالية" تخلت عنها. وصورت مكيناني ترمب على أنه قائد يستجيب لمخاوف العمال الذين واجهوا تراجع قطاع التصنيع، وتهديدات الجريمة والهجرة والإرهاب.

وفي سياق ذلك، يرى المتخصص في مجال العلوم السياسية داخل جامعة الملك عبدالعزيز ضمن حديث سابق مع "اندبندنت عربية"، أن الرئيس الأميركي ترمب يشكل نموذجاً فريداً بين السياسيين المعاصرين بأسلوبه غير التقليدي في إدارة الشأنين المحلي والدولي، وهو أسلوب يمكن فهمه من خلال عدد من النظريات، لا سيما تلك المرتبطة بعلم النفس السياسي الفردي، إلى جانب استراتيجيات تفاوضية مثل "نظرية المجنون" و"السقف العالي".

لكن اللافت، بحسب الأستاذ الجامعي، أن ترمب لم يعد مجرد ظاهرة فردية بل بات يمثل تياراً أوسع داخل اليمين الأميركي، إذ ظهرت شخصيات سياسية شابة تتبنى ذات المنهجية وتعبر عن امتداد الظاهرة "الترمبية".

ويُرجح أن يواصل هذا التيار تأثيره حتى بعد خروج ترمب من المشهد السياسي المتوقع خلال ثلاثة أعوام، من خلال ما وصفه بـ"مثلث الجنون" المكون من نائب الرئيس جي دي فانس ووزير الخارجية ماركو روبيو (الذي يشغل أيضاً منصب مستشار الأمن القومي)، إلى جانب وزير الحرب بيت هيغسيث.

ويشير الأستاذ الجامعي إلى أن هؤلاء الثلاثة لا يقلون اندفاعاً وشعبوية عن ترمب، بل يبدون عازمين على مواصلة ذات النهج الصدامي في السياسة الخارجية والتفاوض، بأساليب غير مألوفة تمزج بين الجرأة والتكتيك النفسي.

ويضيف أن ما كان يُنظر إليه سابقاً على أنه اجتهاد فردي من ترمب بات اليوم جزءاً من خطة مدروسة لليمين المحافظ في أميركا، الذي يضع أهدافه الاستراتيجية على طاولة السياسة الدولية ويملك أدواته لتحقيقها، وعلى رأسها دونالد ترمب الذي لا يزال يمسك بزمام المبادرة كلاعب أساس في "طريقة اللعب" المتفق عليها داخل التيار.

ويختم الأستاذ الجامعي قائلاً إن قراءة المرحلة الراهنة تتطلب فهماً مزدوجاً، فهماً لاستراتيجيات ترمب وتكتيكاته التفاوضية من جهة، واستشرافاً لمستقبل السياسة الأميركية في ظل صعود قيادات يمينية شابة تتبنى ذات التوجه، وتمثل النسخ القادمة من الظاهرة "الترمبية".

"الترمبية" في الفضاء الرقمي

لم يكن صعود "الترمبية" ممكناً بالوتيرة ذاتها لولا التحول العميق في البيئة الرقمية خلال العقد الأخير، إذ لعبت منصات التواصل الاجتماعي وفي مقدمها "إكس" دوراً مركزياً في صناعة ظاهرة سياسية غير مسبوقة.

واستخدم الرئيس الأميركي دونالد ترمب حسابه الرسمي على المنصة، موجهاً رسائله مباشرة إلى ملايين الأميركيين من دون المرور عبر قنوات الإعلام المحترف.

ووفق تحليل نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، فقد أصبح حساب ترمب على "أكس" "أقوى مكبر صوت سياسي في التاريخ الحديث"، ليس فقط بسبب عدد متابعيه بل نتيجة آلية الانتشار الخوارزمية التي ضاعفت حضور الخطاب التصادمي، ودفعت بمحتواه إلى جمهور واسع يتفاعل مع اللغة المباشرة والاتهامات الحادة، ومثلت هذه المنصة بحسب الصحيفة البنية الأساس لتشكيل القاعدة "الترمبية" وتغذيتها لحظة بلحظة.

وفي السياق ذاته، أظهر مركز "بيو" للأبحاث ضمن دراسة نشرت عام 2020 أن غالبية الأميركيين رأت أن استخدام ترمب المكثف لمنصات التواصل أسهم في "زيادة التوتر السياسي"، لكنه خلال الوقت نفسه كان عاملاً فعالاً في تعبئة أنصاره، الذين اعتادوا اعتبار هذا الأسلوب جزءاً من "قيادة مختلفة" تتحدى تقاليد الخطاب السياسي الأميركي.

 

أما مجلة "مت تكنولوجي ريفيو" الصادرة عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا فتناولت الظاهرة من منظور تقني، معتبرة أن "الترمبية" تجسد نموذجاً مبكراً لما سمته "الشعبوية الرقمية"، أي ذلك النوع من الحركات السياسية التي توظف الخوارزميات والمنصات لبناء شعور جمعي بأن الزعيم يتحدث مباشرة إلى الشعب الحقيقي خارج الرقابة المؤسسية.

وترى المجلة أن أسلوب ترمب الهجومي، القائم على السخرية والمواجهة وتضخيم الأعداء، وجد في المنصات الرقمية بيئة مثالية للانتشار والتأثير.

وتضيف مجلة "بوليتيكو" أن الحركة "الترمبية" كانت لتفقد جزءاً كبيراً من زخمها لولا تكون منظومة إعلامية موازية عبر المؤثرين اليمينيين والمجموعات الرقمية ومنصات الفيديو القصير، وهي المنظومة التي أسهمت في تفكيك السلطة التقليدية للإعلام الأميركي.

وتشير تحليلات الصحيفة إلى أن هذا "الإعلام الموازي" أصبح أحد الأعمدة البنيوية لـ"الترمبية"، بما يمكنها من الاستمرار حتى في مواجهة المؤسسات التقليدية.

"الترمبية" الأوروبية

إلا أن تأثير "الترمبية" لم يقتصر على حدود الولايات المتحدة، فصداها الفكري والسياسي امتد إلى القارات الأخرى ووجدت في أوروبا أرضاً خصبة لتجارب مشابهة، وتزامنت عودة الرئيس الجمهوري إلى البيت الأبيض مع موجة شعبوية عابرة للقارات.

وهيمنت الأحزاب الشعبوية خلال العقد الأخير على مساحات واسعة من الفضاء السياسي داخل عدد من الدول، وتنامت جذورها في بلدان مثل المجر وبولندا منذ الحقبة التي تلت انهيار الشيوعية.

ويعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) بعد الاستفتاء الذي أُجري خلال الـ23 من يونيو (حزيران) 2016 من أبرز الشواهد الدولية على التحولات العميقة نحو الشعبوية، إذ مثل لحظة مفصلية كشفت اتساع الفجوة بين النخب السياسية والناخبين الغاضبين من العولمة.

وتظهر المؤشرات الأولى لبروز التيارات الشعبوية في العالم من خلال الانتخابات الأوروبية المتتالية، التي شهدت صعود الأحزاب اليمينية بصورة لافتة، كما حدث في الانتخابات النمسوية عام 2017 والانتخابات الفرنسية خلال العام نفسه، والانتخابات الألمانية لعام 2017 والانتخابات الإيطالية عام 2018، والانتخابات البرلمانية في كل من فنلندا وإسبانيا والدنمارك واليونان والنمسا وبولندا والمملكة المتحدة خلال عام 2019، وصولاً إلى الانتخابات التشريعية الأوروبية عام 2024.

 

وبحسب تقرير أصدره مركز "إيبسوس" حول تصاعد التيارات الشعبوية داخل 31 دولة، فإن 77 في المئة من الألمان يرون أن مجتمعهم يعيش حال "انكسار"، بينما يعتقد 75 في المئة من الفرنسيين أن بلادهم تسير نحو الانهيار. وأظهر التقرير أن أكثر من 50 في المئة من الإيطاليين والفرنسيين والبولنديين والهولنديين والبلجيكيين يؤيدون فكرة "ظهور زعيم قوي يرغب في كسر القواعد السائدة".

وتشير هذه المؤشرات، وفق التحليلات الأوروبية، إلى تزايد النزعة نحو الزعامة الفردية على حساب المؤسسات، وهو ما ينسجم مع الجوهر الخطابي لـ"الترمبية".

ويرى مراقبون أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين باتت تجسد باسم أوروبا نوعاً من "الإذعان الواقعي" أمام هذا المد الأميركي، في محاولة لاحتواء العاصفة لا مواجهتها، بانتظار مرحلة أكثر استقراراً. إلا أن محللين يحذرون من خطورة هذا النهج، معتبرين أن كل خضوع أمام المشيئة "الترمبية" قد يمنح الرئيس الأميركي وحلفاءه داخل الاتحاد الأوروبي فرصة لترسيخ نفوذهم وفرض مقاربات كانت تعد سابقاً من "المحرمات" ضمن المشروع الأوروبي، مثل حملات الطرد الجماعي للمهاجرين والتشكيك في جدوى النظام الديمقراطي أو مبدأ الفصل بين السلطات.

وفي المقابل، ينبه آخرون إلى أن استمرار الاتحاد الأوروبي في سياسته المتسامحة تجاه الخطاب الترمبي سيضعف قدرته على ضبط الدول الأعضاء التي تنحاز تدريجاً نحو هذا التيار، مثل المجر حالياً أو فرنسا في حال وصول مارين لوبن إلى قصر الإليزيه.

"الترمبية" بعد ترمب

تساءلت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية ضمن تقريرها عما سيبقى من "الترمبية" إن غاب ترمب؟ وكانت الإجابة، وفق تحليلها، تشير إلى أن الحزب الجمهوري بات أسيراً لقناعة رسخها ترمب حول "تزوير الانتخابات"، وهي الفكرة التي تحولت إلى محور السياسات الجمهورية الجديدة وأساس الولاء السياسي داخل الحزب.

وترى الصحيفة أن الحركة "الترمبية" تفتقر إلى أجندة واضحة بعد هذه القضية، مما يجعلها قائمة على أسلوب المواجهة أكثر من الرؤية السياسية. وتشير إلى أن ترمب يعمل مع رئيس مجلس النواب السابق نيوت غينغريتش لصياغة "مبادئ" لحركته السياسية، لكن من غير الواضح ما إذا كانت ستحدث أثراً فعلياً في إعادة بناء الحزب أو إعادة توجيه اليمين الأميركي.

وتوضح "واشنطن بوست" أن "الترمبية" ليست أيديولوجيا متماسكة بقدر ما هي أسلوب في استخدام القوة ضد الخصوم. وفي ظل غياب برنامج سياسي محدد، يقدم حاكم فلوريدا رون ديسانتيس نموذجاً عملياً لـ"الترمبية" من دون ترمب" عبر تبني سياسات تحاكي معارك اليمين الثقافية مثل تقييد الاحتجاجات والتحكم في المناهج التعليمية ومهاجمة شركات التواصل الاجتماعي.

 

ويرى محللون أن ديسانتيس استوعب الدرس الأهم من تجربة ترمب، أن إشعال "حروب الثقافة" وسيلة فعالة لحشد القاعدة المحافظة. ومع أنه يسير على خطى ترمب الاستراتيجية فإن العلاقة بينهما تتحول إلى منافسة مباشرة إذا قرر ترمب خوض الانتخابات المقبلة، مما يدفع الحزب الجمهوري إلى صراع داخلي بين الزعيم الأصلي ونسخته الجديدة.

وفي ختام تحليلها، تطرح "واشنطن بوست" سؤالاً رمزياً هو ماذا لو نُقل ترمب فجأة إلى كوكب بعيد؟ وتجيب "سيظل كثر يدعون أنهم يتحدثون باسمه ويواصلون "الترمبية" كرمز لفعل كل ما يشبه ترمب، حتى في غيابه. فالحركة التي تحمل اسمه تستمر على رغم انفصاله عنها فعلياً، كما كان يفعل في مشاريعه العقارية، يبني الآخرون الهيكل ويضع هو اسمه عليه. وربما تُزال اللافتة يوماً دون أن يتأثر المبنى كثيراً".

وفي السياق ذاته يستعرض الباحث في مركز البحوث والتواصل المعرفي علي الخشيبان في كتابه "الترمبية"، السياسة الأميركية في مواجهة العالم"، ملامح هذه الظاهرة وتحولاتها داخل المشهد السياسي الأميركي.

ويرى الخشيبان أن "الترمبية" أصبحت حركة سياسية متكاملة تضم أيديولوجيات ترتبط مباشرة بمنهج الرئيس الأميركي دونالد ترمب وسلوكه السياسي وقاعدته الشعبية، معتمدة على الشعبوية اليمينية ومناهضة التيار الليبرالي والتشديد على القومية والمحافظة على الهوية الوطنية، بينما تقوم في جوهرها على معتقدات غير ليبرالية تميزها عن بقية التيارات الأميركية.

تحول جذري

ويشير الباحث السياسي إلى أن "الترمبية" تواجه معادلة معقدة في محاولتها الموازنة بين حكم النخبة والشعبوية ذات النزعة السلطوية، في مقابل الإرث التاريخي لليبرالية الأميركية. فمنذ صعود ترمب عام 2016 شكلت الظاهرة تحولاً عميقاً في السياسة الأميركية عبر الجمع بين الشعبوية القومية والاقتصاد الصناعي والمواقف المناهضة للمؤسسة، في خروج واضح عن تقاليد الحزب الجمهوري التي ركزت طويلاً على الدور العالمي للولايات المتحدة.

ويتوسع الخشيبان في تفسير الظاهرة، لافتاً إلى أنها تتحرك داخل سياق سياسي يغذيه الخوف والاستياء من سياسات الحزب الديمقراطي خلال فترتي حكمه الأولى والثانية، مما يعكس قلقاً متزايداً تجاه مستقبل الهوية الأميركية. ويضيف أن "الترمبية" يمكن تفسيرها وفق معطيات متعددة، كثير منها يتناقض مع الصورة التقليدية للواقع الأميركي، وقد تعزز حضورها مع وصول ترمب إلى الرئاسة عام 2016 ثم عودته خلال عام 2025.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويؤكد في كتابه أن "الترمبية" ولدت داخل واحدة من أعرق الديمقراطيات الحديثة، لكنها تشكلت عبر منهجيات سياسية وإجرائية لم تمر بالقنوات التقليدية التي عرفتها الممارسة السياسية والدبلوماسية الأميركية، مما جعلها نموذجاً جديداً يصعب مقارنته بالنظريات السياسية السائدة.

ويرى أن "الترمبية" ستظل ظاهرة سياسية قائمة تتقاطع في نتائجها مع مختلف النظريات لكنها لا تشبه أياً منها، إذ تقدم نفسها للعالم بأسلوب يبدو ناعماً لكنه يحمل رسائل سياسية حادة، مما يستدعي من الدول التكيف مع هذا النمط الجديد من العلاقات.

ويخلص إلى أن الظاهرة لا ترتبط بشخص ترمب وحده ولا تنتهي بانتهاء ولايته، بل قد تتبدل أشكالها مع الوقت وتظهر بثوب جديد، لكنها تبقى امتداداً تاريخياً مستمراً بمنظورها الأيديولوجي وحركتها داخل السياسة الأميركية، مؤكداً أن التجربة الأميركية أثبتت تاريخياً أنها لا تُدار بصيغة مستقرة، لكنها قابلة للتعايش حين تفهم طبيعة تطوراتها المتسارعة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات