ملخص
حولت هجمات 11 سبتمبر مطلع القرن الـ21 إلى لعنة مفتوحة، إذ أطلقت "الحرب على الإرهاب" التي استنزفت أميركا، وعمّقت الكراهية للإسلام، وخلقت جماعات أشد تطرفاً فيما بقيت فلسطين جرحاً مركزياً ومبرراً دائماً للعنف. وبينما فشل مشروع بن لادن وأخطأت واشنطن وحلفاؤها الحساب، برزت مراجعات خليجية ومغاربية لمواجهة التطرف بالتنمية والانفتاح، لكن المنطقة لا تزال عالقة في دوامة حروب لا تنتهي، من بغداد إلى غزة.
يوم هوى برجا منهاتن صبيحة الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001، وتحول البيت الأبيض والكونغرس والبنتاغون إلى أهداف في قلب أميركا، لم يكن قط المشهد مجرد هجوم إرهابي، بل كان إعلاناً صاخباً بأن القرن الـ21 استهل صارخاً على وقع الدم والدخان، لا على وعود العولمة والسلام بعد نهاية الحرب الباردة.
كان ذلك اليوم الذي استدعى سريعاً واقعة "بيرل هاربرد" والأهوال العظام التي أعقبتها، فاتحة للقرن ولعنته في آنٍ واحدٍ: لحظة تدشين "الحرب على الإرهاب"، أو إن شئت فقل الحرب العالمية الثالثة، أو بصورة أدق "الحروب الصليبية" في نسختها الجديدة، طبقاً لما قيل وخطط وكتب حينها، وتبع ذلك اليوم من غزو واحتلال وصدامات هوية غيرت مسار العلاقات الدولية وأعادت صياغة نظرة الغرب إلى الإسلام والمسلمين، حتى إن الصحافي والمستشرق الأميركي ويليام ريو بولك ربط بين "الصليبية والجهاد" في كتاب بهذا الاسم، اعتبر فيه قذائف الطائرات الانتحارية، حلقة جديدة في سلسلة الحروب الصليبية، التي هيأ الغرب المناخ المناسب لها قبل يوم تلك الهجمات، وسعى لها الغاضبون الإسلامويون بكل صفاقة!
وصف كثر من المؤرخين والسياسيين الهجوم بأنه الحدث الذي قطع العقد الأخير من القرن الـ20 عن العقد الأول من القرن الجديد.
قبل الهجمات كانت واشنطن منشغلة بتثبيت زعامتها في عالم أحادي القطبية، فيما بدا "النظام الدولي الجديد" مهيأً للتوسع الاقتصادي أكثر من الانتظام العسكري، لكن فجأة، تحول المشهد: أميركا في قلب الاستهداف، وحلف "الناتو" في حال استنفار، والعالم كله مدعو للانتظام في حرب عابرة للقارات، "من ليس معها فهو ضدها".
لاحقاً كتب المحلل السياسي توماس فريدمان في صحيفة "نيويورك تايمز" أن أحداً لم يكن مستعداً لفهم أن "هجمات الطائرات يمكن أن تغير جوهر السياسة الأميركية الخارجية في غضون دقائق، وأن تؤسس لعصر جديد من الحروب المفتوحة".
الرهان على إشعال "الفتنة الكبرى"
بالنسبة إلى أسامة بن لادن، لم يكن الهجوم عملية عسكرية جريئة للفت الأنظار، بل لحظة مصممة لفتح مواجهة شاملة مع "العدو البعيد". ففي خطاباته بعد الهجمات قال "نحن مستعدون للقتال حتى يذعنوا ويتركوا بلادنا وشعوبنا في سلام"، مؤكداً أن الهدف هو إخراج الأميركيين من جزيرة العرب وإضعاف هيمنتهم على العالم الإسلامي، والانتقام لأرامل فلسطين!
حساباته تجاوزت حدود الصراع العسكري، إذ اعتقد أن الرد الأميركي الغاضب سيقلب الولايات المتحدة من "قوة محررة" في نظر بعض شعوب المنطقة إلى "قوة محتلة"، وهو ما حصل لاحقاً في العراق وأفغانستان.
وكما وثق الصحافي الأميركي لارنس رايت في كتابه "البروج المشيدة: القاعدة والطريق إلى 11 سبتمبر" فإن بن لادن "لم يسعَ فقط إلى ضرب الأهداف المادية، بل إلى هز ثقة الأميركيين في دولتهم وإضعاف هيبتها الدولية"، وأبعد من ذلك باستنزافها، وتوريط حلفائها العرب في حرب ضروس معها، يمني النفس أن ضربات رجاله الانتحارية تجعلها "أمر واقع".
ويقر الباحث الأميركي المتخصص في شؤون المنطقة بولك بأن مسألة الإرهاب والظواهر المصاحبة له بين الثقافة الغربية والإسلامية، لا يمكن فهمها بمعزل عن "حروب الألف عام" التي سادت بين العالمين، وتجددت في صور عدة تالياً مثل الاستشراق والاستعمار، والهيمنة والحرب على الإرهاب.
جاء ذلك في سياق كتابه الحديث "الصليبية والجهاد" الواقع في 582 صفحة حاول فيها استقراء أحداث الماضي منذ الحروب الصليبية بين "الشمال العالمي" الذي وصفه بأنه "أصبح منذ القرن الـ15 متقدماً علمياً وقوياً عسكرياً، و"الجنوب العالمي" الذي يرى أنه "كان متقدماً ومتحضراً بصورة عامة قبل أن ينحدر في ظلام التخلف والجهل والضعف والخضوع للقوى الإمبريالية الشمالية".
ويستهدف المؤلف من ذلك، وهو أستاذ سابق للأدب العربي في جامعتي هارفرد وشيكاغو، إيجاد صيغة من شأنها أن تفضي إلى فهم الصراع الذي كانت هجمات سبتمبر عنوانه الأبرز، حاملاً معه آلاف الأسئلة والعناوين بما فيها تفسير الرئيس الأميركي جورج بوش الابن ما حدث بالقول "هجم علينا الإرهابيون الجبناء لأنهم يحسدوننا على حريتنا وديمقراطيتنا". وهو ما علق عليه الكاتب بالقول "أتذكر استغراب بعض الصحافيين من هذا التفسير الغريب، حين اعترض أحدهم بالقول، هل تعتقد فعلاً أنهم جبناء؟ ولم يصدق أحد فكرة الحسد أيضاً".
سببان خلف العداء المتبادل
وخلص إلى أن أسباباً عدة جعلت الشمال والجنوب يشعر بـ"انعدام الأمن بعدما أصبح العنف هو الطبيعي" في تقديره المتشائم، إلا أن اثنين منها يطغيا على ما سواهما. وقال "السبب الأول لخطورة انعدام الأمن الذي نشعر به هذه الأيام هو تاريخ الإمبريالية الطويل. قرن كامل أو أكثر من الغزو والاحتلال والإذلال والإبادة الجماعية، تركت آثارها ندبات وجروحاً لم تندمل حتى الآن، ولا يمكن أن تشفى إذا أعيد فتحها باستمرار". وهو ما قال إنه حدث بالفعل "بالغزو الأميركي لأفغانستان والعراق وليبيا والصومال، الذي مزق هذه المجتمعات أشلاءً"، في سياسة يجزم بأنها إن حققت أي شيء، فهو ليس "تأمين السلام أو الاستقرار"، ولا سيما في العراق الذي اعتبره أسوأ المغامرات، إذ "كانت النتيجة المباشرة لحملتنا هناك هو تشكيل الدولة الإسلامية ’داعش‘ وإذا استمر الأمر كما نفعل الآن فإن طريق قمع التمرد سيقود إلى حرب بلا نهاية". أما السبب الثاني في ميلاد الخطر القائم في نظره، فهو "طرد إسرائيل للفلسطينيين من وطنهم، وهو نتيجة مباشرة لمعاداة السامية في أوروبا التي حركت أحداثاً أدت إلى "المشكلة الفلسطينية".
وفي تحليله الذي ختم به كتابه لفت إلى أن الفلسطينيين والإسرائيليين ضحايا لما سماه الإمبريالية، "فقد أدى الطرد والمحرقة إلى بؤس أناس أبرياء وظهور خطر العنف في أيامنا"، إذ كانت النتيجة النهائية "مليون فلسطيني طردوا من وطنهم ودفعوا الثمن النهائي لما فعله الشمال العالمي باليهود".
لكن الباحث السعودي فهد الشقيران لدى استعراضه كتاباً جديداً لكاتب أميركي آخر هو توماس هيغهمر، لفته أن الأخير انتبه إلى مركزية فسلطين في قتال الجهاديين حتى وهم يواجهون الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، وضرب مثلاً بعبدالله عزام، الذي تناوله هيغهمر بأنه كان في دفاعه عمن يتساءل لماذا أفغانستان وليس فلسطين "يحاجج بأن الظروف منعته من القتال في فلسطين لأن المقاومة تم اختطافها من اليساريين، والعداوة مع منظمة التحرير سمة رئيسة في المنتج الأيديولوجي لعبدالله عزام، إذ يحمل اليساريين في فلسطين وزر فشل النضال". أما تلميذه بن لادن، فكان يحاجج في قتال أميركا بأنها "رأس الأفعى" واستهدافها يؤدي إلى إضعاف إسرائيل تلقائياً!
وأكد الشقيران أن قضية فلسطين ما هي إلا الغطاء، فقد ظل استعمالها عند الأصوليين "محل امتعاض كأنهم يقومون باستغباء الناس. كل الخطابات للزعامات المتطرفة تحاول استعمال القدس بغية الحشد وتسول المشروعية، وتعزيز التجنيد. ولم يخلُ خطاب زعيم لجماعة إرهابية من وعد بتحرير فلسطين، من عبدالله عزام إلى أسامة بن لادن وصولاً إلى حسن نصرالله وقاسم سليماني ونعيم قاسم وغيرهم". ونافسهم على ذلك حتى التيار اليساري، مثل صدام والأسد وغيرهما.
من الصدمة إلى "الحرب الشاملة"
وجدت إدارة جورج بوش الابن نفسها أمام لحظة غير مسبوقة: أكبر هجوم على الأراضي الأميركية منذ بيرل هاربر، لكن هذه المرة على قلبها الاقتصادي والسياسي.
وفي غضون أيام وضعت معالم "الحرب على الإرهاب" كإطار جامع يشرع التدخلات الخارجية ويعيد تعريف الأمن القومي الأميركي. أُنشئت "وزارة الأمن الداخلي"، وأُقر "قانون باتريوت"، لتصبح مكافحة الإرهاب هاجساً يبرر توسيع صلاحيات الدولة في المراقبة، ويضع الجاليات المسلمة تحت مجهر دائم.
أتاح القانون توسيع صلاحيات أجهزة الأمن في مراقبة الاتصالات، والتحقيقات المالية، والاحتجاز الوقائي، وجمع المعلومات الاستخباراتية من دون قيود واسعة، وهو ما أثار جدلاً كبيراً حول التضحية بالحريات المدنية من أجل الأمن، وسمح بملاحقة الأفراد والجماعات المشتبه في صلتهم بالإرهاب داخل وخارج الولايات المتحدة، ليصبح إطاراً قانونياً يبرر التدخلات الداخلية والخارجية في سياق "الحرب على الإرهاب".
في الخارج، كان الغزو المزدوج لأفغانستان ثم العراق تجسيداً لهذه العقيدة الجديدة.
واشنطن لم تكتفِ بمطاردة القاعدة، بل انتظمت في مشروع لإعادة هندسة الشرق الأوسط سياسياً وأمنياً، في مشهد أقرب لما خطط له بن لادن بالضبط، لكأن الإدارة تأتمر بأمره، إلا أنه كان يتوقع أن يتزامن مع ضرب أفغانستان شن غارات على السعودية مركز العالم الإسلامي، حيث أتى معظم مختطفي الطائرات، والحليف التاريخي الأوثق للولايات المتحدة في المنطقة.
ووفقاً لتقرير مجلس العلاقات الخارجية عام 2021، فإن "الحرب التي تم خوضها لإزالة خطر القاعدة خلفت جماعات أشد تطرفاً، وزعزعت استقرار الشرق الأوسط وأضعفت التحالفات الأميركية"، لكن الاعتراف بذلك جاء متأخراً، لافتاً إلى أن خبراء في واشنطن بينهم الجنرال السابق ديفيد بتريوس عندما قادت "حماس" هجمات السابع من أكتوبر 2023 التي ذكرت بهجمات سبتمبر، حذروا إسرائيل من تكرار أخطائها في الذهاب للانتقام من دون تفكير. وقالوا في مقالة مطولة نشرتها "فورين فيرز" إن إسرائيل تعيد "ارتكاب عدد من هذه الأخطاء الجسيمة نفسها، بما في ذلك بعض تلك التي ارتكبتها الولايات المتحدة في السنوات الأولى من حرب العراق. ومثلما فعلت الولايات المتحدة في العراق عام 2003، بدأت إسرائيل حربها من دون خطة لإنشاء هيكل حكم يحل مكان (حماس)، ولم تظهر أي خطة واضحة حتى بعد أشهر من القتال".
ومضت تشير إلى أنه على غرار المراحل الأولى من حروب واشنطن بعد الـ11 من سبتمبر، تحركت إسرائيل بصورة حاسمة وبكلفة بشرية كبيرة من أجل تطهير الأراضي من الإرهابيين، لتراهم يعيدون تنظيم صفوفهم بمجرد مغادرة القوات، وهو نهج خاطئ أطلق عليه ضباط الجيش الأميركي اسم "تطهير ومغادرة" (clear and leave) وبسبب الخسائر في صفوف المدنيين الناجمة عن العمليات الإسرائيلية، تعرضت إسرائيل لانتقادات دولية أشد بكثير مما تعرضت له الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق.
لكن بتريوس وفريقه يعتقدون أنه مثلما كررت إسرائيل أخطاء الولايات المتحدة، يمكنها أيضاً أن تستخلص دروساً من بعض النجاحاًت التي حققتها الحملات الأميركية، وبخاصة تلك المتعلقة باستراتيجية "الزيادة المفاجئة" [أي زيادة عدد القوات الأميركية] التي تبنتها واشنطن في العراق ابتداءً من عام 2007.
الإرث من بوش إلى أوباما وترمب
حين وقف جورج بوش الابن في الكونغرس بعد أسبوع من الهجمات قائلاً: "هذه الحرب لن تنتهي حتى يتم العثور على كل جماعة إرهابية ذات امتداد عالمي وإيقافها وهزيمتها"، بدا وكأن الولايات المتحدة تدشن حرباً بلا أفق زمني محدد.
مع أوباما، الذي انتخب عام 2008 على وعد بإنهاء "الحروب الأبدية"، بدت اللحظة مواتية لتصفية الحساب مع ذلك الإرث. وبالفعل، أمر بالانسحاب من العراق، وأطلق عملية قتل أسامة بن لادن في أبوت آباد عام 2011، مؤكداً أن "العدالة تحققت"، لكن سرعان ما تبين أن غياب بن لادن لم ينه "القاعدة"، بل مهد لصعود "داعش"، الذي استثمر الفراغ العراقي والسوري ليعيد مشهد الرعب بأبشع صوره، وهو الفراغ الذي كانت أميركا أول المتهمين بصناعته حين أسقطت النظام في العراق من دون وضع المستقبل في الحسبان، وسط منطقة شديدة التعقيد، استغلت فيها إيران أخطاء البيت الأبيض، وأغرتها بالهيمنة على دول المشرق العربي مجتمعة: العراق، وسوريا، ولبنان، ولاحقاً اليمن.
ثم جاء دونالد ترمب ليضع بصمته الخاصة، مهاجماً علناً سياسات أسلافه، ومؤكداً أن أميركا "دفعت تريليونات الدولارات في حروب لم تجلب سوى الخراب". ومع ذلك لم يخرج عن السياق العام الذي رسمته الـ11 من سبتمبر، إذ وسع عمليات الطائرات المسيرة، وكرس مناخ الشك تجاه المسلمين والمهاجرين عبر حظر السفر على بعض الدول ذات الغالبية المسلمة. إلا أن خطواته في مواجهة الإرهاب في شقه الشيعي وليس فقط السني، بخلاف سلفه أوباما، خفض من تسارع وتيرة الانهيارات في المنطقة، جراء أخطاء بلاده المتراكمة.
من تصدير القيم إلى صناعة الخوف
لم تكن الولايات المتحدة وحدها التي اهتزت بعد الهجمات، بل أوروبا أيضاً، إذ سرعان ما تبنت قوانين صارمة لمكافحة الإرهاب، من مراقبة المساجد والجمعيات الإسلامية إلى تقنين الاحتجاز الوقائي. في بريطانيا، ظهر "قانون منع الإرهاب 2001" الذي سمح باحتجاز الأجانب بلا محاكمة لفترات طويلة. وفي فرنسا، تعززت الرقابة على المسلمين، وانتهى الأمر لاحقاً بحظر الحجاب في المدارس عام 2004، تحت شعار حماية "الهوية العلمانية".
أما أميركا، فقد تخلت تدريجاً عن الصورة التي بنتها لذاتها كحامية للحريات. قانون "باتريوت" فتح الباب أمام مراقبة واسعة النطاق، و"غوانتنامو" صار رمزاً للتعذيب خارج القانون.
الصحافة الأميركية، التي كانت تصف بلادها بأنها منارة الديمقراطية، بدأت تكتب عن التناقض الفاضح بين ما ترفعه واشنطن من شعارات وما تمارسه عملياً. نعوم تشومسكي مثلاً علق قائلاً: "حين تتذرع دولة الحرية بمبررات الأمن لانتهاك الحرية، فهي عملياً تحقق أهداف الإرهابيين أكثر مما تقاومهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مراجعات متأخرة
بعد مرور أكثر من 20 عاماً على الهجمات، لم يعد ينظر إلى الـ11 من سبتمبر فقط كحدث أمني، بل كزلزال سياسي وفكري غير مسار القرن الـ21. مراكز أبحاث أميركية مثل "راند" و"بروكنغز" باتت تراجع تلك المرحلة وتصف "الحرب على الإرهاب" بأنها حرب مفتوحة بلا نهاية، استنزفت أميركا مالياً وعسكرياً، وأضعفت صورتها الأخلاقية في العالم.
هكذا صار الأميركيون أنفسهم مدركين لأخطاء حكوماتهم، مما خفف أحياناً من وطأة بعض تداعيات انتهاكات الحكومة المركزية.
وكان لافتاً في هذا الصدد مبادرة إحدى الجمعيات الأميركية المهتمة بضحايا "سبتمبر" بتقديم مشاريع تعليمية وإغاثية لضحايا الغارات الأميركية من المدنيين الأفغان. وفي هذا الصدد دونت "مؤسسة متحف ونصب الـ11 من سبتمبر التذكاري" قصصاً في موقعها على الويب أبرزت خلالها كيف غيرت هجمات الحادي عشر من سبتمبر مسار حياة كثيرين نحو خدمة الآخرين.
من ذلك باتي كويغلي، أرملة أحد ضحايا الطائرات المخطوفة، التي حولت حزنها إلى التزام إنساني من خلال دعم الأرامل الأفغانيات المتأثرات بالحرب والإرهاب. وتشير إلى أنها رأت في محنة النساء في أفغانستان امتداداً لمعاناتها الخاصة، لكنها لاحظت الفجوة الكبيرة بين الدعم الذي تلقته هي ونظيراتها في الولايات المتحدة، وبين ما واجهته النساء في كابول والقرى الفقيرة. من هنا أنشأت عام 2003 مؤسسة "ما وراء الحادي عشر" لدعم الأرامل الأفغانيات، ثم تعاونت مع الناشطة الراحلة رازيا جان لتأسيس "مؤسسة شعاع الأمل" ومدرسة "زابولي" للبنات، في خطوة رمزية رأت فيها وسيلة لإعادة بناء الحياة بعد الحرب.
ويكمن مغزى القصة كما يروي القائمون على المتحف والناشطون المشاركون، في أن مأساة الـ11 من سبتمبر لم تولد فقط ردوداً عسكرية، بل أيضاً مبادرات للتعليم والنهضة في أماكن بعيدة مثل أفغانستان. فقد تحول الفقد الشخصي إلى طاقة لبناء مستقبل أفضل، كما عبر منظمو الفعالية بالقول إن تلك القصص "تربط بين التضحية الفردية والإرث الإنساني الذي ما زال يلهم حتى اليوم".
لكن تلك الآثار لم تقتصر على الجوانب الإيجابية وحسب، ففي أميركا نفسها تروي الكاتبة في "نيويورك تايمز" مهر أحمد "صعوبة أن تكون مسلماً صالحاً" في واشنطن بعد تلك الهجمات، في سياق تعليقها على الشيطنة المتزايدة لعمدة نيويورك زهران ممداني حين ترشح للمنصب، فقط لأنه مسلم، مما أعاد الكثيرين من الأقلية إلى تلك المرحلة المشؤومة من تاريخ بلاد "العم سام"، التي يرون أن البلاد لم تستطع بعد التحرر من أغلالها.
"محمد الصغير" يظهر المفارقة
تصف الكاتبة حال المسلمين في أميركا اليوم بأنه مزيج من التقدم والخذلان، فبينما أصبحت عبارات مثل "إن شاء الله" جزءاً من اللغة اليومية وتزايدت مظاهر الحضور الإسلامي في الحياة العامة، لا تزال ظلال الكراهية تلاحقهم بعد أكثر من عقدين على هجمات الـ11 من سبتمبر.
يتجدد هذا العداء بحسب رأيها "كلما برز مسلم في موقع مؤثر"، كما حدث مع السياسي ممداني الذي ووجه بحملة تشويه تصفه بـ"محمد الصغير" وتتهمه بالتطرف. وتشير إلى أن أخطر أشكال الإسلاموفوبيا اليوم ليست تلك التي تصدر عن اليمين المتطرف فحسب، بل أيضاً تلك التي تتسلل إلى المؤسسات الليبرالية تحت ذرائع جديدة منذ أحداث السابع من أكتوبر 2023، مما يجعل المسلمين في أميركا عالقين بين اعتراف رمزي بهم وخوف متجذر منهم.
تجربة ممداني مع المجتمع الأميركي تجسد إرث الشك الذي خلفته هجمات الـ11 من سبتمبر في نفوس المسلمين الأميركيين. فكما تروي الكاتبة، عاش السياسي الصاعد طفولته وهو يشعر بثقل التهمة غير المنطوقة، إذ كان ينظر إليه وإلى من يشبهونه كأنهم غرباء في وطنهم.
وتروي مهر أنها مثل ممداني وآخرين في نيويورك، الذي تعلم منذ الصغر كيف يتعايش مع واقع التفتيش في المطارات والنظرات المتوجسة في المدارس، وكيف شكل ذلك وعيه بالعالم. فبالنسبة إلى ممداني، "كانت تلك التجربة المبكرة بمثابة تدريب قاسٍ على خوض المعترك السياسي، إذ تحول الشك القديم إلى اختبار متكرر في كل مناظرة أو مقابلة عامة". خلال حملته الانتخابية، كان يواجه الأسئلة ذاتها التي لم تغادر المخيلة الأميركية منذ عقدين: عن الإسلام، وعن فلسطين، وعن "إدانة الإرهاب"، في مشهد يعيد تدوير خوف لم يندثر بعد.
وعندما سألت ممداني إن كان يرى في هويته الإسلامية سبباً وراء استجوابه المستمر حول مواقفه من إسرائيل، أجاب قائلاً: "أعتقد أنها جزء من الأمر. وأعتقد أيضاً أن دفاعي عن حقوق الفلسطينيين طوال مسيرتي السياسية جزء آخر من الأمر".
نشأ ممداني في بيت فكري وإنساني منفتح كما تقول الصحيفة الأميركية، فوالدته المخرجة ميرا ناير ووالده الأكاديمي محمود ممداني ربياه على قيم العدالة والتحرر، وسط صداقات جمعت العائلة بمثقفين كبار مثل إدوارد سعيد ورشيد الخالدي. لذلك، يرى أن انخراطه في الدفاع عن فلسطين ليس موقفاً سياسياً طارئاً، بل استمرار طبيعي لتكوينه الثقافي والإنساني، ومحاولة لتوسيع معنى المواطنة الأميركية لتشمل من عاشوا طويلاً تحت ظلال الشك.
التناقض الأكبر ليس في السلوك الأميركي وحسب، بل في مشروع بن لادن كذلك، فحين ظهر كان يزعم أنه يقاتل "دفاعاً عن المظلومين في فلسطين وسائر الدول الإسلامية"، فإذا بنتائج أفعاله تجلب على تلك الشعوب قدراً أعظم من الانتهاكات والمعاناة، فضلاً عن توجيه رجاله البنادق إلى المسلمين أنفسهم، كما في حربه الضروس داخل السعودية ابتداء بمايو (أيار) 2003، يوم زرع الرعب في البلاد، وقوض ما كان يحظى به من صدقية بين التيار المحافظ.
تقارير أممية تشير إلى أن أكثر من 85 في المئة من ضحايا العمليات الإرهابية المرتبطة بـ"القاعدة" أو الجماعات المنبثقة عنها هم من المسلمين أنفسهم. وبذلك، أطلق بن لادن وتياره الجهادي الرصاصة على من زعموا أنهم يدافعون عنهم، ليكونوا – عملياً – أولى ضحاياه.
الأخطر أن تلك الحرب غيرت علاقة أميركا بذاتها وبقيمها. فبدلاً من أن تكون حامية الحريات، صارت تنتقد بسبب السجون السرية والتعذيب والتمييز ضد المسلمين. وهنا تتجلى "لعنة القرن" كما بدأت، فالهجوم الذي نفذه تنظيم متطرف يقوده رجل مارق، جعل قوة عظمى تنحرف عن مبادئها وتستنزف في صراعات لا تنتهي.
دوافع لم يكن تجاوزها سهلاً
اختار أسامة بن لادن غالبية منفذي هجمات الـ11 من سبتمبر من السعوديين، مع الحرص على تمثيل باقي الدول العربية المؤثرة مثل مصر واليمن ولبنان والإمارات، ليظهر أن الهجوم ليس عملاً فردياً، بل كان مشروعاً "عربياً موحداً" ضد الولايات المتحدة.
جاءت هذه الاستراتيجية بهدف الاستفادة من الولاءات القومية والدينية للمجموعة، وإضفاء صفة التمثيل الإقليمي على العملية، ما يضفي عليها بعداً سياسياً ورمزياً أكبر.
تميز التخطيط بالدقة العالية، إذ استغرق سنوات عدة، شمل تدريبات جوية في الولايات المتحدة، وتنسيقاً داخلياً بين المتدربين، وإخفاء هوياتهم الحقيقية، لضمان قدرة العمليات على النجاح من دون كشف مسبق، مما يجعل الهجوم نموذجاً صارخاً للعمليات الإرهابية متعددة المراحل، والتي تمثل فهماً عميقاً للضعف الأمني الأميركي آنذاك.
من بين دوافع أسامة بن لادن الرئيسة أيضاً كانت محاولة هز الثقة بين الولايات المتحدة والسعودية، بوصفها قبلة المسلمين، لإشعال حرب كونية وصليبية في هذا القرن.
أشار بعض المحللين بعد الهجمات إلى هذا الهدف الرمزي والاستراتيجي، إذ كتب الباحث الأميركي ستيفن كوك: "بن لادن أراد أن يحول العلاقة التاريخية بين واشنطن والرياض إلى صراع مفتوح، يضع العالم الإسلامي كله على خط النار"، فيما وصفه المحلل الأميركي توماس فريدمان بأنه "محاولة لتفكيك شراكة استراتيجية كانت تشكل استقرار المنطقة".
على رغم التحديات التي هزت الثقة بين البلدين، فإن حكمة الرياض وواشنطن، وحاجتهما المتبادلة للتحالف ضد تهديدات إقليمية أخرى، سمحت لهما بالسيطرة على التوتر واستيعابه، بما حال دون حدوث انقسام استراتيجي.
مع ذلك يبقى السؤال التاريخي الافتراضي: ماذا لو نجح بن لادن في تحقيق هدفه وضربت أميركا السعودية بدلاً من أفغانستان؟ كيف كان سيعاد رسم التحالفات الإقليمية والدولية، وكيف ستكون تبعاته على استقرار المنطقة والعالم؟ هذه الفرضية تكشف مدى هشاشة الموازين حين يحاول إرهابي استغلال الرمزية الدينية والسياسية لأكبر دولة إسلامية في مواجهة القوة العظمى.
إرث بن لادن في الإرهاب الممتد
أسامة بن لادن لم يقتصر تأثيره في هجمات الـ11 من سبتمبر، بل أسس نموذجاً للمتطرفين يعتمد على عمليات مفاجئة وعنيفة تتجاهل العواقب على المدنيين.
هذا الأسلوب تجلى في عمليات "قاعدة العراق" في شخص قائدها الدموي أبو مصعب الزرقاوي، ثم لاحقاً في محاولات "داعش" المنبثقة عنها احتلال أجزاء من العراق وإعلان "دولة الخلافة"، مما دفع المجتمع الدولي لتشكيل تحالف واسع لإجهاض المشروع.
وكما أشار الباحث مايكل نايتس: "أسلوب بن لادن علم الجهاديين أن العنف المفرط ضد المدنيين وسيلة لإرهاب الحكومات وليس أداة لتحقيق أي مشروع سياسي حقيقي"، مثلما قرر في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.
حصيلة مخيبة
في الخلاصة يرى ديفيد بريفر، وهو ضابط استخبارات ومحلل سياسي أميركي أن بلاده "حققت هدفاً رئيساً بعد الـ11 من سبتمبر فلم تقع أية معركة مماثلة بعدها في أميركا، وألقت القبض على الفاعلين وقتلت جميع قادة تنظيم (القاعدة) المسؤولين عن العملية الإرهابية"، لكنه بدا حذراً أثناء تقييمه ربع قرن من مطاردة "القاعدة" ضمن شهادته في مسلسل "مطاردة أميركية"، فهو على رغم كل المجهود الحربي يخشى أن يكون "بن لادن قد فاز بالحرب"، فهو يرى زعيم "القاعدة"، "أضعف الولايات المتحدة الأميركية، فقد أنفقنا تريليونات الدولارات على مكافحة الإرهاب، وخضنا حرباً طويلة في أفغانستان، كمان أن الحرب على العراق قسمت الأميركيين، وما زالت آثار ذلك واضحة حتى اليوم".
لكن الجماعة الإرهابية هي الأخرى لم تربح المعركة، فالهجمات التي بررتها بالدفاع عن فلسطين والشعوب الإسلامية، لم تزد تلك الشعوب إلا تدميراً، والقوى الدولية الغازية والمحتلة، مثل إسرائيل وروسيا وأميركا إلا بطشاً بتلك الشعوب، مثلما أن الأميركيين الذين أرادوا إخراجهم من الخليج، أحوجتهم للعودة للمنطقة بكثافة أكبر.
في الوقت نفسه لا تزال واشنطن غير مبالية بالذرائع التي باتت محل إجماع في المنطقة حتى بين القوى والحكومات المعتدلة، وليس فقط بين المتطرفين، بدعمها إسرائيل، المستشرية في البطش واحتلال فلسطين، التي ظلت تمنح تيارات الجهاد واليسار كل المبرراًت منذ عقود من جماعة "كارلوس" إلى بن لادن وداعش، وحتى "حماس"، يوم نفذت هجمات السابع من أكتوبر 2023، وهي الهجمات التي اعتبرت على نطاق واسع نسخة أحدث من "11 سبتمبر"، لولا أنها أقل إثارة للسخط الدولي، بوصفها وجهت ضد دولة محتلة، على رغم ما جر ذلك على شعب المنفذين من دمار وسحق متوقع، بسبب التفاوت الكبير في ميزان القوى، وشخصية تل أبيب المتوحشة منذ حين.
إذا كان بن لادن استفتح القرن بالإرهاب، فإن أميركا وقوى عدة، ساعدت في تعميق تلك الجراح، التي تحولت إلى لعنة، لا تكاد ينتهي منها فصل حتى يستهل فصل آخر أدهى وأظلم، إن لم يكن على يد روسيا فبإيعاز إيران وحلفائها، أو "القاعدة" وأخواتها، أو إسرائيل وذرائعها. ولا ينبئك مثل ركام غزة بشراً وعمارات وبنية تحتية.
مع كل ذلك، فإن الجانب المضيء في كل المعركة ظل حاضراً، في مراجعة بلدان واسعة في الخليج والمغرب أيديولوجيات الإرهاب، وتجفيف منابعه، ومحاربته بالفلسفة والأمل والترفيه، والدفع بالتنمية والاستقرار والتهدئة، عوضاً عن نقيضها السائد بين دول الإقليم.
على رغم ذلك لم تكف إسرائيل من جهة والتيارات المتطرفة سنية وشيعية من جهة أخرى في خلق أزمات، صارت معها المنطقة في مهمة إطفاء لا تنقطع، ولا تعرف غير استراحة المحاربين، هنا أو هناك.
تلك لعنة الربع الأول من القرن، فهل يمحوها الربع الثاني كما كان مرجواً قبل السابع من أكتوبر، أم تظل حليمة على عادتها المستمرة لعقود؟