Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فرنسا... 40 عاما من "إعادة الأسلمة" وجيل يبحث عن جذوره

المشهد الديني يشهد تحولات حقيقية بعضها يعكس بحثاً عن معنى وانتماء وآخر نتاج سياقات اجتماعية وسياسية ضاغطة

يكشف الجيل الشاب من المسلمين في فرنسا عن ملامح جديدة في علاقته بالتيارات الدينية (أ ف ب)

ملخص

شملت الدراسة أكثر من 1000 مسلم ضمن عينة وطنية واسعة تضم 14 ألف مشارك من مختلف المعتقدات الدينية واللا دينية، مقدمة بذلك رؤية معمقة وغير مسبوقة للتغيرات التي تبرز لدى الأجيال الشابة، وكشفت النتائج عن ظاهرة بارزة أطلق عليها المعهد اسم "إعادة الأسلمة".

في قلب التحولات الاجتماعية التي تهز فرنسا، وبين جيل يبحث عن جذوره الروحية، وآخر يعيد صياغة هويته في ظل أزمات متلاحقة، يتشكل مشهد ديني جديد يربك الساحة الفرنسية، ويعيد طرح الأسئلة الكبرى حول الاندماج والعيش المشترك. وفي محاولة لفهم هذا التحول المتسارع، أطلق المعهد الفرنسي للرأي العام "إيفوب" دراسة غير مسبوقة تكشف عن ملامح تغير عميق في علاقة المسلمين بدينهم خلال السنوات الـ40 الماضية.

 

ظاهرة "إعادة الأسلمة"

في سبيل تحليل هذا التحول، شملت الدراسة أكثر من 1000 مسلم ضمن عينة وطنية واسعة تضم 14 ألف مشارك من مختلف المعتقدات الدينية واللا دينية، مقدمة بذلك رؤية معمقة وغير مسبوقة للتغيرات التي تبرز لدى الأجيال الشابة، وكشفت النتائج عن ظاهرة بارزة أطلق عليها المعهد اسم "إعادة الأسلمة"، التي تتجلى بصورة أوضح بين الشباب، ويربط الباحثون هذه الظاهرة بارتفاع مقلق في نسبة التأييد لبعض الأفكار الإسلامية المتشددة. فبين عامي 1985 و2025، شهدت فرنسا تغيراً كاملاً في المشهد الديني: ارتفعت نسبة المسلمين من 0.5 في المئة إلى سبعة في المئة، بينما تراجعت نسبة الكاثوليك من 83 في المئة، إلى 43 في المئة، وأصبح الإسلام ثاني أكبر ديانة في البلاد، متقدماً على البروتستانتية بنسبة أربعة في المئة، وفي الوقت نفسه وصل عدد الفرنسيين غير المنتمين لأي دين إلى 37.5 في المئة.

لا يقتصر الأمر على الأرقام، بل يمتد إلى حياة المسلمين اليومية، إذ أصبح 73 في المئة يصومون شهر رمضان في مقابل 60 في المئة عام 1989، و79 في المئة يمتنعون عن الكحول في مقابل أقل من 65 في المئة سابقاً، وهذه الممارسات تعكس سيطرة متزايدة للدين على السلوك اليومي والروتين الاجتماعي.

تؤدي هذه الالتزامات إلى انفصال تدريجي عن الأعراف المجتمعية، فـ43 في المئة يرفضون التواصل الجسدي أو البصري مع الجنس الآخر، فيما تظهر النساء مستوى أعلى من الالتزام مقارنة بالرجال، و14 في المئة منهن يمتنعن عن الموسيقى غير الإسلامية في مقابل ثمانية في المئة للرجال. وأوضحت الدراسة أن غالبية هذه الممارسات نابعة من اختيار شخصي، فـ80 في المئة من النساء اللاتي يرتدين الحجاب يفعلن ذلك بدافع ديني، و44 في المئة لتجنب جذب أنظار الرجال، فيما ترى اثنين في المئة فقط أن الأمر ناجم عن ضغط اجتماعي.

ويكشف الجيل الشاب من المسلمين في فرنسا عن ملامح جديدة في علاقته بالتيارات الدينية، تختلف بوضوح عن توجهات الأجيال السابقة، إذ تظهر البيانات ميلاً متنامياً نحو التعاطف مع التيارات الراديكالية، أي الحركات أو الجماعات أو الاتجاهات ذات الطابع المتشدد داخل ما يسمى "الإسلام السياسي"، وبحسب نتائج الدراسة، فإن 42 في المئة من الشباب المسلمين يعبرون عن موافقة كلية أو جزئية على مواقف التيارات الإسلامية المتشددة، بارتفاع قدره 13 نقطة مقارنة بعام 1998. وعلى رغم أن النزعات الأصولية تزداد حضوراً بين المسلمين عموماً، يبقى الشباب الفئة الأكثر قابلية لاعتناق هذه الأفكار.

وتأتي جماعة "الإخوان المسلمين" في صدارة التيارات التي تحظى بالتأييد، إذ يعبر ثلث الشباب تقريباً، 32 في المئة عن شعور بقرب فكري من خطابها، وهو ما يراه معهد "إيفوب" دليلاً على تجذر نفوذ هذا التيار داخل الأجيال الجديدة، خلافاً للفكرة السائدة عن تراجعه أو شيخوخته. وتقدم هذه الدراسة، التي تقع في 60 صفحة، رؤية معمقة لمشهد ديني متغير في فرنسا، يسلط الضوء على تحديات الجيل الجديد من المسلمين، ويعيد طرح السؤال المحوري: كيف يمكن التوازن بين الدين والاندماج في مجتمع متعدد الأديان والثقافات؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تدين الشباب المسلمين في فرنسا: بين العلمانية الصارمة والبحث عن الهوية

يتفاعل تدين الشباب المسلمين في فرنسا مع مجموعة معقدة من العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية، ليشكل نموذجاً خاصاً من التدين الهوياتي والاجتماعي، يتجاوز البعد الروحي إلى مساحة أوسع تتعلق بالانتماء والتمثلات والبحث عن الاعتراف.

في السياق، أوضحت إعجاب خضر خوري مؤسسة ورئيسة "تجمع أصدقاء المتوسط" في فرنسا، ونائبة سابقة لرئيس اللجنة الوطنية الفرنسية للتنوع في حزب "الجمهوريين"، أن التركيز المستمر على الإسلام في الإعلام يجعل الدين علامة هوية اجتماعية ويزيد إحساس الشباب بأنهم "مراقبون" أو "محاكمون"، مما يدفع بعضهم إلى إعادة تأكيد الهوية الدينية كنوع من المقاومة الرمزية. وفي ظل هذا المناخ المتوتر، يلجأ كثيرون إلى التدين كوسيلة لتعزيز المكانة الاجتماعية وبناء الانتماء، خصوصاً في الأحياء التي تعاني التفاوت الاجتماعي وضعف الشعور بالانتماء الوطني. ورأت خضر خوري أن التمييز والشعور بالوصم يسهمان في ظهور ما تسميه "الهوية الدفاعية"، "إذ يدفع الإقصاء الشباب إلى التشبث بالانتماء الديني بوصفه مصدراً للكرامة وإعادة بناء الذات"، وأكدت أن هذه الظاهرة لا تقتصر على المسلمين، بل تظهر أيضاً في مجموعات مهمشة أخرى داخل المجتمع الفرنسي. وعلى رغم ذلك، أشارت خضر خوري إلى أن النجاح التعليمي والمهني، إلى جانب مسار الاندماج الاقتصادي وارتفاع مستويات التعليم، يعززان غالباً من العلمنة التدريجية أو ما تصفه بـ"التدين الهادئ الفردي"، إذ لا يختفي الدين، لكنه يفقد مركزية دوره كعنصر مقاومة أو هوية دفاعية. ولفتت إلى أن تطبيق العلمانية داخل المؤسسات التعليمية يشكل بؤرة توتر أساسية، "فبعض القوانين تولد لدى الطلاب شعوراً بالاستهداف، وتربط العلمانية بالخوف من الإسلام"، وأكدت في المقابل أن الهدف المعلن لهذه القوانين هو حماية حياد المدرسة، ومنع الضغوط الجماعية وتفادي التنافس الهوياتي داخل الفصول الدراسية. ودعت خضر خوري إلى ضرورة تطبيق علمانية عادلة وغير انتقائية، تعترف بالدين بوصفه واقعاً اجتماعياً في حياة الأفراد، وشددت على أهمية تعزيز التفكير النقدي والحوار داخل المدارس لضمان التعايش، مشيرة إلى أن معالجة حساسية الملف الديني تتطلب فهماً أعمق لتجارب الشباب اليومية. ورأت خضر خوري أن قوانين منع الرموز الدينية تسهم في الاندماج عبر ضمان حياد المدرسة والمساواة، مؤكدة أن السياق وطريقة التنفيذ هما العاملان الحاسمان في تأثير هذه القوانين.

أزمة اندماج أم أزمة تعريف بالهوية

في هذا الإطار، قال المحلل السياسي طارق وهبي "الدراسة التي شملت عينة واسعة تضم أكثر من 14 ألف شاب وشابة، أظهرت أن هؤلاء الشباب يعرفون بأنهم فرنسيون قبل أن يكونوا مسلمين، إذ ولدوا ودرسوا في فرنسا، لكنهم يمارسون شعائرهم الدينية كما يمارس الآخرون المسيحيون أو اليهود طقوسهم"، وبالتالي أكد وهبي أن مفهوم "الاندماج" ليس بالضرورة مناسباً لوصف هؤلاء الشباب، موضحاً "هم فرنسيون أولاً، ومسلمون في تعريفهم"، وأضاف أن التحدي الأكبر لا يتعلق بالاندماج بقدر ما يتعلق بصراع الهوية، وهو صراع يظهر عند عدد من الأفراد بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، كما أوضح الكاتب أمين معلوف في كتابه "الهويات القاتلة"، ولفت وهبي "إلى أن الشباب المسلم الفرنسي، على رغم ارتباطه بالإسلام، لا يطالب بتطبيق الشريعة أو إنشاء دولة إسلامية، بل يطلب من المجتمع احترام بعض الجوانب الثقافية المتعلقة بالعبادات الدينية، مثل الصلاة والصوم، بما يعكس الحرية الدينية التي يتمتع بها جميع المواطنين"، وتابع أن الحديث المفرط عن "الاندماج" أحياناً يجعل هؤلاء الشباب يشعرون بالغربة في وطن ولدوا فيه، ويؤجج ارتباك الهوية العاطفي المرتبط بالذكريات والتاريخ العائلي أو الروايات المتداولة عن الأصل، وهذا الصراع ليس نتيجة خلاف مع القيم الفرنسية، بل نتيجة تعقيدات الهوية الفردية والجمع بين الانتماء الثقافي والديني.

وأظهرت الدراسة، كما أكد المحلل السياسي أن المسلم الفرنسي يعيش تجربة مزدوجة: هو فرنسي في كل تفاصيل حياته اليومية، ومسلم يمارس دينه بحرية، ويجب على المجتمع الاعتراف بهذا التوازن من دون تحميله أعباء اندماجية إضافية غير ضرورية. ورأى بعض الباحثين من جهة أخرى أن هذا النقاش مرتبط بمفهوم العلمنة، وأوضح وهبي أن هناك فرقاً بين اللائكية والعلمنة: فالعلمنة تعني أن الدولة لا تعتبر الدين أو الانتماء الاجتماعي للفرد، بل تنظر إليه بوصفه مواطناً فقط وتحاسب على أفعاله. وفي فرنسا، تطبيق العلمنة في المؤسسات العامة، مثل المدارس، يعتبر مهماً لضمان الحياد، لكن يجب أيضاً احترام المعتقدات الدينية الفردية، كارتداء الحجاب عند المسلمين أو الصليب عند المسيحيين، ما دام أن هذا لا يستخدم لأغراض التبشير أو التأثير في الآخرين.

وأكد وهبي أن بعضهم يبالغ في القلق من الرموز الدينية، معتقداً أنها قد تغير مبادئ الجمهورية، في حين أن الهدف الحقيقي هو احترام المساواة بين كل الأديان، وضمان أن أية ممارسة دينية في الأماكن العامة تكون متاحة بالطريقة نفسها لجميع المواطنين، من دون استثناء أو تفرد.

بين الوقائع والأسئلة المفتوحة

في المحصلة، كشفت هذه الدراسة وما رافقها من آراء وشهادات عن واقع معقد يتجاوز الثنائية السائدة بين "اندماج" و"انعزال"، فالمشهد الديني لدى الشباب المسلمين في فرنسا يشهد تحولات حقيقية، بعضها يعكس بحثاً عن معنى وانتماء، وبعضها الآخر نتاج سياقات اجتماعية وسياسية ضاغطة. لكن هذه المؤشرات، على أهميتها، لا تقدم حكماً نهائياً على جيل بأكمله، ولا تسمح بتعميمات جاهزة، بقدر ما تفتح الباب أمام أسئلة ضرورية حول دور المدرسة، وفعالية السياسات العمومية، وتأثير الخطابات الإعلامية، وحدود العلمانية في بلد يتغير بسرعة. أما مستقبل هذا المشهد، فسيعتمد قبل كل شيء على قدرة المجتمع الفرنسي على فتح نقاش عقلاني يوازن بين حرية المعتقد ومتطلبات العيش المشترك.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير