ملخص
واقع الحرب أدى إلى الانقسام الجغرافي الذي تواجهه آلاف الأسر السودانية في مناطق النزاع وخارج حدود البلاد، إذ يصبح التنقل بين المدن أو الدول خياراً ضرورياً للبقاء على قيد الحياة وتأمين حاجات الأسرة الأساسية من دون معرفة مصير لم شملها.
بعد مرور أسبوع واحد على اندلاع الحرب السودانية في أبريل (نيسان) 2023، اضطرت أسرة سالم النذير للنزوح من منزلها في العاصمة الخرطوم الذي كانوا يقيمون فيه إلى ولاية النيل الأبيض، إذ كان القرار سريعاً وحاسماً، يركز على تأمين مسار آمن لكل فرد من أفراد الأسرة من دون أي اعتبارات أخرى.
لكن بعد ذلك، تفرّقت الأسرة إذ بقيت الأم والأبناء الصغار في ولاية النيل الأبيض، بينما سافر سالم إلى مصر، وانتقل الابن الأكبر للعمل في الخليج، وجاء تفرق وتشتت الأسرة، بحسب سالم، "نتيجة توافر خيارات النقل والأمن النسبي في كل موقع، إلى جانب القدرة على تأمين موارد العيش الأساسية".
صعوبة التواصل
وأضاف سالم "لم يكن هناك مجال للانتظار أو التخطيط طويل المدى، فقد كانت كل خطوة محسوبة وفقاً للظروف الميدانية المتغيرة، مع مراعاة العوامل الأمنية واللوجستية التي فرضتها الحرب على السكان المدنيين".
وتابع رب الأسرة "بعد الانقسام الجغرافي للأسرة، أصبح التواصل بين أفرادها تحدياً يومياً، إذ كانت الاختلافات في البنية التحتية للاتصالات بين المدن والدول المختلفة سبباً رئيساً في صعوبة متابعة الأخبار وتنسيق الحركة بين أفراد الأسرة، وفي بعض المدن تكون الشبكة ضعيفة جداً، وأحياناً لا نستطيع التواصل لمدة يوم كامل، بينما في مصر والخليج الوضع مختلف تماماً، لكن التوقيت والاختلافات تحد من القدرة على التواصل المستمر".
وأردف سالم "كل فرد من الأسرة واجه واقعاً مختلفاً بحسب المدينة التي انتقل إليها، فزوجتي والأبناء الصغار اعتمدوا على دعم الأقارب والمنظمات المحلية لتأمين حاجاتهم الأساسية، بما في ذلك السكن الموقت والتعليم للأطفال، وكانت هذه الترتيبات ضرورية لضمان الاستقرار النسبي في مرحلة النزوح المبكر".
واستطرد المتحدث "بعد فترة لم تتعد الأربع أشهر من وصولي إلى مصر التحقت بعمل سريع لتغطية نفقات معيشتي، ففي الحقيقة أن انتقالي إلى مصر لم يكن مجرد تغيير مكان، بل تغيير كامل لنمط الحياة، فقد كنت مضطراً لتأمين دخل ثابت، فضلاً عن التعامل مع إجراءات الإقامة والعمل، وفي الوقت نفسه متابعة حاجات الأسرة عن بعد".
ومضى الأب سالم في القول "أما ابني الأكبر خالد، الذي انتقل إلى الخليج للعمل، فقد واجه هو الآخر بعض التحديات والصعوبات التي تتعلق بالتكيف مع البيئة الجديدة، والاعتماد على عمله لتأمين مصاريفه ودعم الأسرة عن بعد، فكل هذه التغيرات اليومية أثرت في توزيع المسؤوليات داخل الأسرة، حيث أصبح كل فرد يعتمد على نفسه إلى حد كبير مع التواصل المحدود بين المدن والدول المختلفة".
تراجع الروابط
هذا الواقع الذي يعيشه سالم والذي أدى إلى الانقسام الجغرافي للأسرة، تواجهه الآن آلاف الأسر السودانية في مناطق النزاع وخارج حدود البلاد، إذ يصبح التنقل بين المدن أو الدول خياراً ضرورياً للبقاء على قيد الحياة وتأمين حاجات الأسرة الأساسية من دون معرفة مصير لم شملها.
في هذا الصدد يقول المتخصص في النزاعات والتفكك الأسري حامد حسين "هذه المشكلة شائعة جداً بين الأسر المتفرقة بسبب النزاعات، فضعف شبكات الاتصال، واختلاف التوقيت، وضغوط العمل والعيش كلها عوامل تزيد من صعوبة التواصل المستمر، مما يعيق اتخاذ القرارات المشتركة ومتابعة حاجات الأسرة، إضافة إلى ذلك، يؤدي غياب التواصل المتكرر إلى فقدان التنسيق في التعليم للأطفال، وتنظيم الموارد، وحتى متابعة الوضع الصحي لأفراد الأسرة، وهو ما يضاعف الضغوط اليومية على كل فرد".
وأضاف حسين أن "الأسرة التي تتواجد في أكثر من مدينة أو دولة تواجه خطر تراجع الروابط الأسرية تدريجاً، ويصبح دعم بعضها البعض في الأزمات أقل فاعلية، فالتحدي ليس فقط في توافر وسائل الاتصال، بل القدرة على إدارتها بشكل فعال في بيئة غير مستقرة، وهو جزء من واقع آلاف الأسر السودانية المتفرقة بسبب النزوح القسري".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وزاد المتخصص في النزاعات والتفكك الأسري قوله "الحياة اليومية للأسرة المتفرقة تظهر بوضوح تأثير النزوح القسري على تنظيم الأسرة، إذ يضطر كل فرد للتعامل مع الواقع الجديد بمفرده، سواء من حيث تأمين المعيشة أو متابعة التعليم والرعاية الصحية، كذلك يزيد ضعف التواصل من صعوبة التنسيق في اتخاذ القرارات اليومية ويؤثر في توزيع الموارد ويضاعف الضغوط، في حين أن الانقسام الجغرافي يعيد توزيع الأدوار بسرعة، ويجعل الأبناء الأكبر مسؤولين عن متابعة شؤونهم أو دعم الأسرة عن بعد، بينما يتولى البالغون تأمين الموارد الأساسية، فهذه الظروف تزيد من احتمالية تراجع الروابط الأسرية على المدى الطويل".
شبكة وظيفية
في السياق نفسه، أشار الباحث الاجتماعي نادر البشير إلى أن "الحرب والنزوح القسري يعيدان تعريف الدور والمسؤوليات داخل الأسرة، فالأبناء الأكبر مسؤولون عن متابعة شؤونهم ودعم الأسرة عن بعد، بينما يتحمل البالغون تأمين الحاجات الأساسية، وبالتالي تصبح الأسرة شبكة وظيفية أكثر منها وحدة قائمة على الروابط العاطفية، إذ يركز كل فرد على الجوانب العملية مثل تأمين الطعام والسكن والتعليم والرعاية الصحية، مع التخطيط والتنسيق المستمر حتى عند بعد كل فرد مئات الكيلومترات".
وتابع البشير "التحولات تشمل أيضاً تغيير الأولويات والقيم اليومية وزيادة الاعتماد على التكنولوجيا ووسائل الاتصال البعيدة لمتابعة شؤون الأسرة وإدارة القرارات، فهذه التجربة تؤثر في الأداء اليومي للأسرة وتترك آثاراً طويلة على توزيع المسؤوليات، وهياكل السلطة الداخلية، والعلاقات بين الأجيال المختلفة".
ولفت الباحث الاجتماعي إلى أن "الانعكاسات طويلة الأمد قد تستمر بعد انتهاء النزاع، إذ تستمر بعض الأسر في اعتماد هذه الديناميكيات الجديدة، وتصبح الأسرة أكثر مرونة وتنظيماً وظيفياً، لكنها أقل تماسكاً عاطفياً".