ملخص
على رغم التحديات الاقتصادية والأمنية، اختبرت البشرية إنجازات علمية عديدة استطاعت أن تشكل ثورة هائلة في مجالات الطب المختلفة. وكان من الملاحظ، خلال الأعوام الخمسة والعشرين الفائتة، صدور الأبحاث المهمة التي مهدت لعلاج الكثير من الأمراض المزمنة والمستعصية.
شهد القرن الجديد، منذ بدايته، قفزات طبية غير مسبوقة. وبات ما كنا نحسبه ضرباً من ضروب الخيال في القرن الماضي، واقعاً وحقيقة علمية مثبتة وتمارس كل يوم لتنقذ أرواح الملايين حول العالم.
فمن الحصول على لقاحات لأمراض خطيرة، مروراً باكتشافات مذهلة للجينات البشرية وتركيبتها، وصولاً إلى زراعة الأعضاء والجراحة بمساعدة الروبوتات وتحليل البيانات الطبية للمرضى باستخدام الخوارزميات والذكاء الاصطناعي، تطورت قدرة البشر على علاج أمراضهم والوقاية منها.
وعلى مدى ربع قرن، اتخذت الحكومات والمنظمات الدولية وفي مقدمها منظمة الصحة العالمية، مبادرات عدة وعقدت شراكات وتعاونات لتحسين الأوضاع الصحية؛ حيث كانت البداية في عام 2000 مع إنشاء الشبكة العالمية للإنذار بحدوث الفاشيات والاستجابة لها بغرض اكتشاف انتشارها الدولي ومكافحتها.
كذلك وعلى رغم التحديات الاقتصادية والأمنية، اختبرت البشرية إنجازات علمية عديدة استطاعت أن تشكل ثورة هائلة في مجالات الطب المختلفة. وكان من الملاحظ، خلال الأعوام الخمسة والعشرين الفائتة، صدور الأبحاث المهمة التي مهدت لعلاج الكثير من الأمراض المزمنة والمستعصية.
فما أبرز الإنجازات الطبية التي صنعتها البشرية منذ مطلع الألفية الجديدة وحتى يومنا هذا؟
برنامج الجينيوم البشري
انطلق المشروع في عام 1990، ضمن مبادرة دولية بمشاركة باحثين ومؤسسات متخصصة في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان والصين. وقد قدمت مسودته الأولى في عام 2000، فيما تم الانتهاء من نسخته النهائية في أبريل من عام 2003، حيث أعلن عن أن الجينوم البشري مسلسل بنسبة كبيرة.
منذ ذلك الحين، تم فك تسلسل الآلاف من الجينومات البشرية وأصبحت لدينا خريطة مرجعية لجينوم الإنسان. واستخدم العلماء البيانات الناتجة في مجال العلوم الطبية الحيوية، وعلم الإنسان، والطب الشرعي وغيرها من فروع العلم.
كذلك فتح المشروع الباب أمام فهم الجينات المسؤولة عن الأمراض وتحسين التشخيص وتطوير علاجات تعتمد على الخصائص الجينية، إلى جانب ما قدمه من رؤى جديدة في العديد من مجالات علم الأحياء، بما في ذلك تطور الإنسان.
واليوم، وعلى رغم أن تسلسل الجينوم البشري قد اكتمل تقريباً من أجل الأهداف الطبية والعملية، لا تزال فيه فجوات لم تحل بعد وتنتظر من يكتشفها.
زراعة الأعضاء
على رغم أن محاولات زراعة الأعضاء من جسم إلى آخر، قد بدأت في بداية القرن الماضي حين أجريت أول عملية زراعة قرنية ناجحة في عام 1905، وتطورت على مدى العقود اللاحقة، إلا أن هذه الإجراءات الطبية ومنذ عام 2000 وحتى اليوم، قد تطورت بشكل مضاعف ولأسباب عدة، يأتي في مقدمها التطور التكنولوجي.
سمحت التطورات الجديدة في التقنية الجراحية بإجراء عمليات استخراج متعددة الأعضاء بشكل أكثر كفاءة ودقة مع الحد الأدنى من المضاعفات. وهو ما تشرحه وثيقة مقدمة من المكتبة الوطنية الأميركية للطب، التي توضح أيضاً أن معالجة تثبيط المناعة شهدت تطورات مع توسيع بروتوكولات مثبطات المناعة لتقليل استجابة الجهاز المناعي للمستضيف وتحسين بقاء الطعم على المدى القصير والطويل.
وقد شهدت الأعوام بين 2000 و2010، تحسناً كبيراً في نتائج زرع الأعضاء الصلبة مثل الكلى والكبد والقلب. فيما جرت عام 2006 في نيويورك، أول عملية زراعة فك لتركيب فك المتبرع في جسد المريض باستخدام النخاع العظمي للمريض. وفي عام 2008، أجريت أول عملية زراعة ذراعين كاملين ناجحة في ميونيخ، ألمانيا.
وفي أبريل 2024، خرج ريك سلايمان وهو أول إنسان في العالم زرعت فيه كلية خنزير من مستشفى ماساتشوستس العام بأميركا وعاد لبيته بعد أسبوعين من إجراء الجراحة. وعند مغادرته المستشفى، قال المريض البالغ من العمر 62 سنة إنه "يعيش أكثر اللحظات سعادة في حياته كلها، وهو متحمس للعودة إلى حياته الطبيعية مع عائلته وأصدقائه بعيداً من غسيل الكلى الذي أزعجه مع جميع من حوله طوال أعوام عدة".
وفي آخر الأخبار في مجال زراعة الأعضاء، أظهرت دراسة من جامعة ديوك أن زراعة صمامات قلب للأطفال الذين يعانون عيوباً خلقية خطرة قد تكون بديلاً ناجحاً لزراعة القلب الكامل. في أول 19 حالة، عملت الصمامات بكفاءة ونمت مع الأطفال من دون مضاعفات، مما يشير إلى إمكان تقليل الحاجة إلى أدوية المناعة وتحسين فرص البقاء.
جراحات روبوتية
انعكس التقدم التكنولوجي على مجال الطب، محدثاً فيه ثورة مذهلة. وكانت النتيجة مشاركة الحواسيب والروبوتات في العمليات الجراحية وإنقاذ أرواح الكثيرين.
وبحسب "مايو كلينك"، فإن الجراحة الروبوتية أتاحت للأطباء القيام بالعديد من الإجراءات المعقدة بدقة ومرونة وتحكم أكبر مقارنةً باستخدام الإجراءات التقليدية. وفيما تُجرى الجراحة الروبوتية غالباً من خلال شقوق صغيرة، تُستخدم أحياناً في الجراحات المفتوحة.
أطلق اسم جهاز دافينشي على النظام الجراحي الذي يعتمد على تقنية روبوتية لإجراء عمليات جراحية دقيقة وطويلة التوغل. وفي معظم الأوقات، يتضمن هذا النظام ذراعاً مزودة بكاميرا وأذرعاً آلية مزودة بأدوات جراحية. ويتحكم الجرّاح في الأذرع وهو جالس أمام مركز تحكم، يسمى وحدة تحكم، بالقرب من طاولة العمليات. ويرى الجرّاح عرضاً مكبراً وعالي الدقة وثلاثي الأبعاد لموضع الجراحة.
وبحسب "ستاتيستا"، أجري في عام 2024 نحو 2.68 عملية جهاز دافينشي، منها 1.3 مليون عملية جراحة عامة و621 ألف عملية في المسالك البولية و565 ألف عملية في أمراض النساء.
كان من المتوقع أن يحقق سوق روبوتات الخدمات الطبية 14.49 مليار دولار في عام 2025. ومن المتوقع أن تشهد هذه الإيرادات معدل نمو سنوي ثابت بنسبة 9.65 في المئة، مما يؤدي في النهاية إلى حجم سوق يبلغ 22.96 مليار دولار أميركي بحلول عام 2030.
علاج السرطان
حتى نهاية القرن الذي مضى، كان علاج مرض السرطان أمراً شبه مستحيل. لكن ومنذ مطلع الألفية الجديدة، ومع الكثير من التقدم الجيني والدوائي، اكتشف الباحثون علاجات مختلفة لأنواع عدة من هذا المرض، وفي ما يلي آخر ما توصل إليه العلم والطب في هذا المجال:
في أغسطس الفائت، أفاد موقع Science Daily؛ أنه تم التوصل حديثاً إلى تقنية جديدة تقوم على مبدأ إعادة الخلية المريضة إلى حالتها الطبيعية عن طريق تعديل سلوكها الجيني، في حين أن العلاجات التقليدية كانت تستهدف تدمير الخلايا السرطانية باستخدام الكيمياء أو الإشعاع.
العلماء طبقوا التقنية الجديدة على فئران تجارب داخل المختبر وكانت النتيجة ممتازة سريرياً. حتى اللحظة يمكن تطبيقها على خلايا سرطان القولون فقط، لكن الباحثين يؤكدون أن النموذج الحسابي المستخدَم يمكن من خلال فهم الخصائص الجينية، استخدامه لعلاج أمراض سرطانية أخرى مثل: سرطان الكبد والثدي والرئة.
وقبل شهر تقريباً، تطرقت بروفيسورة مساعدة في الهندسة الطبية الحيوية في "جامعة ماساتشوستس في أمهرست" إلى تمكن فريق باحثين من تطوير لقاح ضد الأورام السرطانية ما يحفز الأمل بتقليص المرض العضال في بعض أنواعه والقضاء عليه في أنواع أخرى. ويقوم اللقاح المبتكر على تقنية "الجسيمات النانوية" ويملك القدرة على منع الإصابة بسرطانات الجلد والبنكرياس و"الثدي الثلاثي السلبي" لدى الفئران.
وأفاد فريق الباحثين، الذين نشرت دراستهم في مجلة "سيل ريبورتس ميديسن" بأن تصميم اللقاح الجديد يوفر طريقة مبتكرة قابلة للتطبيق على أنواع عدة من السرطان، مما يمهد الطريق أمام تطوير علاجات وقائية وعلاجية متعددة الاستخدامات ضد الأورام المختلفة.
أول اختبار سريع للكشف عن مرض السل
في عام 2010، أجري أول اختبار جزيئي سريع لاكتشاف مرض السل بعد عقود من الاقتصار على استخدام الفحص المجهري للطاخات البلغم. ووفقاً للموقع الرسمي لمنظمة الصحة العالمية، فقد كان الفحص المجهري للطاخة البلغم مقترناً بضعف النوعية والموثوقية. وتساعد الاختبارات الجديدة على تشخيص السل بدقة أكبر، وتحديد مقاومة الأدوية في وقت مبكر.
وبلغة الأرقام، يلزم توفير 22 مليار دولار أميركي سنوياً للوقاية من السل وتشخيصه وعلاجه ورعاية المصابين به من أجل تحقيق الغايات العالمية بحلول عام 2027 والمتفق عليها في اجتماع الأمم المتحدة الرفيع المستوى بشأن السل في عام 2023.
الذكاء الاصطناعي
قدمت المكتبة الوطنية الأميركية للطب (PMC) ورقة بحثية أشارت فيها إلى استخدامات الذكاء الاصطناعي في العلوم الصحية والمجالات الطبية، وذلك بالتزامن مع التطور السريع الذي يشهده قطاع الصحة العالمي.
وأكدت الورقة أن الذكاء الاصطناعي بات يستخدم اليوم لتحسين التشخيص الطبي ودقة التنبؤ وسرعة وكفاءة عملية التشخيص. ويمكن لخوارزمياته تحليل الصور الطبية (مثل الأشعة السينية، والرنين المغناطيسي، وفحوصات الموجات فوق الصوتية، والتصوير المقطعي المحوسب، ومساعدة مقدمي الرعاية الصحية في تحديد الأمراض وتشخيصها بدقة وسرعة أكبر.
أيضاً، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل كميات كبيرة من بيانات المرضى، بما في ذلك التصوير الطبي ثنائي وثلاثي الأبعاد، والإشارات الحيوية، والسجلات الصحية الإلكترونية والمؤشرات الحيوية (مثل درجة حرارة الجسم، معدل النبض، معدل التنفس، وضغط الدم)، والمعلومات الديموغرافية، والتاريخ الطبي، ونتائج الفحوصات المخبرية. يمكن أن يدعم هذا اتخاذ القرار ويقدم نتائج تنبؤية دقيقة. يمكن أن يساعد ذلك مقدمي الرعاية الصحية على اتخاذ قرارات أكثر اطلاعاً بشأن رعاية المرضى.
اللقاحات
طورت البشرية على مدى عقين ونصف لقاحات طبية ضد أمراض عدة، أسهمت في الحد من انتشار الأوبئة والقضاء عليها في كثير من الأحيان.
أهم اللقاحات التي اعتمدت بعد عام 2000 هو لقاح التهاب الكبد الوبائي (أي وبي) ولقاح فيروس الورم الحليمي البشري الذي يحمي من بعض أنواع السرطان المرتبطة بالفيروس ومنها سرطان عنق الرحم، ولقاح شلل الأطفال والحصبة.
وفي هذا الشأن، فإن لقاح فيروس كورونا، هو الأقرب إلى ذاكرتنا، بعد أن تسبب فيروس "كوفيد 19" الذي بدأ من الصين في ديسمبر عام 2019، بأزمة صحية عالمية انعكست آثارها على الاقتصاد الدولي وأدت إلى انهياره في بلدان عدة.
وخلال الجائحة أظهر الأطباء قدرة كبيرة على الاستجابة للأزمة، وعملوا على اكتشاف طرق الوقاية بالتزامن مع توفير طرق العلاج. وكان اللقاح هو الأمل الكبير للبشرية في محاربة هذا الفيروس بعد أن أودى بأرواح الملايين. وبالفعل، جرى تطوير مجموعة متنوعة من اللقاحات، سعت إلى تحفيز الجهاز المناعي لتكوين استجابة مناعية ضد الفيروس من دون التسبب في الإصابة به، وهي: اللقاحات البروتينية واللقاحات المقرونة بالفيروسات الناقلة واللقاحات الفيروسية المعطلة واللقاحات القائمة على mRNA.
هل الثورة الطبية الجديدة متاحة للجميع؟
ينقسم العالم بين شمال غني وجنوب فقير، وبين دول متقدمة وأخرى نامية، على كافة الأصعدة بما ينعكس على صعيد الوصول إلى الرعاية الصحية اللازمة.
وفي حين بقيت الإنجازات والقفزات الجديدة في عالم الطب، بعيدة من أبناء الدول ذات الدخل المحدود، سجل توفير الإجراءات واللوازم الطبية الأساس والمفترض توافرها في أي مجتمع من المجتمعات، تراجعاً حاداً في كثير من الدول بسبب الحروب والنزاعات المسلحة، لا سيما في سوريا والسودان والأراضي الفلسطينية.
أما بما يخص اللقاحات، والتي المفترض أنها مدعومة من المنظمات العالمية، ويجب أن تصل إلى كل بقعة جغرافية على هذه الأرض، فلم تصل بالشكل الكافي والمطلوب ضمن التوصيات الدولية.
خلال عام 2024، وبحسب منظمة الصحة العالمية، فاتت فرصة حصول 14.3 مليون طفل على أي جرعة من التطعيم. وفيما يعيش ربع الأطفال الصغار في العالم في 26 بلداً فقط متأثرة بأوضاع هشاشة أو نزاعات أو أزمات إنسانية، إلا أنهم يشكّلون نصف الأطفال غير الحاصلين على اللقاحات في العالم.
ومما يثير الانشغال أن عدد الأطفال غير الحاصلين على اللقاحات توسّع بسرعة في نصف هذه البلدان، وذلك من 3.6 مليون في عام 2019 إلى 5.4 مليون في عام 2024.
المنظمة تؤكد أيضاً بما يخص مرض السرطان، أنه وبينما ترتفع معدلات الشفاء من بعض أنواع المرض، مثل أورام القنوات المنوية الخصوية وشتى أنواع سرطان الدم وأورام الغدد اللمفاوية التي تصيب الأطفال، إذا زُوّد مرضاها بالعلاج المناسب، فإن هذا العلاج ليس متوافراً لجميع سكان الكوكب.
وكشفت أن ثمة تبايناً كبيراً في معدلات توافره بين البلدان من مختلف مستويات الدخل؛ وعلى ما يُذكر، فإن العلاج الشامل متوافر في أكثر من 90 في المئة من البلدان المرتفعة الدخل، ولكن في أقل من 15 في المئة من البلدان المنخفضة الدخل.
كيف يمكن أن يحصل الجميع على نصيبه من الثورة الطبية؟
يوصي نشطاء وحقوقيون ومنظمات بتحييد المستشفيات والمراكز الطبية في حالات الصراعات والنزاعات، وهو ما لا يحدث أبداً، إذ تستهدف غالباً هذه المراكز كوسيلة للضغط والتدمير.
وينادي هؤلاء أيضاً في توزيع المستلزمات والمعدات الطبية واللقاحات للدول التي لا تمتلك القدرة على شرائها أو تصنيعها. ومن جهة أخرى، تدعم منظمة الصحة العالمية القدرة على التصنيع والإنتاج محلياً في هذه الدول، وتدعم إنشاء اتحادات بحث وتطوير لمعالجة الأمراض ذات الأولوية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، ولتوسيع إنتاج الرنا المرسال لتلبية الأولويات الصحية الإقليمية.
أيضاً، فإن على الحكومات الوطنية أن تلعب دوراً رئيساً وفاعلاً في بناء مصانع أو إقامة شراكات لتحفيز الاستثمارات. ومثال على ذلك، اتخذ القادة الأفارقة خطوات لتحقيق السيادة في مجال اللقاحات بحلول عام 2040. ومن أجل الوصول إلى هدفهم، سيحتاج المصنعون الأفارقة إلى إنتاج لقاحات تفوق إنتاجهم الحالي بـ 73 ضعفاً. ويتطلب النجاح شراكات مبتكرة، وتمويلاً جديداً، وتغييرات في السياسات.
وحتى اللحظة، فإن العديد من العوائق لا تزال قائمة أمام إمكانية أن ينعم جميع سكان الكوكب بحياة صحية ومتابعة طبية ذات مستوى جيد ومواكبة لأحدث الأبحاث والإنجازات. أبرزها تركيز التصنيع والملكية الفكرية في مناطق محدودة، وتحديداً تلك التي تتطلب مساهمة تكنولوجية متطورة.