Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مؤتمرات "كوب"... تكلم الجميع وضاع صوت الأرض

نجحت في بناء لغة عالمية مشتركة لكنها فشلت في فرض التغيير داخل الحكومات التي ظلت أسيرة حسابات الطاقة والسياسة

حتى الأمين العام للأمم المتحدة افتتح قمة بيليم بالتشديد على أن إخفاق العالم في مسار 1.5°م "فشل أخلاقي" (أ ف ب)

ملخص

كثيراً ما حاولت مؤتمرات "كوب" للبيئة التي تعقد تحت مظلة الأمم المتحدة، كيف نحمي الكوكب من أنفسنا؟ من باريس 2015 إلى دبي 2023 ثم بيليم 2025، تتكاثر التعهدات والصور، فيما الحرارة العالمية تسجل مستويات قياسية. ربما لأن المشكلة لم تكن في صياغة النصوص بل في تحويلها إلى واقع.

منذ 30 عاماً والعالم يجتمع في مؤتمرات "كوب" التي تعقد تحت مظلة الأمم المتحدة، ليواجه سؤالاً واحداً هو كيف نحمي الكوكب الأزرق من أنفسنا؟

من باريس 2015 إلى دبي 2023، ثم بيليم 2025، لم يخل أي مؤتمر من التعهدات الكبرى، ولا من الصور التذكارية الكثيرة التي تضم جميع البيئيين من مختلف الأصناف، حكوميين وغير حكوميين وجمعيات ومنظمات ووزارات ومعنيين. مع ذلك، ما زالت حرارة الأرض ترتفع والانبعاثات تتجاوز أرقامها القياسية عاماً بعد عام، فيما تتآكل الثقة بقدرة الحكومات على تحويل الخطابات الكثيرة والطويلة والجدية إلى سياسات واقعية قابلة للتنفيذ على الأرض.

مؤتمرات "كوب" لم تفشل في بناء اللغة المشتركة حول المناخ بل في تحويلها إلى فعل. لقد أنشأت منظومة دقيقة من الأهداف والالتزامات، لكنها تركت التنفيذ رهينة التوازنات الاقتصادية والضغوط السياسية. لهذا انتقلت القضية من يد الدبلوماسي إلى يد الناشط، ومن منصة التفاوض إلى الشارع والمنظمات المستقلة. صار التغيير يأتي من الأسفل، من حملات المقاطعة والدعاوى القضائية البيئية ومبادرات المدن والجامعات، وصناديق التقاعد التي تسحب استثماراتها من الوقود الأحفوري.

 

هذا التحول لا يقرأ كفشل كامل، بل كإعادة توزيع للأدوار. فبعدما عجزت القمم عن خفض الانبعاثات فعلياً، تشعبت القضية البيئية إلى شبكة معقدة من المؤسسات والمنظمات، حكومية ودولية وغير حكومية، ربحية وغير ربحية، علمية وناشطة وإعلامية. لكل منها لغته ومنهجه وأولوياته، حتى بات من الضروري فهم هذا المشهد المتداخل، من الأمم المتحدة وبرنامجها البيئي إلى الجمعيات المحلية داخل المدن، من البنك الدولي وصندوق المناخ الأخضر إلى مبادرات التمويل المستدام التي تدار من القطاع الخاص.

لكن مع اتساع هذه الشبكة، تغير هدف القضية نفسها. لم تعد البيئة شعاراً للانتقال إلى كوكب أنظف فحسب، بل صارت "روزنامة" مهنية عامرة بالمشاريع والموازنات والعلاقات العامة والمناقصات والتقارير السنوية. دخلت السياسة والمال والبيروقراطية فصارت بعض الجمعيات تقاتل لأجل استمرار وجودها أكثر مما تقاتل لأجل البيئة ذاتها، وهذه حال أكثر القضايا الإنسانية عندما تتضخم وتتوسع وتتفرع، وليست مشكلة القضية البيئية العالمية وحدها.

خريطة الجهات البيئية

حين نفتح خريطة العمل البيئي اليوم، نجدها أشبه بكوكب موازٍ تحكمه مؤسسات متعددة الطبقات. في القمة تقف المنظومة الأممية، مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) واتفاق الأمم المتحدة الإطاري في شأن تغير المناخ (UNFCCC)، وهما يضعان المعايير الكبرى ويديران مؤتمرات "كوب" كل عام التي تشكل الإطار العالمي. هذه المنظومة تعمل على مستوى "اللغة والسياسات" أكثر من التنفيذ الميداني، فتعتمد على تقارير ولجان وتعهدات وطنية، لكنها نادراً ما تمتلك سلطة إلزامية على الدول.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إلى جانبها تأتي المنظمات الدولية المتخصصة مثل البنك الدولي وصندوق المناخ الأخضر ومنظمة الأغذية والزراعة (FAO)، وهي تمتلك أدوات التمويل والمشروعات التنموية. وهنا يصبح العمل البيئي جزءاً من برامج أوسع في التنمية والاقتصاد، فتقاس البيئة بالأرقام والموازنات، لا فقط بالمبادئ.

أما المنظمات غير الحكومية العالمية مثل "غرينبيس" والصندوق العالمي للطبيعة (WWF)، فهي تقف في منطقة وسطى بين المثالية والبراغماتية. تصبح الصوت العالي حين تسكت الحكومات، لكنها تعتمد على التبرعات فتوازن بين النقد والتعاون مع الشركات والحكومات.

تحت هذه الطبقة تنتشر المنظمات المحلية والإقليمية، وهي أكثر التصاقاً بالواقع الميداني، منها الجمعيات الأهلية الصغيرة التي تزرع الأشجار أو تنظف الشواطئ، ومنها المراكز البحثية التي تراقب جودة الهواء والمياه وتصدر دراسات مستقلة.

بين هذه المستويات الأربعة تتباين الفلسفات والمناهج. فهناك من يرى البيئة قضية تقنية تحتاج حلولاً هندسية وتمويلاً، وهناك من يراها مسألة عدالة وحق إنساني. بعضهم يقيس النجاح بالنتائج، وآخر يقيسه بعدد الأصوات التي توافق على مشروعه. وهكذا لم تعد البيئة ميداناً واحداً، بل ساحات متجاورة تختلف في اللغة والوسائل والغايات.

من الحلم إلى البيروقراطية

بدأت الحكاية خلال ستينيات القرن الماضي حين خرجت أولى الحركات البيئية في أوروبا والولايات المتحدة ترفع شعار "أنقذوا الأرض". كان المشهد حيوياً مثل شباب يزرعون الأشجار، ومفكرين يكتبون عن "حدود النمو"، وناشطين يلاحقون مصانع النفط في المرافئ. كانت البيئة فكرة رومانسية تعبر عن وعي جديد بأن الإنسان ليس مركز الكون، بل أحد مكوناته.

ثم جاءت السبعينيات لتصوغ هذا الحلم داخل مؤسسات. تأسست برامج الأمم المتحدة، وعُقد مؤتمر ستوكهولم (1972)، ثم ارتفع صوت العلماء مع تقارير "نادي روما". ومنذ ذلك الحين بدأ النشاط البيئي يتخذ شكلاً مزدوجاً بين الحراك الشعبي من جهة، ومأسسة بيروقراطية من جهة أخرى.

 

خلال التسعينيات، ومع قمة ريو دي جانيرو و"اتفاق باريس" لاحقاً، تحولت البيئة إلى قضية دولية كبرى. صار لكل حكومة وزارة للبيئة، ولكل جامعة قسم "استدامة"، ولكل شركة قسم "مسؤولية اجتماعية". انتقلت القضية من الشارع إلى المكاتب، ومن اللافتة إلى التقرير السنوي، ومن الحلم إلى النموذج التنفيذي.

لكن هذه المأسسة التي أعطت الحركة البيئية عمراً أطول وسرقت منها كثيراً من روحها الأصلية. فقد صارت الجمعيات تعد المشاريع كما تعد الشركات موازناتها، وتبحث عن "شركاء استراتيجيين" بدلاً من المتطوعين. تحول خطاب البيئة من نداء إنساني إلى لغة تقنية مملوءة بالمصطلحات.

خلال العقدين الأخيرين، تفرعت القضايا إلى حد غير مسبوق. لم تعد البيئة قضية واحدة، بل عوالم متشابكة، الاحتباس الحراري والبلاستيك البحري والطاقة المتجددة، والعدالة المناخية والتمويل الأخضر. مع ذلك، فإن لهذا التعدد جانباً مضيئاً لأنه أنقذ كثيراً من الغابات والبحار والمدن من مصير أسود.

الكوكب يفقد صوته

مؤتمرات "كوب" التي بدأت كاجتماعات طارئة لإنقاذ العالم فإذا بها تتحول إلى طقس كل عام من التصفيق والكلمات، نجحت في بناء لغة مشتركة، ولكنها فشلت في فرض التغيير داخل الوزارات التي تظل أسيرة حسابات الطاقة والسياسة. هنا بالضبط انتقلت القضية إلى الشارع، إلى القضاء، وإلى جيل جديد يرى في المناخ جوهر العدالة، لا ترف السياسة.

الانبعاثات لم تتراجع على رغم كل المؤتمرات السابقة والحالية، فالتقديرات تضع إجمال غازات الدفيئة العالمية عام 2023 عند مستوى 53.0 غيغاطن مكافئ CO2 (أي بزيادة 1.9 في المئة على عام 2022)، فيما تؤكد وكالة الطاقة الدولية وصول انبعاثات قطاع الطاقة عام 2024 إلى مستوى قياسي يبلغ 37.8 غيغاطن.

نجحت مؤتمرات "كوب" في بناء لغة ومعايير، لكنها فشلت كرافعة تنفيذ داخل الوزارات المقيدة بحسابات الطاقة والاقتصاد والسياسة. لذلك تحول مركز الثقل من قاعات المفاوضين إلى المجتمع، وحتى الأمين العام للأمم المتحدة افتتح قمة بيليم بالتشديد على أن إخفاق العالم في مسار 1.5°م "فشل أخلاقي"، مما يعكس انتقال الشرعية الأخلاقية تدريجاً خارج الإطار الحكومي، بحسب ما عنونت صحيفة "الغارديان" قبل أسبوع حول الموضوع.

لهذا فإن مؤتمرات "كوب" باتت منصة أنتجت لغة ومعايير، وأدخلت للمرة الأولى في دبي عبارة "التحول عن الوقود الأحفوري"، لكنها عجزت عن فرض التغيير على وزارات أسيرة ضرورات الطاقة والسياسة. في بيليم تتكرس الحقيقة، أي إن الشرعية الأخلاقية لم تعد حكراً على السلطات على اختلافها، بل إنها تعود إلى المفاوضين والناشطين والبلديات والجامعات والمستثمرين الذين يعيدون توجيه رؤوس الأموال، أي إن القضايا البيئية عادت لتنزل من القمة إلى القاعدة حيث بدأت. هذا الاتساع من أعلى الهرم نحو قاعدته يوقف التهديد بضياع الصوت البيئي الأخلاقي الأصلي بين الميكروفونات، ويوقف خطاب إنقاذ الكوكب من أن يصير صناعة أيضاً. عودة مشاركة القاعدة ستسهم في إغلاق فجوة التنفيذ عبر خطط عام 2035 شاملة، وتمويل يتناسب مع الحاجة، وقوانين وطنية تربط التعهدات بالموازنات والقطاعات، وإلا ستظل القاعات تتكلم والجو يسخن.

المزيد من بيئة