ملخص
عدد كبير من الفلسطينيين غادروا غزة مع بداية الحرب، معتقدين بأنها ستكون قصيرة كما في حروب سابقة، فاتخذوا من القاهرة محطة موقتة. لكن مع استمرار الحرب وتجاوزها العامين، تدهورت أوضاعهم المعيشية ونفدت مدخراتهم، مما دفعهم إلى التفكير في العودة على رغم قسوة الحياة داخل القطاع.
لا تزال الفلسطينية أحلام أحمد التي وصلت إلى القاهرة آتية من غزة وحيدة لتلقي العلاج، تتشبث بخيط رفيع من الأمل في أن يتحرك ملف العالقين بين مصر والقطاع من جديد، إذ كانت من أوائل من سجلوا منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عقب إعلان السفارة الفلسطينية فتح باب التسجيل الإلكتروني للراغبين في العودة، إثر أحاديث عن قرب إعادة فتح معبر رفح. لكن الوعود التي بدت قريبة التحقق سرعان ما تجمدت، بعدما علقت إسرائيل تنفيذ التفاهمات، مشترطة استعادة جميع جثامين أسراها لدى حركة "حماس".
وفي الـ 18 من أكتوبر الماضي، أعلنت السفارة الفلسطينية في القاهرة فتح باب التسجيل عبر تطبيق "واتساب" للراغبين في العودة لغزة، على أن يجري إبلاغهم لاحقاً بمواعيد وأماكن التجمع تمهيداً للتحرك نحو المعبر الذي كان مقرراً افتتاحه في الـ20 من الشهر نفسه بعد التنسيق مع الجهات المصرية، قبل تراجع إسرائيل.
ومنذ بداية وقف إطلاق النار، سلمت حركة "حماس" جثث 22 من أصل 28 رهينة، مشيرة إلى أن الدمار الواسع الذي خلفته الحرب في غزة صعّب عمليات البحث عن بقية الجثث. في المقابل، تتهم إسرائيل "حماس" بالمماطلة في تسليم الرهائن، بينما أعلنت وزارة الصحة في غزة أن إسرائيل سلمت جثث 285 فلسطينياً من القطاع.
وعلى رغم تراجع حدة القتال منذ بدء الهدنة، تواصل إسرائيل شن غارات متقطعة على مناطق مختلفة في القطاع. وقبل نحو شهر، وافقت إسرائيل و"حماس" على المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب ذات النقاط الـ20 في شأن غزة التي نصت على وقف إطلاق النار بعد حرب استمرت قرابة عامين، إضافة إلى اتفاق لتبادل الإفراج عن الرهائن.
عودة منتظرة
تقول أحلام التي وصلت إلى القاهرة بمفردها في ذروة حرب غزة لاستكمال علاجها بعد إصابتها في القصف الذي دمر منزل عائلتها، إن فرحة الإعلان عن ترتيبات العودة تحولت سريعاً إلى "خيبة أمل بعد توقف التجهيزات للعودة المنتظرة".
وتضيف "عندما توقفت إجراءات العودة، شعرت بأن الحرب لم تنتهِ. كنت أظن أن الأمور تتجه نحو الاستقرار، وكنت أرغب في العودة لأنني حتى لو دمر منزلنا في غزة، لن أترك وحيدة في الشارع لعجزي عن دفع الإيجار. في القاهرة، إن لم نملك المال، لا نستطيع تأمين الطعام أو السكن، فنحن بلا عمل. أما في غزة، ففي الأقل أعيش بين أهلي، هناك لا يترك أحدنا الآخر، ونتقاسم القليل معاً."
وتعقيباً على تزايد طلبات الفلسطينيين للعودة للقطاع، قال السفير الفلسطيني السابق لدى القاهرة بركات الفرا لـ"اندبندنت عربية" إن معظمهم يواجهون صعوبات معيشية تتعلق بالإقامة والتعليم والعلاج، وهي حاجات يصعب تأمينها في مصر، مضيفاً أن العودة لغزة على رغم الدمار تمنحهم شعوراً أفضل بالاستقرار النفسي مقارنة بالبقاء في ظروف غير مستقرة في الخارج.
وأوضح الفرا أن عدداً كبيراً من الفلسطينيين غادروا غزة مع بداية الحرب، معتقدين بأنها ستكون قصيرة كما في حروب سابقة، فاتخذوا من القاهرة محطة موقتة. لكن مع استمرار الحرب وتجاوزها العامين، تدهورت أوضاعهم المعيشية ونفدت مدخراتهم، مما دفعهم إلى التفكير في العودة على رغم قسوة الحياة داخل القطاع. وأبدى اعتقاده بأن غالبية الفلسطينيين الذين وصلوا إلى القاهرة خلال الحرب سيعودون في نهاية المطاف لغزة بعدما استنزفت إقامتهم الطويلة مدخراتهم وتفاقمت أوضاعهم المعيشية، على رغم إدراكهم أن الحياة في القطاع لا تزال صعبة وتحت وطأة الدمار.
وأعلنت مصر أنها استقبلت نحو 107 آلاف فلسطيني، وأجريت لهم جميع الفحوص الطبية الضرورية، فيما استقبلت المستشفيات المصرية أكثر من 8 آلاف مصاب فلسطيني بجروح متفرقة، يرافقهم نحو 16 ألف شخص.
وحول دوافع العودة، تقول الفتاة الفلسطينية لـ"اندبندنت عربية" إنها لا تملك أي مصدر دخل في القاهرة، ولا تتلقى مساعدات من السفارة أو أية جهة أخرى، وتردف أن سوق العمل مغلقة أمام الفلسطينيين، وتأمين أبسط الحاجات يتطلب مبالغ كبيرة مع ارتفاع الإيجارات، موضحة أن "أكثر ما يؤلمني أنني بلا معيل، أشعر بأنني عبء على أسرتي التي تكافح لتأمين حاجاتي. عدم امتلاكي إقامة يحرمـني من السفر أو الانتقال إلى بلد آخر. وتجربتي في مصر كانت صعبة على رغم تقديري لما قدمته القاهرة إلينا. الغلاء يلتهم كل شيء، والعيش يحتاج إلى مال دائم".
وتتابع أحلام، "كثيراً ما أقول لنفسي يا ليتني لم أغادر غزة، وجئت إلى القاهرة. كنت أفضل أن أبقى وسط عائلتي من أن أعيش وحيدة أخاف من الغد. أشتاق إلى أشياء قد تبدو غريبة مثل صوت الطائرات الزنانة، ربما لأننا تربينا وسط الحرب واعتدنا على القصف وانقطاع الكهرباء، حتى صارت هذه التفاصيل جزءاً من حياتنا. المعاناة في بلدي أهون من الغربة في بلد لا أملك فيه شيئاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب رواية أحلام، فإن الفلسطينيين المقيمين في مصر لم يحصلوا على تسهيلات في الإقامة أو العلاج أسوة بلاجئين من جنسيات أخرى، مما اضطرهم إلى دفع مبالغ كبيرة في المستشفيات، وتقول "أجريت عمليتين جراحيتين على نفقتي الخاصة، من دون أن يرافقني أحد، وكنت أجد صعوبة حتى في قضاء حاجتي".
وأكد وزير الصحة والسكان المصري الدكتور خالد عبدالغفار خلال مداخلة تلفزيونية في يوليو (تموز) الماضي أن مصر تحملت كلفة علاج أهالي غزة التي تجاوزت 500 مليون دولار أميركي منذ بداية الحرب في أكتوبر عام 2023، مشيراً إلى أن الدعم الدولي المقدم لغزة لا يتجاوز 10 في المئة مما قدمته مصر وحدها إلى أبناء القطاع.
وتختتم أحلام حديثها بالقول "عندما غادرت غزة لم أتخيل أن الحياة في القاهرة ستكون بهذه الصعوبة. كنت أعتقد بأن 200 دولار تكفيني شهرياً كما في السابق، لكنني اكتشفت أن حتى ألف دولار اليوم لا تكفي لشيء. وعدم امتلاكي إقامة في مصر يجعلني عاجزة عن تسلم أي تحويل مالي من عائلتي في غزة، إذ ترسل المبالغ باسم شخص آخر يحمل إقامة قانونية، ثم أذهب إليه لتسلمها، مما يجبرني في كل مرة على انتظار أحد معارفي لتسلم المال بدلاً مني".
أعباء ثقيلة
ولم تكُن أميرة محمد بمنأى عن الأحوال التي يعيشها الفلسطينيون في مصر، وتقول "قدمت بمجرد الإعلان عن رابط عبر ’واتساب‘ لتسجيل الراغبين في العودة لغزة لأن زوجي لا يزال هناك. كنت من الدفعات الأولى التي غادرت القطاع مع بداية الحرب، واصطحبت أولادي إلى مصر، لكن الإيجارات والمصاريف أثقلت كاهلي".
وتتابع أميرة "اضطررت إلى حرمان بناتي من استكمال دراستهن في البداية، لكن هذا العام أدخلتهن مدرسة فلسطينية تقدم المنهج الفلسطيني. المشكلة أن المواصلات صعبة جداً، والمدرسة بعيدة من إقامتي الموقتة في جسر السويس، فهي تقع في مدينة نصر، وهي المدرسة المجانية الوحيدة. أترك أطفالي وحدهم يقطعون الطريق الطويل كل يوم، وأعيش في خوف دائم عليهم".
وتضيف "لديّ خمس بنات، أعيش معهن وحدي من دون عائل، ولا أستطيع أن أرتاح. أظل خائفة عليهن طوال الوقت. تركت غزة في بداية الحرب على أمل ألا تطول، كنت مترددة في الخروج، لكن زوجي أصرّ وقال لي إن أي مكروه يصيب البنات سأكون أنا السبب فيه لو رفضت المغادرة".
وتوضح أميرة أن الحياة في القاهرة كانت أصعب مما توقعت، "زوجي ليس معي، والمسؤولية كبيرة جداً. في غزة كان يتولى كل شيء، أما هنا فأنا وحدي أتحمل أعباء المعيشة. هناك كان لدينا منزل وأرض، ولم نكن نقلق في شأن الإيجار أو المصاريف، كما أن التعليم كانت تتكفل به ’أونروا‘، والمدارس كانت متاحة. هنا كل شيء مختلف".
وتتابع "في السنة الأولى لم يدخل أولادي المدارس، وفي الثانية لم نكن نعرف شيئاً عن النظام التعليمي، وهذه السنة فقط استطعت إدخالهم المدرسة على رغم بعدها. الإيجار هنا 7000 جنيه ضمن منطقة شعبية، والأسعار مرتفعة جداً. لا أستطيع التأقلم وحدي مع هذه الأعباء. أعتمد على طرود غذائية من جمعيات مصرية ومبادرات من أبناء غزة في القاهرة. ولولا هذه المساعدات كنا سنعاني بصورة أكبر".
ودخل اتفاق التهدئة في غزة حيز التنفيذ في الـ 11 من أكتوبر الماضي بعد عامين من العدوان الإسرائيلي على القطاع. ويبدأ مجلس الأمن الدولي مناقشة مشروع قرار قدمته الولايات المتحدة لدعم خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للسلام في غزة. وينص المشروع على منح تفويض لمدة عامين لهيئة حكم انتقالية، فضلاً عن نشر قوة دولية للمساعدة في تحقيق الاستقرار في القطاع.
وأشار ترمب إلى أنه يتوقع نشر قوة الاستقرار الدولية الخاصة بغزة "قريباً جداً"، ومن المرجح أن تنتشر قوة الاستقرار الدولية تحت قيادة موحدة يجري التوافق عليها داخل "مجلس السلام". وعلى رغم استبعاد إدارة ترمب إرسال قوات أميركية إلى غزة، فقد أجريت مشاورات مع عدد من الدول للإسهام في تشكيل القوة المتعددة الجنسيات المقترحة.
ولم تختلف حال سميرة توفيق عبدالرازق (50 سنة) عن الفلسطينيين الذين وصلوا إلى مصر أثناء اندلاع الحرب، إلا أنها وصلت إلى القاهرة قبل اندلاعها بأيام في الـ 29 من سبتمبر عام 2023 برفقة ابنها الطالب في جامعة الأزهر، ثم أغلقت المعابر فجأة، مما منعها من العودة لغزة.
"أعيش هنا مع ابني، بينما زوجي وأربعة من أبنائي ما زالوا في غزة، وكنت أنوي الرجوع أثناء الهدنة، لكن المعبر أغلق. الآن يعيشون في خيم بعد أن تهدم منزلنا مرات عدة"، وتضيف "أنا امرأة مريضة، وابني طالب ولا يعمل. لا أستطيع تحمل الضغوط الاقتصادية. قدمنا طلبات دعم لدى أكثر من مؤسسة، لكنهم يقولون دائماً إن العدد اكتمل. السفارة ساعدتنا مرتين فقط ثم تركتنا لحالنا. لا أعرف ماذا أفعل، فأنا مسؤولة عن ابني وحدي".
وتتابع سميرة "نعتمد على مساعدات الأقارب ونقضي فترة إقامتنا بأقل الكلف، لكن إلى متى؟ الغلاء لا يطاق، ولا أنام من كثرة التفكير. وخلال الحروب السابقة كان أولادي حولي. أما في هذه الحرب فخالي قتل ولم أرَه، وأقاربي أيضاً. هذا أرهقني نفسياً. كل ما أريده الآن هو العودة لغزة، حتى لو في خيمة. نسيت شكل أولادي. أريد أن أضمهم وأشم رائحتهم، حتى لو مت بعدها".
وتختم حديثها بإحباط "كنت أحضر بعض المستلزمات البسيطة التي طلبها أولادي مثل بطارية للموبايل وبعض الحاجات غير المكلفة، وكنت أتطلع إلى أن يشعروا بالفرح عند عودتي، لكن فجأة توقفت كل إجراءات العودة".