ملخص
بينما القاعدة العريضة من المصريين ما زالت ممسكة بتلابيب عظمة الافتتاح، وفرحة الحركة السياحية الكبيرة، وفخر الحضارة التي ما زالت تحير وتثير القاصي والداني، إذ بموجة جديدة من دورات تدريبية للوقاية من فتنة الثقافات الهجينة والحضارات المغايرة وخطورة النيل من بنيان الأمة عبر التظاهر بعظمة حضارة غير الإسلام وحروب غير الغزوات الإسلامية وأفكار تختلف عن الأفكار الإسلامية، وغيرها كثير.
مثلما كانت أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011 كاشفة للمصريين أنفسهم عما جرى فيهم وبينهم من فروق فكرية وشقوق أيديولوجية عدها بعضهم صحوة والتزاماً، فيما رآها بعضهم الآخر ردة وانقساماً، كان افتتاح المتحف المصري الكبير إعادة طرح الانكشاف، وتسليط الضوء على ما جرى في المجتمع في غفلة من الزمن والناس.
وميدان التحرير الذي قدم نفسه عام 2011 على أنه البراح الحاضن للمصريين بكل أطيافهم وبغض النظر عن انتماءاتهم وطبقاتهم، تحول عبر أحداث متسارعة إلى ميدان يهمين عليه التيار الأعلى صوتاً والأقوى عضلات والأكثر قدرة على ترهيب الآخرين عبر اتهامات "العلمانية" و"الكفر والعياذ بالله"، أو وصمات رفض "الإخوان" "الحاملين الخير لمصر" بالنفاق والرياء وكراهية الدين ومعاداة المؤمنين.
أما المتحف المصري الكبير وافتتاحه "الأسطوري" إن لم يكن من ناحية التفاصيل والحضور والاستعدادات، فبسبب موجة مصرية شعبية عارمة من الهوى المصري القديم، فتمثل في تحويل صور الأفراد إلى مصريين ومصريات قدماء، ناهيك عن فرحة وبهجة وفخر وطني بالأصول والجذور لم تشهدها مصر منذ عقود، إن لم يكُن منذ قرون. وهذه الموجة الفرحة العارمة اندهشت دهشة عارمة أيضاً حين فوجئت بتوابع من الغضب والبؤس والشقاء يحاول بعضهم فرضها في الأجواء قائمة على تحريم زيارة المتحف وتكفير الحضارة المصرية وتخويف المصريين من غضب السماء إن هم انجرفوا حباً أو فخراً أو إجلالاً لهذه الحضارة المارقة العاصية الآثمة.
وهذا الكشف الثاني لما جرى في المجتمع المصري، وضرب قطاعاً من المصريين، لا يقل أهمية أو خطورة أو فداحة عن الكشف الأول عام 2011. أما السنوات الفاصلة ما بين 2011 و2025، فقد اتضح أنها لم تكُن كفيلة بتصحيح المسار الديني، أو تطهير الخطاب الثقافي، أو نشر الوعي المجتمعي والعلمي والتعليمي، أو كل ما سبق. ليس هذا فقط، بل اتضح أنه قد سرى بين فئات من المصريين ما من شأنه أن يضعهم في مواجهة مباشرة مع حضارتهم القديمة، والنظر إلى ذلك على أنه جهاد في سبيل الله ونصرة للإسلام ورفعة للمسلمين.
الجهود المبذولة من قبل "خريجي" الأفكار المتطرفة، ومريدي صفحات الشيخ فلان الطبيب المتحول داعية أو المهندس هاوي الفقه والشريعة أو ربة البيت رافعة راية تطهير أدمغة نساء المسلمين عبر دروس دينية تعلمتها على يد أستاذتها وربة البيت الأخرى المتحولة داعية نسائية طفحت تحذيرات، وفاضت تهديدات، واستحوذت على أدمغة وقلوب ومصائر نسبة من المصريين، تعبر عن نفسها بصورة واضحة وصريحة هذه الآونة.
وبعد خفوت فورة تكفير الحضارة المصرية القديمة، وتحذير المصريين المؤمنين من زيارة المتحف إلا للضرورة أو العظة أو للاستغفار التي صاحبت أجواء الافتتاح، بدأت مرحلة "البناء على التكفير".
"الوقاية" من الحضارة المصرية
وبينما القاعدة العريضة من المصريين ما زالت ممسكة بتلابيب عظمة الافتتاح، وفرحة الحركة السياحية الكبيرة، وفخر الحضارة التي ما زالت تحير وتثير القاصي والداني، إذ بموجة جديدة من دورات تدريبية للوقاية من فتنة الثقافات الهجينة والحضارات المغايرة وخطورة النيل من بنيان الأمة عبر التظاهر بعظمة حضارة غير الإسلام وحروب غير الغزوات الإسلامية وأفكار تختلف عن الأفكار الإسلامية، وغيرها كثير.
والدورات والدروس والتنويهات تدور رحاها على أثير منصات الـ"سوشيال ميديا"، ولا سيما "فيسبوك" و"تيليغرام" اللذين يعدان مرتعاً بلا قيود وساحة منزوعة الرصد والتتبع لكل من يقرر أن ينظم دورة "أونلاين" أو يعلن ندوة افتراضية أو يدعو إلى خطبة عصماء عن أي شيء وكل شيء، وهي الساحة التي تحفل بكثير من الفعاليات "الدينية" التي يسميها أصحابها من "المشايخ" غير التابعين للمؤسسات الدينية الرسمية، والدعاة الذين صنعوا أنفسهم ودعوتهم بأنفسهم، ومدربي التنمية البشرية الإسلامية "فعاليات ثقافية".
هذه الفعاليات تحوي "دورات مكافحة الإلحاد" و"كورسات تثبيت الإسلام" و"حصص تقوية الإيمان". وبعضها "صدقة جارية" بهدف "نشر الفائدة لوجه الله"، وربما حصاد الثمار إن لاحت فرصة صعود للحكم هنا أو تسلل للسياسة هناك، وبعضها الآخر بمقابل، وكل المعاملات افتراضية.
والمتابع لهذه الأنشطة يلحظ صعوداً واضحاً للفعاليات المخصصة لمجابهة الحضارة المصرية القديمة ومواجهة خطرها والتنبيه من أخطارها.
الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية ماهر فرغلي رصد ما سماه "تمدد السلفيين عبر الأكاديميات"، وأشار إلى أن مثل هذه الأكاديميات والمعاهد السلفية، ومعظمها افتراضي، يقوم بدور رئيس في نشر الأفكار البالغة التطرف، إضافة إلى أنها آلية مهمة في إطار الدور الموازي وغير الرسمي الذي تقوم به في نشر خطابها وطرحها الفكري، بعيداً من سلطة الدولة وخطابها الديني الرسمي.
ويلفت فرغلي إلى أن هذه الأكاديميات تعتمد إما على الوجود الميداني، أو على الفضاء الرقمي، وتضع مناهجها ومقرراتها الدراسية "الشرعية"، وتوزعها على أعضائها لنشرها عبر الدروس التي يستمر بعضها لأعوام، ومن بينها ما يؤهل للحصول على درجات علمية تصل إلى الماجستير والدكتوراه "أونلاين" من خلال جامعات إسلامية في دول أخرى، ليتخرج من يحملون فكراً وعقيدة سلفية بامتياز لا علاقة لها بالأزهر أو غيره من المؤسسات الدينية الرسمية للدولة، ليبدأوا بدورهم في نشر "علمهم النافع" وهلم جرا.
هذه الأعداد غير المعروفة، أو المرصودة، أطلت على القاعدة العريضة من المصريين مع "هبة" افتتاح المتحف المصري الكبير عبر تدوينات التكفير وفيديوهات التحذير وتغريدات الإعلان عن دورات ودروس لإنقاذ الأمة مما يحاك لها من فتن ومؤامرات لتبتعد من الدين وتتجه نحو "المتحف".
وفي بهو المتحف، أطلت ثلاث طفلات مصريات محجبات لا تتعدى أعمارهن 11 أو 12 سنة، يرتدين جلابيب بيضاء مع أكسسوارات مصرية قديمة، وهن ينشدن أناشيد وأهازيج إسلامية عند أقدام تمثال رمسيس المهيب. والتعليقات على هذا المشهد الغريب تراوحت بين تهليل وتقدير للطفلات اللاتي وقفن ينشدن أهازيج إسلامية تصلي على النبي (ص) وتتغزل في آيات القرآن الكريم، وتلفت النظر إلى السنة النبوية، معتبرة ذلك عملاً دينياً عظيماً، ولعلها تكون ساعة استجابة، وينضم السياح إلى دين الله أفواجاً، وبين آخرين تعجبوا من اختيار المكان لتقديم فقرة من الأهازيج في متحف مخصص للحضارة المصرية القديمة، وبينهم من تساءل عن أهل الطفلات، والفكرة من تكبد عناء المشوار ليجري تثبيت الصغيرات في البهو وهن ينشدن أناشيد دينية في غير محلها.
وعلى رغم التشكيك في أن الفيديو الذي صال وجال الأثير ملايين المرات هو من صنع الذكاء الاصطناعي، فإن السؤال بقي طارحاً نفسه ما دخل المحتوى الإسلامي، سواء كان حقيقياً أو مصنوعاً، في سياق تاريخي سياحي ثقافي مخصص لفترة زمنية لا تتعلق بالإسلام من قريب أو بعيد؟ الإجابة تبقى قيد تحليلات وتكهنات يتصل جميعها بالدعوة، وكالعادة، تطايرت اتهامات "إسلاميين" للمعترضين على هذا المزج، بل للمتسائلين عن سبب هذا الإقحام بأنهم حتماً أعداء للدين.
أنشطة دعوية مقاومة
وتفاقمت ظاهرة الدعوة المتصلة بالمتحف، إذ ظهر فيديو آخر يؤكد بعضهم أنه حقيقي، ويرجح بعضهم الآخر أنه مصنوع بالذكاء الاصطناعي لشابين مصريين واقفين عند الدرج العظيم في المتحف، وأحدهما يتلو القرآن الكريم بصوت مرتفع جداً. وتكرر الشد والجذب بين فريق يثمن الجهود الدعوية وآخر يسخر من الإصرار على خلطة "سمك لبن تمر هندي" باسم الدين.
وبينما الشد مستمر والجذب مستعر، إذ بأصوات مصرية شعبية تدعو إلى تدريس الهيروغليفية في المدارس المصرية، ضمن محاولات العودة الهوية المصرية التي يصر بعضهم على نبذها لمصلحة هويات أخرى، وهي الدعوات التي تقابل باستهجان واستنكار شديدين من قبل أبناء الفكر المتشدد، والجميع يرد عبارة واحدة بترتيب مختلف للكلمات، الهوية الوحيدة للمصريين إسلامية" أو "الإسلام هو الهوية الوحيدة للمصريين" أو "لا هوية للمصريين إلا الإسلام"، وتأتي العبارة مذيلة دائماً بمرجعية "مشايخ" السلفية الذين تتلمذ هؤلاء على أياديهم.
وضمن "المرجعيات" المتكرر ذكرها "الشيخ المهندس" مصطفى عدوي الذي اعتقل، ثم أخلي سبيله بكفالة قبل أيام، في أعقاب انتشار مدوٍّ لفيديو له يصف آثار المتحف المصري الكبير بـ"الأصنام"، ويحذر من التباهي أو التفاخر بالمصريين القدماء أو بحضارتهم، مضيفاً "انتبهوا للفتن التي تمر بنا، فإني أخشى على قلب مسلم أن يتلوث بمحبة فرعون وآله".
وقال "جثث جرى تحنيطها قبل عشرات آلاف الأعوام، وكأنها ماتت بالأمس أو منذ ساعات، فسبحان من أعطاهم هذا العلم، ولا نفتخر بهم كثيراً، لكن ربنا قال ’قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ‘". واستمر العدوي في الدق على رأس الحضارة و"الفرعون اللئيم"، واصفاً إياه بـ"الطاغي الباغي الملعون" متضرعاً إلى السماء "نشهدك يا رب على براءتنا منه ومن أتباعه ومن جنده، ومن معتقده الخبيث الملوث".
الطريف، وربما المؤسف، أن فيديوهات "الشيخ" "المهندس" اختفت من على منصات الـ"سوشيال ميديا" بعدها، مما دعا التلاميذ والمريدين والتابعين والمتعاطفين إلى سرعة إيجاد البدائل والعثور على حلول، حتى لا يتوقف "علمه" عن السريان.
على أية حال، هذا النوع من التيار مستمر في السريان، وإن لم يكن على صفحات هذا "الشيخ" فعبر منصات ذاك، والأثير والشارع ممتلئان بهم منذ منتصف السبعينيات.
أستاذ الفلسفة في جامعة الوادي الجديد أحمد عبدالعال عمر كتب في مقالة عنوانها "الصحوة الثقافية في مصر" (2024) إن أحداث ومتغيرات العقود الأخيرة في مصر والمنطقة العربية أثبتت أن "أكبر الجرائم التي ارتكبت في حق الثقافة والهوية والدولة المصرية وقوتها الناعمة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي هي السماح باختراق جماعات الإسلام السياسي والتيارات الدينية المتشددة للمجتمع المصري، وهو الاختراق المنظم الموجه الذي بدأت بوادره بعد هزيمة يونيو 1967، ثم زادت وتيرة هذا الاختراق بعد عام 1970 حين تولى الرئيس السادات الحكم، نتيجة سوء تقدير من بعض رجال حكمه الذين دعموا وشجعوا ظهور تلك الجماعات بهدف مواجهة التيارات السياسية الناصرية واليسارية المعارضة له، على رغم تحذير أجهزة الأمن السياسي من أن تلك الجماعات لا يمكن السيطرة عليها، وستكون لسياسة دعمها وتقوية وجودها أخطار كبيرة على المجتمع المصري وعلى نظام الحكم نفسه".
وأشار عمر إلى أن بعض قوى الداخل والخارج "استثمرت" في أزمة المجتمع المصري بعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967، وبعد التحولات السياسية والاقتصادية في منتصف السبعينيات، و"قامت بالتدليس على قطاع عريض من المصريين، بخاصة الشباب منهم، واللعب على عواطفهم الدينية، ودفعهم إلى تبني أفكار الحل والمشروع الإسلامي المتوهم في مواجهة المشروع الوطني المأزوم".
ويرى عمر أن المشروع الحداثي الثقافي المصري الذي بدأ عام 1952 معتمداً على مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام الرسمية، توقف لأسباب سياسية واقتصادية وإقليمية خلال منتصف السبعينيات. وتوقفت أو تعثرت معه جهود ومؤسسات بناء الإنسان المصري وقوة مصر الناعمة من خلال التعليم والثقافة والفنون والاعتماد على العلم والتكنولوجيا، مما فتح الباب أمام ثورة مضادة على المشروع الثقافي الحضاري المصري، أضعفت الجهاز المناعي الوطني والثقافي للمصريين، ويسّرت الطريق لاختراق العقل والمجتمع المصري بواسطة جياع العقول من أصحاب المشروع الإسلامي وتيارات الإسلام السياسي".
وأضاف أن أكثر من عقد قد مضى على أحداث يونيو (حزيران) عام 2013 التي أسقطت حكم جماعة "الإخوان المسلمين" والتي كشفت عن أخطار مشروع الإسلام السياسي على الثقافة والهوية والدولة المصرية، وأنه آن الأوان لصحوة ثقافية وحضارية مصرية تعيد بناء الوعي الوطني والتاريخي ومشاعر الانتماء والولاء لدى المصريين، وتشعرهم بعظمة التاريخ الذي يحملونه على ظهورهم".
التطرف سراً وجهراً
وظهور معتنقي التيارات الدينية المتشددة والمتطرفة في المجتمع المصري حدث على دفعات أو مراحل، فالتيارات ترتع في الشارع منذ عقود، لكنها ظلت على وضعية الخائف الحذر المتوجس حتى أحداث عام 2011 التي منحتها القدرة على الخروج للعلن من دون خوف.
وفي أعقاب أحداث عام 2013، عادت هذه التيارات لمخابئها، ولا سيما أن الأخطار هذه المرة لم تكُن أمنية من قبل الدولة فقط، لكنها كانت شعبية جارفة رافضة لخلطة الدين بالسياسة والموجهة في الأصل لجماعة "الإخوان المسلمين"، وإن نال كل الإسلاميين منها جانباً. وبمرور الأشهر ثم الأعوام، يبدو أن كثيراً من هذه التيارات، وبعد تجارب جس نبض، واختبار الأجواء، والتقدم خطوة والتأخر خطوتين، أيقنت أن الفرصة لاحت لها من جديد، وأن هناك أمارات بأنها مقبلة على فترة تتمتع فيها بإطلاق يدها وفكرها وأكاديمياتها وأنشطتها "الدعوية" من دون ملاحقة أو تضييق، باستثناءات نادرة وبسيطة، مثل تلك التي حدثت مع "الشيخ المهندس" مصطفى العدوي.
وهذه الحرية التي انعكست آثارها في الشارع المصري متمثلة في زيادة غير مسبوقة في انتشار النقاب، وعودة الزوايا لأماكن عامة عدة على رغم زيادة عدد المساجد، إضافة إلى نمو كبير في النشاط السلفي الافتراضي، تؤدي بين الحين والآخر إلى انكشاف وجه السلفية الكاره للحضارة والهوية المصرية القديمة.
الطبيب والكاتب خالد منتصر كتب عن العداء المستحكم بين السلفيين والحضارة المصرية (نوفمبر- تشرين الثاني الجاري) بما وصفه بـ"مدفعيتهم التكفيرية الثقيلة" التي يقول إنها انطلقت من منصات وقنوات تلفزيونية ومواقع صحافية وصفحات "فيسبوكية" عدة، وهيمن على المحتوى الذي أمعنوا في بثه الخوف والرعب من فخر المصريين بحضارتهم.
وأضاف أن "السؤال يظل، لماذا تلك الكراهية؟ ولماذا هذا الغل؟ التيار السلفي والمزاج الأصولي والفكر التكفيري وأصحاب الولاء والبراء، يكرهون كل عناصر الحضارة المصرية القديمة، فالعقيدة المصرية القديمة التي تبحث عن الانسجام مع الكون، تتعارض مع فكرهم الإقصائي الذي فيه الآخر منبوذ. أما مكانة المرأة الرفيعة الراقية في الحضارة المصرية القديمة فتجعلهم في وضع الجنون، فهم يعانون عصاباً جماعياً وفوبيا مرعبة تجاه المرأة الملعونة. أما العلم الذي هو شيفرة نجاح الحضارة المصرية القديمة فهو مسمار نعشهم، فلا علم إلا علوم الدين".
حال الشد والجذب الحالية بين "متدينين" متشددين يحذرون من التمسك بالهوية المصرية، إذ لا هوية إلا الإسلامية، وينبهون إلى عدم الغوص في أعماق الثقافة المصرية القديمة لأن لا ثقافة إلا الإسلامية، وبين مصريين ينتظرون بفارغ الصبر اللحظة التي تمكّنهم من العودة لحضارتهم الأصيلة وثقافتهم المتفردة لا تقتصر حلبتها على التماثيل والمعابد. الأمر أكبر وأبعد من ذلك.
وغالبية المصريين ممن وقعوا تحت تأثير الفكر المتطرف الذي تراوح تسلله ما بين السر والعلانية، بحسب الظروف السياسية والأجواء الأمنية، لا يبحثون كثيراً في ما وراء الفكر المتشدد أو في الأهداف الحقيقية لتحريم زيارة متحف أو تكفير النظر إلى تمثال أو تسفيه قيمة الأوطان وجعلها تبدو سخيفة أمام عظمة الدين وكأنهما متناقضان. وهذه الغالبية تكتفي بنقل المتداول، وتوريث ما قاله "الشيخ المهندس" نقلاً عن "الداعية تلميذ المجاهد فلان" أو" العالم العلامة خريج كلية الشريعة في بلاد بعيدة". وتبقى جهود البحث ومحاولات الفهم شحيحة، ونتائجها لم تؤخذ بعد مأخذ الجد الرسمي أو الاهتمام الفعلي، على رغم أن خطورتها لا تخفى على أحد.
يشير الكاتب الصحافي هاني لبيب في مقالة عنوانها "كوابيس الإسلام السياسي وفقه الخراب" (نوفمبر الجاري) إلى جذور المشروع الأيديولوجي الذي يحمله الإسلام السياسي نقلاً عن السلفية المتشددة، والمعروفة بكراهيتها الشديدة لكل ما يجسد الجمال المادي أو الرمزي، وأن هذا أكبر وأخطر بكثير من خلطها بين الأثر والوثن، مضيفاً أن المنتمين لهذا التيار يكرهون التماثيل لأنهم يخافون من وجه التاريخ، وهي التماثيل التي لم تكُن يوماً في الفقه الجمالي المصري صنماً يعبد، بل وثيقة تقرأ. ويخلص لبيب إلى أن من يطالب بتحطيم هذه التماثيل إنما يسعى إلى تحطيم الذاكرة الجمعية للمصريين، وأن دعواتهم المتكررة خلال الأعوام الأخيرة إلى هدم التماثيل في الميادين، ليست إيماناً وتقوى منهم، بل "فعل دمار ضد الهوية الوطنية المصرية لأن حضارة مصر القديمة تمثل ما يكرهه الفكر السلفي ويرفضه. فالعقل والإبداع والابتكار والأنوثة الرمزية في التماثيل والحروف والألوان جميعها نقيض ثقافة النص".
وتبقى ثقافة النص مسيطرة مهيمنة على عقول من وقعوا في براثن هذا النوع من الفكر في مصر، وهي العقول التي ظهرت على سطح الأثير على هامش افتتاح المتحف المصري الكبير.
قبل أعوام قليلة، انتشر مقطع مصور لمذيعة تسأل فتاتين في شارع في القاهرة أسئلة مختلفة، كان من بينها ما جنسيتكما؟ وظهرت علامات التعجب على الفتاتين، وقالتا في نفس واحد مسلمتان الحمد لله. فأعادت المذيعة السؤال "أسأل عن جنسيتكما". فضحكت الفتاتان ساخرتين من المذيعة التي تكرر السؤال، وجاءت الإجابة، ماذا سنكون يعني؟ مسلمتان الحمد لله!
واعتقاد بعضهم، وبينهم أجيال شابة، بأن الهوية الوحيدة المقبولة والمعروفة والمعترف بها هي الإسلامية ليس صدفة، بل جرى العمل عليه على مدى عقود من قبل تيارات دينية دقت على وتر أن الهوية واحدة لا ثاني لها، وهي الهوية الدينية، وكل ما عداها إما تافه أو محرم أو مكروه أو لا يستحق الفخر أو الاعتزاز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأحد التفسيرات لما جرى كتبه السياسي والطبيب المصري محمد أبو الغار في مقالة عنوانها "الهوية المصرية، إلى أين؟" (أبريل – نيسان الماضي). ويقول إنه على رغم إعجاب المثقفين المصريين بالتاريخ المصري القديم وعظمته، فإن أموراً عدة حالت دون إتاحة المجال لهذا التأثير لينمو ويتوسع ويؤثر في الهوية المصرية، من بينها ما أشيع من أن التماثيل حرام في بعض التفسيرات الإسلامية، حتى إن بين المصريين من أطلق كلمة "مساخيط" على أعمال القدماء.
ويشير أبو الغار إلى أنه بعد ثورة عام 1919، وتأليف كثير من الكتب التي تتطرق إلى الحضارة المصرية القديمة، وزيارة التلاميذ للمعابد المصرية أثناء رحلات مدرسية، بدأت الحضارة العظيمة تأخذ على استحياء جزءاً من الهوية المصرية، لكن مع صعود التيار الإسلامي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الـ20، احتل الدين الجزء الأكبر من هوية المصريين. ولفت إلى أن بعضهم أصبح يكتب في خانة "الجنسية" مسلم أو مسيحي، لا مصري. ويضيف أن "طغيان الدين على الهوية مشكلة كبرى تضعف الهوية وتضعف الجانب الوطني والانتماء الذي هو جزء أساس من الهوية الوطنية للإنسان. وهذا الطغيان الديني على الهوية يفقد المواطنة والوطنية، ويصبح هناك نوع من الأممية الإسلامية كما كانت الأممية الشيوعية تدعو إلى أن يفقد الإنسان موطنه ليصبح جزءاً من كيان عالمي.
السياسة ليست بعيدة
ومشاعر العداء التي تناصبها التيارات الإسلامية للهوية الوطنية ليست منزهة عن السياسة، وعلى رغم سقوط جماعة "الإخوان المسلمين" المدوي عام 2013 في مصر، وعلى رغم موت الجماعة إكلينيكياً كتيار يهدف إلى حكم مصر، وصعود تيارات أخرى في الشارع بصورة غير معلنة، فإن أذرعاً إعلامية "إخوانية" لا تزال حتى اليوم تدور في دائرة قوامها أن القوات المسلحة المصرية حين ساندت المصريين في رغبتهم في التخلص من حكم الجماعة، فعلت ذلك خوفاً من الهوية الإسلامية التي ترسخت في الشارع المصري، ومن دعائم "الإمبراطورية الإسلامية" التي كانت بصدد التوسع على يد الجماعة في مصر، "مفضلين عليها الهوية الفرعونية"، كما جاء في مقالة كتبها أحد أذرع الجماعة قبل فترة. وعدّ الرسوم والشعارات الفرعونية من زهرة اللوتس وعين حورس وغيرهما قرائن وبراهين على نبذ الإسلام وتبني الوثنية!
واستشهدت المقالة بدراسة تقول إن جهة بحثية أجرتها حول "خسارة الأمة نتيجة غياب الهوية"، مشيرة إلى أنه "إذا غابت الأمة عن هويتها، أو غيّبت عنها، أو تنكرت لها، وصارعتها هويات مصطنعة، فحينها تفقد التماسك الاجتماعي وتفقد وجودها الممثل لمنهجها ويُحال بينها والقيام بوظيفتها، الوظيفة التي أخرجها الله تعالى من أجلها، وأنه عند غياب الهوية الإسلامية في بلد مسلم يحدث اغتراب (فراغ سياسي وفقدان انتماء) لضعف الاجتماع على غيرها من الهويات المستعارة لهذه الأمة وعدم قدرة هذه الهويات على ملء الفراغ الذي تركته الهوية الإسلامية".
ومثل هذه الأقاويل تسري خلال دروس وندوات وأكاديميات يدشنها منتمون لهذه التيارات بصورة مكثفة على منصات الـ"سوشيال ميديا"، وفي الأيام العادية يأتي المحتوى محملاً بالتحريض الثقافي على كل ما ليست له علاقة بالدين على نحو مباشر. وخلال مواسم مثل المهرجانات السينمائية، أو الفعاليات الفنية، أو المشاريع الأثرية الكبرى مثل "موكب المومياوات" (2021) وفي افتتاح المتحف الكبير قبل أيام، تشتد حمى التحريض وتتكثف جهود المقاومة وخلق حال من التعبئة الشعبية في دوائر المريدين وكأن الدين يتعرض لخطر داهم والمؤمنين معرضون للانقراض.
المحامي والقيادي السابق في جماعة "الإخوان المسلمين" ثروت الخرباوي يلقي ضوءاً ثاقباً على لبس الهوية لدى كثير من التيارات الإسلامية، ويقول في مقالة عنوانها "بين المتحف والكهف" (نوفمبر الجاري) إنه "بينما كانت مصر على موعد جديد مع التاريخ (يوم افتتاح المتحف)، ظل صوت آخر يصرخ في الظلام، يرفض هذا الاحتفاء بالحجر، ويقرأ في التماثيل المصرية القديمة معصية قديمة تطارد البشر، ويرى حضارتنا القديمة حضارة شرك وأوثان، ذلك هو الخطاب العقائدي لجماعة ’الإخوان‘ الذى رأى في الآثار الفرعونية والتماثيل رموزاً للشرك لا شواهد على التاريخ، وفي المتحف بيتاً للوثنية لا جامعة للمعرفة". وأضاف أنه حين نشأت جماعة "الإخوان المسلمين" خلال العشرينيات، كانت قضية الهوية محوراً وطنياً شغل مصر كلها، وكان المصريون يتغنون بإحياء مجد المصريين القدماء في أغنيات وأشعار تمجد عظمة التاريخ والحضارة، "إذ بالشاب حسن البنا يرفع راية إحياء الأمة الإسلامية، وكأن الإسلام دخل في نزاع تاريخي مع الدولة المصرية، أو كأن إحياء الحضارة المصرية القديمة سيقضي على الدين ويبعده من مسار الحياة".
وأشار الخرباوي إلى ما كتبه البنا في "رسالة المؤتمر الخامس"، "نريد أن نبني الإنسان كما أراد الله، لا كما صنعه الفراعنة والطغاة". وقال إنه بهذه الكلمات، وضعت الجماعة حجر الأساس لخطاب يرى في الحضارة القديمة موضعاً للازدراء ودرساً للعبرة لا للفخر، وفي التماثيل والآثار التي لا مثيل لها في العالم رمزاً للشرك لا للجمال والفن والعبقرية. ولفت إلى موقف سيد قطب من الحضارة المصرية القديمة الذي رأى كل ثقافات وحضارات العالم، بما فيها المصرية، شركية وجاهلية، وعلى المسلم الحق أن يعمل على هدم هذه الجاهلية لرموزها وأفكارها. وعدّ التماثيل المصرية القديمة "ليست حجارة صامتة، بل رموزاً لجبروت ينازع الله في ألوهيته".
والدفع بطفلات يغنين أهازيج دينية في بهو المتحف، وتبرع شاب بتلاوة القرآن بصوت مرتفع على بابه، أو الصلاة جماعة في حديقة أمام متحف على رغم وجود مسجد على بعد بضعة أمتار، أو موضة إصرار المرشد السياحي على أن يتحدث مع الفوج الأجنبي الذي يزور الأهرامات عن روعة الإسلام وعظمة المسلمين، وسائل شعبوية باتت معروفة "يجاهد" بها بعضهم لنصرة الدين، وللتأكيد أن الهوية الوحيدة هي الإسلامية، بحسب ما لقنه "الشيخ المهندس" أو "الداعية الطبيب" أو "ربة البيت التي حصلت على إجازة في أحكام الفقه من جامعة عبر البحار".
وفي المقابل، يعاود بقية المصريين محاولة العودة للهوية المصرية بمكوناتها كافة من دون استثناء، على وقع افتتاح المتحف المصري الكبير.
يشار إلى أن وزارة السياحة تجري تحقيقاً حول فيديو تلاوة القرآن بصوت جهوري في منطقة الدرج العظيم، مما أدى إلى ظهور فريقين، فريق "لا حول ولا قوة إلا بالله، حتى القرآن الكريم يضايقهم في هذه المنطقة المليئة بالتماثيل والموبقات" وفريق "ما هذا العته؟ ولماذا يختار شخص عاقل أن يتلو القرآن على باب المتحف، لا على باب الجامع؟!".