ملخص
أشارت برقية مسربة من السفارة الأميركية ضمن ما يعرف بـ"برقيات ويكيليكس" عام 2008 إلى أن أغ غالي يتمتع بسمعة النفعي الانتهازي الذي "يلعب على الحبلين لتعظيم مكاسبه الشخصية". وكان أغ غالي سافر شاباً إلى ليبيا وانضم إلى فيلق القذافي الإسلامي المكون من منفيين من منطقة الساحل، استخدمهم القذافي كوقود للحروب ضد تشاد. وعاد لمالي عام 1990 ليشارك كقائد في انتفاضة الطوارق، ثم عمل كوسيط بين الحكومة والمتمردين.
منذ نحو شهرين، يحاصر مسلحون مرتبطون بتنظيم "القاعدة" الإرهابي العاصمة المالية باماكو، مما أصابها بالشلل التام تقريباً، ويزيد القلق والترقب الدولي إزاء سقوط الدولة الواقعة في غرب أفريقيا تحت سيطرة العناصر المسلحة الجهادية التي تقودهم "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" بزعامة العجوز السبعيني إياد أغا غالي.
أغا غالي هو شخصية مثيرة للاهتمام بالنظر إلى تاريخه ككاتب أغاني ومحب للموسيقى تحول إلى قيادة أخطر تنظيم جهادي في أفريقيا. فالمسلح الذي ارتكب فظائع في دول أفريقية عدة، كان كاتب أغاني لفرقة "بلوز-روك" الاستعراضية من قلب الصحراء الكبرى، وكان يعزف مع أعضاء الفرقة ويقصد النوادي الليلية في غرب أفريقيا. وفي حين واصلت فرقته الموسيقية "تيناروين" مسيرتها الفنية وجالت العالم بموسيقاها، فإنه حظر الموسيقي وقاد جيشاً من المتطرفين المسؤولين عن مقتل عشرات آلاف الأشخاص، حتى إن مسلحيه نصبوا كميناً لأعضاء فرقة "تيناروين" وخطفوا عازف الغيتار، بحسب صحيفة "وول ستريت جورنال".
فيلق القذافي
ولد إياد أغ غالي في منطقة كيدال، شمال مالي، وينتمي إلى قبيلة إفوغاس الطارقية، وقاد في البداية تمرداً للطوارق خلال التسعينيات، ثم غاب موقتاً ليعود لصدارة المشهد عام 2012. ومع ظهوره مجدداً، أسس "جماعة أنصار الدين"، وهي تنظيم جهادي تعاون في البداية مع "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" من أجل السيطرة على أجزاء واسعة من شمال مالي. لكن سرعان ما أطاح أغ غالي بالحركة الاستقلالية وثبت نفسه بين الفاعلين الرئيسين في الصراع الدائر شمال البلاد. وهو أمر ليس مفاجئاً بالنظر إلى تاريخه، فبينما حاول أن يعيد تقديم نفسه كزعيم إسلامي متشدد، لم تكن هذه حاله دائماً، إذ عرف لأعوام بولعه بـالويسكي والموسيقى.
وأشارت برقية مسربة من السفارة الأميركية ضمن ما يعرف بـ"برقيات ويكيليكس" عام 2008 إلى أن أغ غالي يتمتع بسمعة النفعي الانتهازي الذي "يلعب على الحبلين لتعظيم مكاسبه الشخصية". وكان أغ غالي سافر شاباً إلى ليبيا وانضم إلى فيلق القذافي الإسلامي المكون من منفيين من منطقة الساحل، استخدمهم القذافي كوقود للحروب ضد تشاد. وعاد لمالي عام 1990 ليشارك كقائد في انتفاضة الطوارق، ثم عمل كوسيط بين الحكومة والمتمردين.
حرب ليبيا
وبحسب تقرير نشرته صحيفة "ذا غارديان" البريطانية عام 2012، فإن الحرب في ليبيا كانت لها تداعيات واسعة في مالي، إذ أدت إلى تدفق الأسلحة إليها وحدوث انقلاب عسكري في العاصمة باماكو واندلاع تمرد في الشمال بقيادة "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" (MNLA)، الجماعة التي سعى أغ غالي إلى تولي زعامتها، لكنه رُفض. ووفقاً للمحللين، فإن رد الأرستقراطي القبلي الهادئ كان تأسيس "جماعة أنصار الدين" كمجموعة منافسة، متحالفة مصلحياً مع "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" وموجاو. وقد بلغ الانقسام ذروته في مارس (آذار) من العام نفسه، عندما اتهمه المتمردون المنافسون بتقويض قضيتهم بخطابه الإسلامي، واصفين إياه بـ"المجرم" الذي يريد إقامة "دولة ثيوقراطية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وضمن شهادة أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي عام 2012، قال رودولف أتالا من مجلس الأطلسي الذي أمضى وقتاً طويلاً في شمال مالي، إن انقسام أغ غالي عن زعماء الطوارق الآخرين لتأسيس "أنصار الدين" جعل مالي "تتحول إلى مغناطيس للمقاتلين الأجانب الذين يتدفقون لتدريب المجندين على استخدام أسلحة متطورة مأخوذة من ترسانة القذافي".
"نصرة الإسلام والمسلمين"
ظلت مدن عدة تحت هيمنة الجهاديين حتى تدخل فرنسا عسكرياً عام 2013. ووفق حديث سابق للمؤرخ جان بيار فيليو إلى وكالة الصحافة الفرنسية، فإن أغ غالي أصبح على رأس "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، باعتباره "الممثل الوحيد لقائد تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في الساحل". فعام 2017، اتحدت جماعات جهادية عدة تحت راية "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" التي شملت "جماعة أنصار الدين" التي أسسها أغ غالي عام 2012، وكتيبة ماسينا التي أسسها محمد كوفا عام 2015، وتنظيم "القاعدة في المغرب الإسلامي" بقيادة عبدالملك دروكدال الذي قتل عام 2020 على أيدي الجيش الفرنسي.
وتذكر مجلة "لإكسبريس" الفرنسية أن أغ غالي بدأ اهتمامه بالتيار السلفي في أواخر التسعينيات، عندما التقى دعاة باكستانيين في كيدال، في الوقت نفسه الذي بدأ فيه العمل كوسيط لعمليات اختطاف إسلاميين مقابل فدية، وهي تجارة مربحة كان يحصل منها على نصيب. وقد تعززت علاقاته مع الإسلاميين الذين أصبحوا لاحقاً نواة "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" لأن أحد "أبناء عمومته" كان قائداً في إحدى تلك الجماعات.
رحلة أغ غالي من موسيقي إلى أمير حرب جهادي كانت مساراً غير متوقع، مثل رحلة أصدقائه من جلسات العزف في الصحراء إلى الشهرة العالمية. ووفق صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، فإنه عندما كان شاباً، كان إياد أغ غالي يعدّ نفسه طوارقياً أولاً، ومسلماً ثانياً.
وينتمي الطوارق إلى مجموعة أمازيغية اشتهر أفرادها في الغرب بملابسهم النيلية ونمط حياتهم البدوي، يجوبون صحراء الساحل الكبرى مع جمالهم وماعزهم وأغنامهم، عبر مناطق تشكل اليوم مالي وبوركينا فاسو والنيجر والجزائر وليبيا. وقاوم الطوارق ما يقارب 70 عاماً من الاستعمار الفرنسي. وبعد استقلال مالي عام 1960، شنوا تمرداً فاشلاً ضد الحكومة الجديدة.
من الويسكي إلى التطرف الباكستاني
كان أغ غالي في التاسعة من عمره عندما قتل والده الذي كان من الشخصيات البارزة بين عائلات الطوارق خلال ذلك التمرد. ومع مرور الأعوام، انضم أغ غالي إلى فيلق من المتطوعين الطوارق تحت رعاية الزعيم الليبي معمر القذافي، في سعيهم إلى تحقيق الاستقلال عن مالي. واستخدم القذافي الطوارق لخدمة أطماعه الجيوسياسية. وفي ثمانينيات القرن الـ20، طلب القذافي من أغ غالي الإشراف على المجندين الطوارق في معسكر قرب طرابلس. ومن بين المتطوعين كان هناك موسيقيون، من بينهم إبراهيم أغ الحبيب الذي قتل والده، مثل والد أغ غالي، في تمرد مالي خلال ستينيات القرن الماضي.
ورأى أغ غالي في الموسيقى وسيلة لتعبئة الدعم من أجل استقلال الطوارق. ونقلت الصحيفة عن فيليب بريكس، المدير الثاني للفرقة، قوله إن أغ غالي ساعد في توفير الغيتارات الكهربائية والمضخمات للموسيقيين ومستودع للتدريبات ومنصة للعروض. وأضاف أن "أغ غالي كان يفهم قوة موسيقى الغيتار كأداة للتواصل. كانت هذه خطوته العبقرية". وأطلق الموسيقيون على فرقتهم اسم "كيل تيناروين"، أي أبناء الصحراء.
وقال بيير بويي، الباحث المهتم بالطوارق، إنه استضاف أغ غالي في شقته في باريس عام 1989، حيث كان ضيفه يقضي الأمسيات يشرب الويسكي ويخطط لتمرد الطوارق. وفي النهاية، أصبح أغ غالي مستاء من القذافي الذي كان يضع أجندته الخاصة قبل استقلال الطوارق. ويذكر المدير السابق للفرقة ماني أنصار، كلام أغ غالي "لقد وعدنا القذافي لأعوام بالمساعدة، لكنه استمر في إرسالنا لخوض حروب أخرى."
وفي يونيو (حزيران) 1990، غادر أغ غالي ومقاتلوه ليبيا وتسللوا إلى مالي، حيث شنوا هجمات على المواقع العسكرية نهاراً وغنوا حول النار ليلاً. وجرى تداول أشرطة كاسيت مهربة لأغنية "بسم الله" التي ألفها أغ غالي في مالي، وأصبحت الأغنية نشيداً لحركة تحرير الطوارق، غير أنه مع وصول دعاة متطرفين من باكستان إلى كيدال عام 1999، تغيرت حياة أغ غالي، حتى إنه أطلق لحيته وارتدى مثلهم الملابس البيضاء.
وظل أغ غالي متأرجحاً بين التشدد الديني والموسيقى لأعوام قليلة وأسس مهرجاناً لموسيقى الطوارق. وعام 2003، رتبت السفيرة الأميركية آنذاك في مالي فيكي هادليستون اجتماعاً معه كجزء من جهود إدارة بوش لتعقب المتطرفين بعد هجمات الـ11 من سبتمبر (أيلول). وقالت هادليستون التي كانت تشتبه في أن أغ غالي وراء التحرك "كانت لدينا معلومات استخباراتية تفيد بأن ’القاعدة‘ كانت على وشك فتح جبهة جديدة" في المنطقة.
ثم لاحقاً تخلى أغ غالى عن الموسيقى وأبلغ فرقته بالتوقف عنها قائلاً بحسب أنصار الذي تحدث إلى "وول ستريت جورنال"، "أنتم تجلبون الناس للفساد والانحلال". وبسقوط القذافي عام 2011، أسس أغ غالي جماعته المسلحة الإسلامية "أنصار الدين"، وسرعان ما تلا ذلك الانهيار البطيء لغرب أفريقيا.
الاستيلاء على تمبكتو
وفي أبريل (نيسان) عام 2012، استولت "جماعة أنصار الدين" وتنطيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" على مدينة تمبكتو التاريخية، وأصبحت راية الجهاديين السوداء ترفرف على هذه القبلة التاريخية والسياحية التي غنى فيها قبل ثلاثة أشهر من الهجوم بونو نجم موسيقى الروك وزعيم فرقة "يو تو" على كثبان "مهرجان الصحراء" وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي يقام فيها المهرجان. ومنعت النساء من الخروج من دون مرافقة أزواجهن أو إخوتهن. وارتكبت الشرطة الدينية الناشة عنف ضد من يشتبه في هرطقته.
وذكر مدعو المحكمة الجنائية الدولية لاحقاً أن جماعة أغ غالي "فرضت قاعدة تقول إنه عندما ينضم الرجل إلى المقاتلين، فإنه 'يحصل' على امرأة." وأضافوا أن الرجال كانوا يضربون ويغتصبون زوجاتهم الجدد، إضافة إلى نساء أخريات.
ففي 2024، كشفت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي عن مذكرة توقيف بحق أغ غالي، تتهمه بـجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وهو لا يزال هارباً. وقالت المحكمة إن أغ غالي، المعروف أيضاً باسم "أبو الفضل"، مطلوب لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في تمبكتو، وتشمل هذه الجرائم القتل والاغتصاب والاستعباد الجنسي والهجمات على مواقع تعد معالم دينية وتاريخية.
وفي منتصف عام 2017، أصدر القضاة مذكرة ضد أغ غالي، لكن الوثيقة ظلت طي الكتمان طوال السنوات السبع الماضية بسبب "الأخطار المحتملة على الشهود والضحايا"، وفق وكالة الصحافة الفرنسية.
طموح السلطة
صنفت الولايات المتحدة أغ غالي كإرهابي عام 2013. ونشرت فرنسا قوات قتالية في مالي، وبمساندة الجنود الماليين والدعم اللوجستي من الولايات المتحدة ودول أخرى، نجحت في طرد الإسلاميين من تمبكتو. وبالنسبة إلى أغ غالي، كان ذلك انتكاسة، لا خسارة. وعام 2017، ضم أغ غالي جماعات مسلحة عدة مرتبطة بـ"القاعدة" في ائتلاف يسمى "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، أطلق موجة جديدة من التمرد في غرب أفريقيا.
واستولى رجال أغ غالي على مناجم الذهب، وابتزوا القرويين للحصول على ماشيتهم، وأخذوا أموال حماية من مهربي المخدرات والبشر. وكانت الجماعات المسلحة مرتبطة بما يقارب 2300 حادثة عنف في مالي وبوركينا فاسو والنيجر ودول أخرى في غرب أفريقيا خلال العام الماضي، مما أسفر عن مقتل نحو 9 آلاف شخص، وفقاً لـ"مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية"، وهو مركز أبحاث تابع لـ"جامعة الدفاع الوطني الأميركية" في البنتاغون.
وتعقد المشهد في غرب أفريقيا مع حدوث سلسلة من الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، بدأت عام 2020، مما أثر بدوره في الاستراتيجية الغربية لمكافحة الإرهاب في المنطقة.
فخلال الأعوام الثلاثة الماضية، قامت الحكومات العسكرية بطرد القوات الفرنسية لمكافحة الإرهاب. وفي مالي طردت قوة الأمم المتحدة المؤلفة من 15 ألف جندي، واستأجرت الحكومة مرتزقة "مجموعة فاغنر" الروسية لتوفير الأمن، غير أن أغ غالي سعى إلى كسب التأييد الشعبي من خلال معارضته لوجود موسكو، وانضمت قواته إلى هجوم في شمال مالي أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 50 عنصراً من "فاغنر"، في أكبر خسارة منفردة للشركة في أفريقيا.
ويقول مراقبون إن أغ غالي بذل أخيراً بعض الجهود لتلطيف صورة ائتلافه المسلح واتخاذ مظاهر الحكومة، مما يشير إلى طموح محتمل لتأسيس خلافة في غرب أفريقيا. وتذكر "وول ستريت جورنال" أن مقاتليه تصدوا لتنظيم "الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى"، وهو جماعة منافسة نفذت إعدامات لشيوخ القرى وطالبت السكان بالولاء لها، غير أن ذلك تم بمقابل مادي 40 بقرة و130 باونداً من السورغوم سنوياً من سكان القرى. وفي المقابل، يقوم رجال أغ غالي بتسوية النزاعات بين الصيادين والمزارعين والرعاة الرحل والفلاحين الذين يتخاصمون حول المراعي ومصادر المياه.