Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحيل بيورن أندرييسن الفتى الساطع في "موت في البندقية"

 صاحب الفيلم الواحد الذي ما زال يبهر الجمهور منذ 54 عاماً بلغ الـسبعين

الفتى بيورك أندرييسن في فيلم "موت في البندقية" (ملف الفيلم)

ملخص

ممثلون كثر لمعوا في بداياتهم ثم اختفوا تماماً عن المشهد، بعضهم انسحب طوعاً، وبعضهم خذلته الظروف فانتهت رحلته عند التجارب الأولى، ولكن هناك نوع آخر أكثر ندرة، يمثله بيورن أندرييسن الذي غاب أخيراً عن 70 سنة، صاحب الفيلم الواحد، الوجه الذي لا ينسى على رغم أن مجده حُصر في فيلم واحد.

لم يحتج الممثل أندرييسن إلى أكثر من دور ليصير رمزاً للجمال المطلق، المربك والغامض. في "موت في البندقية" للوكينو فيسكونتي (1971)، حمل الصبي ذو الـ15 سنة ملامح تادزيو، ذاك الجمال الذي بدا كأنه ولد من الخيال نفسه، غير أن هذا الجمال الذي رفعه إلى مرتبة الأيقونة، انقلب عليه عبئاً ساحقاً ظل يطارده حتى نهايته، في العزلة والفقر والندم.

بعد موت والديه عاش أندرييسن في كنف جدته التي أحاطته برعاية مشوبة بالطموح. كانت ترى فيه امتداداً لحلم شخصي لم يتحقق، فدفعت به إلى دروس المسرح والموسيقى، فجعلته يستعد لأن يصبح نجماً يلمع حيث أخفقت هي. وكان الفتى مولعاً بالموسيقى الكلاسيكية، لا سيما البيانو الذي عزفه بحس مرهف، ويحلم بأن يصير يوماً محترفاً، قبل أن تقوده جدته، عن غير قصد، إلى تجربة أداء (كاستينغ) غيرت مجرى حياته إلى الأبد.

في تلك الفترة كان فيسكونتي يبحث عن وجه يجسد الجمال المثالي الذي وصفه توماس مان في قصته القصيرة "موت في البندقية"، جمال يتجاوز الجسد إلى ما يشبه الكمال الروحي، وحين وقعت عيناه على الفتى السويدي الأشقر، ذي الملامح المصفاة كأنها منحوتة من ضوء، شعر كأنه عثر على الكلمة الأخيرة التي كان يبحث عنها في قاموس الصورة. في لحظة واحدة أصبح أندرييسن تادزيو الإشراقة الغامضة التي ستقود المؤلف الموسيقي غوستاف فون آخنباخ (درك بوغارد) إلى هلاكه في مدينة غارقة في الجمال والكوليرا، فيما سمفونيات ماهلر تتردد على ضفاف بحيرة فينيسيا، باختصار إنها قصة انبهار عجوز بمراهق، خارج أسوار الفكر التقليدي.

نظرات ساحرة

عند عرضه لم يسلم الفيلم من الجدل الجمالي والأخلاقي والفلسفي. كانت الكيفية التي تطرح فيها الرغبة صادمة لكثر، اتهم فيسكونتي بتجميل "علاقة" غير طبيعية، حتى لو بقيت في إطار التأمل، في حين لم يكن يريد المخرج الكبير سوى فيلم ميتافيزيكي عن الجمال والحب والموت. تحول الفتى بيورن نتيجة هذا كله إلى محور اهتمام عالمي، لم يتفوه في الفيلم إلا بكلمات قليلة، لكن حضوره كان أقوى من أي حوار. حمل شيئاً نادراً وشفيفاً، يتعذر تعريفه أو تفسيره. كتبت الصحف يومها أن فيسكونتي "عثر على الملاك المفقود"، فيما رأت أخرى أنه "تجسيد خطر للفتنة الجمالية" التي يمكن أن تفتك بمن يتأملها طويلاً.

تلك النظرات التي أحاطت بالفتى لم تكن إعجاباً بريئاً، بل مصيدة خفية، لم ينظر إليه سوى كجسد متخيل، رمز لجمال ممنوع وملتبس. وسرعان ما بدأت التأويلات تتراكم حوله، ففي الصحافة الأميركية مثلاً، تساءل بعض الكتاب عما إذا كان الدور سيترك أثراً في ميوله الجنسية، من دون أن يدركوا أن فيسكونتي كان قد فرض حوله سياجاً من الحماية الصارمة: مربية ترافقه وتتابع دروسه، حضور جدته التصوير، وتعليمات قاسية تمنع الفريق الفني من الاقتراب منه خارج ساعات التصوير، كان ذلك حرصاً عليه، لكنه أيضاً عزله في فقاعة، جعلت منه كائناً مراقباً.

مرت الأعوام وكبر أندرييسن وتغيرت ملامحه، لكن الناس لم يروا فيه سوى اللقب الذي التصق به كوشم: "أجمل فتى في العالم". عبثاً حاول التفلت منه، أراد أن يكون شخصاً آخر. وقد عبر مراراً عن شعوره بالاستغلال، خصوصاً بعد حادثة روما الشهيرة حين اصطحبه فيسكونتي، بعد عام من التصوير، إلى نادٍ ليلي للمثليين، ربما لاختباره، لاحقاً قال أندرييسن: "كنت في الـ16، وكانوا ينظرون إليَّ كقطعة لحم ألقيت وسط الذئاب". تلك التجربة، كما روى، عمقت في داخله نفوراً من النظرة التي حولت الجمال إلى عبء أخلاقي وجسدي.

بعد عرض "موت في البندقية" اصطحبته شركات التوزيع في جولة ترويجية إلى اليابان، حيث استقبلته الجماهير بهستيريا. كانت حشود المعجبين تطارده في الشوارع، وقعت له عقود دعايات، وسجل أغاني، وامتلأت المجلات بصوره، فتحول أندرييسن إلى أيقونة للجمال الأندروجيني، ذلك الجمال الغامض الذي ألهم رسامي المانغا في السبعينيات، وخصوصاً تلك التي صورت العلاقات العاطفية بين فتيان ذوي ملامح رقيقة، غير أن هذا الوميض لم يكن سوى امتداد عابر لوهم كبير، فالشاب لم ينجح في بناء مسيرة حقيقية، ولم يستطع تحويل سحر اللحظة إلى مسار مهني مستقر. عاد إلى السويد، شارك في بعض الأفلام المتواضعة، وتزوج عام 1983 قبل أن ينصرف تدريجاً إلى الموسيقى التي كانت شغفه الأول، لكن اضطراباته النفسية لم تفارقه، وبدأت الانهيارات تتوالى، ومع بلوغه أواخر الأربعينيات كان الجمهور قد نساه تماماً، كما نسي وجوهاً كثيرة عبرت الشاشة ثم تلاشت من الذاكرة.

عودة إلى الأضواء

في مطلع الألفية عاد إلى الأضواء حين اندلع جدال واسع بعدما استخدمت الكاتبة البريطانية جيرمين غرير صورته في مقتبل شبابه على غلاف كتابها "الفتى الجميل" من دون إذنه. غضب وصرح بأنه ما كان ليوافق على استخدام ملامحه لتغذية خيال الآخرين، قائلاً: "لقد قضيت حياتي أحاول أن أتخلص من هذا الوجه الذي لم يعد وجهي".

ثم حلت به مأساة أخرى لتقضي على ما تبقى من توازنه: فقد ابنه الرضيع بعد تسعة أشهر فقط من ولادته، "سحبت الغطاء فرأيت أن شفتيه زرقاوان… ثم جاءت سيارة الإسعاف… شعرت وكأنني أصبت بالشلل، وكأنني ميت وحي في آن معاً".

انسحب أندرييسن تدريجاً من العالم، كان يعيش في عزلة شبه تامة، لا بل صار وجوده أشبه بظل يمشي على هامش الحياة. بعد نصف قرن عاد إلى الواجهة من خلال الوثائقي السويدي "أجمل فتى في العالم" (2021)، الذي كشف عن صورة رجل هزمه الزمن، بدا كهلاً شاحباً يعيش في شقة صغيرة، يتحدث عن نفسه كضحية لشهرة مبكرة لم يطلبها. واجه الكاميرا بصوت متعب: "ذلك الفيلم دمر حياتي".

أطل على الشاشة مجدداً عندما استدعاه المخرج الأميركي آري آستر لأداء دور صغير في "ميدسومار". دور قصير محمل بدلالات رمزية عن الجمال والموت والتضحية، كأن آستر أراد أن يعيد كتابة الأسطورة المأسوية لأندرييسن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مع موته افتتح مرة جديدة ملف الممثلين الأطفال الذين يزجون فجأة في عالم الكبار لتكريس أهوائهم، بعضهم ينجو وبعضهم الآخر لا تشفع به هشاشته. أندرييسن وجه آخر عانى التداخل بين الجمال كنعمة والجمال كعقوبة، عاش ما يشبه التجسيد الحرفي لعبارة آندي وارهول الشهيرة "ربع ساعة من المجد"، غير أن ربع ساعته ذلك كان كافياً ليرسم مسيرة حياته القادمة إلى الأبد.

هل يتحمل فيسكونتي مسؤولية ما آل إليه مصير الفتى؟ أنصار ثقافة الصحوة والصوابية سيقولون نعم. تريحهم الأجوبة السهلة والإشارة بالاصبع إلى جلاد ما، هناك دائماً ضحية وجلاد في سرديتهم. فيسكونتي لم يفعل أكثر من أن منحه فرصة، كما سبق أن فعل عدد لا يحصى من المخرجين، لا يمكن أن نحمله مأساة حياة أندرييسن، ولا المنعطف القاسي الذي أخذته، فالصبي كان يأتي أصلاً من خلفية معذبة انعكست على طفولته المكسورة: أب رحل في حادثة، وأم أنهت حياتها منتحرة، أي أثر يمكن أن يتركه ذلك في نفس طفل؟

فيسكونتي اختار وجهاً لا موهبة تمثيلية، فـ"موت في البندقية" لا يتطلب تمثيلاً بل حضوراً، والحضور ليس بالضرورة موهبة، إذ قد يبهت مع الزمن حين تتغير الملامح وتذوي الهالة. وهذه حال كثر: ماكولي كولكين الذي اجتاح العالم في "وحيداً في المنزل" ثم تلاشى، أو هالي جويل أوزمنت الذي صدم العالم بإطلالته في "الحاسة السادسة" ثم لم يتمكن من مواصلة المسيرة، لكن أحداً لم يحمل المخرجين مسؤولية أفول نجومهم، كما الحال مع فيسكونتي… وكأن الجمال الذي أطلقه في العالم كان خطيئة ينبغي الاعتذار عنها.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما