ملخص
بعد مشاركته في مسابقة "مهرجان برلين السينمائي" الأخير، انطلقت قبل أيام في أنحاء فرنسا عروض فيلم "انعكاس في ألماسة ميتة" للثنائي الفرنسي إيلين كاتيه وبرونو فورزاني.
يجد فيلم "انعكاس في ألماسة ميتة" نفسه أمام امتحان السوق الصعب، بعد الانتكاسة التي تعرض لها في التظاهرة الألمانية، اذ تجاهلته لجنة التحكيم تماماً، على رغم الثناء الذي ناله من بعض الذين اعتبروه تحفة سينمائية تهبط علينا من مجهول.
وأسندت أبرز صحيفتين فرنسيتين، ”لو موند“ و“ليبراسيون“، الى الفيلم خمس نجوم. ووصفته الأولى بـ”جوهرة بصرية تفكك أفلام الجواسيس“، بينما كتبت عنه الثانية ”فيلم عن عالم لا وجود له، نلتفت إليه مرة أخيرة“. وفيما وصفته أسبوعية ”باري ماتش“ بـ“أكثر أفلام السنة جنوناً“، قالت مجلة ”بوزيتيف“، “تحت مظهره كفيلم متأثر بجيمس بوند، هناك تأمل في سينما النوع وقوة الصورة، بين سلاح مشدود ودم يتطاير“.
القصة عن رجل يعمل جاسوساً، يؤدي دوره الممثل الإيطالي فابيو تستي، ينغمس في ذكريات مغامرات خاضها خلال الستينيات، بينما يجلس على شاطئ أحد فنادق الريفييرا الفرنسية وفي يده كأس من المارتيني، غير أن الغوص في تفاصيل الحبكة يبدو أمراً غير ذي جدوى لا بل ضرباً من الجنون، إذ إن الفيلم يتجاوز السرد التقليدي ليقدم نفسه كتجربة محض بصرية، تستقي روحها من إرث السينما الشعبية. ما نتابعه هنا ليس حكاية تُروى، إنما رحلة حسية، أقرب إلى ملحمة سينمائية تتكشف تدريجاً أمام أعين المشاهد، هذا الذي يشعر وكأنه على متن قارب يترنح فوق الأمواج، في رحلة لا تهدأ حركتها حتى اللحظة الأخيرة.
كل عنصر من عناصر الفيلم يستثمر إلى أقصى الحدود، مما يمنحه تكثيفاً سينمائياً نادراً. نحن أمام عمل يمدنا بإحساس متواصل بأننا داخل الصالة، يفرض علينا شروطه، مقدماً ما لا تستطيع الفنون الأخرى الإحاطة به، لا الرسم ولا الموسيقى ولا الأدب تقدر على خلق هذا التزاوج بين إيقاع بصري ومونتاج متوتر، ولغة تنقل المتفرج من متاهة إلى أخرى بسرعة لا تهدأ.
طوال الدقائق الـ87، على المتلقي أن يسلم ذاته لتجربة المشاهدة، تجربة ترتكز على اللذة البصرية والسمعية، وفي هذا التركيز على المتعة الخالصة، يكمن جوهر الفن، حتى لو لم يرضِ هذا التوجه المطالبين من كل عمل جديد بمغزى وهدف ساميين. الفيلم يذكّر، في العمق، بأن السينما نشأت لتكون وسيلة ترفيه، ولا يزال الملايين يملأون الصالات لأغراض ترفيهية.
وتصوير الفيلم بشريط خام، مع ما يرافقه من شوائب بصرية مقصودة، يعود بنا لزمن مضى ويمنح العمل قوة جاذبة لا تفسر، تنبع من توازن دائم بين الصوت والصورة، وتداخل مستمر مع مصادر بصرية متعددة. الفيلم يقتبس ويحوّر ويعيد توظيف كل ما يمكن استخدامه، من الفنون التشكيلية إلى القصص المصورة، وغيرها من الأشكال التعبيرية، وحتى السينما ذاتها تصبح مرجعاً واسعاً يستقى منه.
بدءاً من تلميحة خاطفة إلى "ديفا" لجان جاك بينيكس، مروراً باستدعاء أساليب وأجواء لأسماء مثل راوول رويز وبراين دي بالما وديفيد لينش، يقدم العمل إشارات خفية، من دون أن يرتبط فعلاً بأي منها بصورة مباشرة. هذا فيلم مشبع بالسينما، ينتمي إلى داخلها بقدر ما يخرج عنها، متنقلاً بخفة بين الواقعي والمتخيل. تجربة متقنة تحكم أدواتها بحرفية عالية.
وعن العناصر التي أضحت مصدر إلهام لديهما، يشرح المخرجان، ”كانت البداية عندما شاهدنا فيلم ’الطريق إلى اللامكان‘ للمخرج الأميركي مونتي هيلمان الذي شارك فيه فابيو تستي. حضوره في الفيلم أعاد لأذهاننا شون كونري، بخاصة مع إطلالته ببدلة بيضاء تستحضر ملامح درك بوغارد في ’الموت في البندقية‘ للوكينو فيسكونتي. عندها راودتنا فكرة بدت غريبة في ظاهرها، ماذا لو جمعنا بين عالم جيمس بوند وفضاء ’الموت في البندقية‘؟ أي بين نوعين سينمائيين لا يجمع بينهما شيء تقريباً. وتركنا أنفسنا لنرى إلى أين قد يقودنا هذا المزج. مع مرور الوقت، تراكمت مصادر الإلهام الأخرى، المعارض التي زرناها والأماكن التي سكنت ذاكرتنا والعالم الذي نحياه، كلها صاغت ملامح هذا المشروع تدريجاً. وفي النهاية، كان لأوبرا ’توسكا‘ إخراج كريستوف أونوريه، ولأسلوبه غير النمطي في التعامل مع الكلاسيكيات، دور حاسم في تحفيزنا على بدء كتابة السيناريو“.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويرى المخرجان أن كثيراً ما ينظر إلى عالم جيمس بوند والأبطال الذين يملكون قدرات خارقة من زاوية أميركية خالصة، ولكن في الواقع، كانت هناك نسخ أوروبية موازية له خلال الستينيات، ولا سيما في إيطاليا. ويعلقان على هذه النقطة بالقول، “من جهة، ظهرت أفلام هي في الواقع نسخ أوروبية شحيحة الموازنة لأفلام بوند، طغت عليها روح الخيال الشعبي، ومن جهة أخرى، وجد نوع مختلف تماماً في كتب القصص المصورة المخصصة للكبار، فكانت الشخصيات تتصرف ضمن مساحة رمادية، بعيدة من التصنيفات النمطية للخير والشر. وهذه الخلفية شكلت مصدر إلهام غني بالنسبة إلينا، وأعطتنا فرصة لإعادة النظر في تلك العوالم من منظور معاصر، مما أتاح لنا التطرق إلى مواضيع مثل الحنين وعبور الزمن والتحولات الاجتماعية والثقافية التي فصلت بين تلك الحقبة وزمننا الحالي. ولأن الوهم يعد أحد المواضيع المحورية في الفيلم، فكان من الطبيعي توسيع هذا التوجّه بصرياً من خلال الاستعانة بعناصر مستوحاة من فن الخداع البصري، وهو فن يهدف إلى خلق تأثيرات مرئية تحاكي الوهم“.