ملخص
لكن الشاعر على شاشة السينما يصبح ساخطاً، فوضوياً، سكيّراً، يجأر بمعاناته وسوء حظه وهزيمته. كلاهما (أوبيمار وأوسكار) حصد بعض التكريم في بواكيره، كلاهما فشل في مواصلة الطريق، وكلاهما استسلم للمكتوب وقنع بالعيش في الظل. أهذا كل شيء؟
تشبه حياة أوبيمار ريوس (وهو معلّم كولومبي يعمل في مدرسة ثانوية منذ أكثر من ثلاثة عقود، وشاعر مغمور من ريونيغرو) إلى حد كبير حياة "أوسكار" بطل فيلم "شاعر" (a poet)، 2025، سيناريو وإخراج سيمون ميسا، الذي فاز أخيراً بجائزة مهرجان "الجونة" (النجمة الذهبية) للفيلم الروائي الطويل في دورته الثامنة.
يعرف أوبيمار أنه مجرد شاعر رديء يعيش حياة رتيبة وعادية بلا مغامرات، غير أنه لا يشعر بأي إزعاج حيال ذلك، بل هو قانع تماماً بحصته الضئيلة من الموهبة، ربما من أجل أن يسلّي نفسه، أو يشارك آخرين أفكاره وانطباعاته وشكواه.
لكن الشاعر على شاشة السينما يصبح ساخطاً، فوضوياً، سكيّراً، يجأر بمعاناته وسوء حظه وهزيمته. كلاهما (أوبيمار وأوسكار) حصد بعض التكريم في بواكيره، كلاهما فشل في مواصلة الطريق، وكلاهما استسلم للمكتوب وقنع بالعيش في الظل. أهذا كل شيء؟
لا، فقد وجد أوبيمار نفسه في النهاية فوق مسرح مهرجان "كان"، يحظى بتصفيق هائل من جماهير تملأ ثلاثة طوابق. في هذه اللحظة تذكر طلابه في الصف الدراسي، "أحياناً أسأل نفسي: ماذا أفعل هنا؟ لم أدرس التمثيل، ولم أحلم به يوماً. أحياناً أشعر بأنني في مكان لا أستحقه".
نعم، بات أوبيمار نجماً بالصدفة، ولكنه حصد الجوائز باقتدار. كان كارلوس ابن أخ زوجته وصديق المخرج سيمون ميسا، اطلع على سيناريو فيلم "شاعر"، ورآه مرشحاً جيداً لدور "أوسكار". قال كارلوس لسيمون "سيمون، لديّ شاعرك". إنها المغامرة التي تصنعها الحياة غصباً ولو كانت رتيبة، ويذكيها الشعر ولو كان سيئاً.
وجه الشاعر ومرآته
خضع أوبيمار لفترة من التدريب لكي يصير ذلك البطل المهزوم "أوسكار"، توحّد بالكامل مع معاناته كأنه ينظر إليها في مرآة نفسه. وضع الشعر أوبيمار على حافة الضوء في أكبر محافل السينما، لم تعد حياته عادية لا تهم أحداً، بل صارت اكتشافاً ومفاجأة ودرساً لا ينسى.
ففي كل بقعة من هذه الأرض رجل مثل أوبيمار، في كل قرية أو مدينة أو جزيرة، في الصحارى والشواطئ والغابات، على مساحات القارات الست، ثمة من يقول "أنا شاعر"، ومن يخفيها عن الناس كشيء محرم، ومن يدّعيها بالباطل، ثمة ما يؤكد أن الشعر لابد أن يوجد، وأن يعيش خارج السرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن هذا العالم الذي يتسارع ويتوحش ويغلي، ما حاجته إلى نبرات الشعر الخافتة هنا أو هناك؟
يعالج فيلم "شاعر" ذلك السؤال الصعب، وهو سؤال الفن الكبير في عالمنا. إن "هوس أوسكار ريستريبو بالشعر لم يجلب له أي مجد" كما يقول المقطع الدعائي للفيلم، فقد تقدّم في السن وأصبح مضطرباً، فاشلاً بكل معنى الكلمة، وحين يبلغ اليأس به مداه يرضى بوظيفة أقل بكثير من أحلامه التي لا يؤمن بها أحد، معلم في مدرسة ثانوية، هناك يلتقي يورلايدي، وهي فتاة مراهقة من أصول متواضعة تكتب الشعر، وها هو يقتنع بموهبتها ويقرر أن يغرس فيها أحلامه المفقودة، لنكتشف في النهاية كم هو ضيئل نصيب الشعراء في هذا العالم.
الفيلم الفائز بجائزة لجنة التحكيم في قسم "نظرة ما" بمهرجان "كان" السينمائي (2025)، يكسر هالة الشعر اللامعة ويلقي بها وسط القذارة والفقر والاستغلال واليأس والبكاء، من دون أن نشعر بأن ثمة شيئاً غير عادي في الحكاية، بل إنه ينزع إلى السخرية من قدر الشعراء، يحتفل بهذه المعاناة التي تثير الضحك، لا يحاكم الفشل ولا يأسف له بل يسائل العالم من خلاله. لا تعرف يورلايدي ماذا يعني أن تكون شاعرة، هي فقط تكتب مشاعرها وتحاول الهرب من الواقع الصعب إلى نفسها ودفترها الصغير، فهل يجلب الشعر السعادة ويحمي من الفقر، أم أنه شرك قاتل ومأساة غامضة تلوح في البعيد؟
ضد خطيئة العالم
تكسرت الأحلام في يومها الأول، وعادت الفتاة الصغيرة من الحفل المقام على شرف الموهبة مغشياً عليها من الخمر ومحمولة على كتف الشاعر التعيس، سقط الجميع في المأزق، الناشر الذي أعد الاحتفال بات مهدداً بالفضيحة بالتالي قطع التمويل الآتي من الغرب، والشاعر محكوم بالسجن لا محالة، وقد وجدت المدرسة نفسها متورطة في ما يدور خارج أسوارها العالية فأقالت الشاعر، وضاع رهان أسرة الفتاة على موهبتها لإنقاذها من الفاقة، وهكذا تحطم كل شيء في لحظة التوهج. فهل نقول للشعر كفى عند هذا الحد؟
إنه لا يزال يغوي أناساً فيطاردونه ويضيّعون أنفسهم بلا طائل، لا يزال يهرب تاركاً شظاياه الحارقة في الرؤوس، لا يزال يفسد المزيد من الرجال والنساء. والشاعر الغريب منذ الأزل لم تعد غربته الآن كما كانت، ذلك الوجع الشفيف الذي يشق الفؤاد، تلك الرومانسية المضيئة حتى في الانتحار، هي ما ينجح الكولومبي سيمون ميسا في التصادم معها ونكرانها حين يصل بالمعاناة إلى حدود المهزلة كأنه يريد أن يلطخ بها وجه العالم.
هنا تصبح القصيدة هي حياة الشاعر نفسها وليست نصاً مكتوباً من أجل البقاء. وهي كافية بذاتها حتى مع الفشل لأن نقدّر إصرارها على النجاح بينما تمهد الجسور للآخرين. إنها إعلان صارخ في وجه عالم يسحق البراءة ويعيد إنتاجها لمن يرغب في الشراء.