ملخص
بعد مضي 67 عاماً على إطلاق فيلم "رحلة إلى القمر" (A Trip to the Moon)، تحقق ما ظنه البشر ضرباً من التجديف والهلوسات. ففي عام 1969 أصبح نيل آرمسترونغ أول شخص يطأ سطح القمر، عبر رحلة حبست أنفاس العالم، واستمرت ست ساعات و39 دقيقة.
عن تلك الرحلة التاريخية، التي شارك فيها رائد الفضاء باز ألدرين، وتابعها 600 مليون حول العالم، قال آرمسترونغ إنها "خطوة صغيرة للإنسان، وقفزة هائلة للبشرية"، فهل يمكن القول إنّ الفضل يعود في ذلك إلى الفيلم السينمائي الفرنسي الصامت، الذي أخرجه وكتبه جورج ملييس، وجاء في 14 دقيقة، وعده النقاد آنذاك جزءاً من الفانتازيا؟
الفيلم، المستوحى من رواية "من الأرض إلى القمر" للفرنسي جول فيرن، ورواية "أول رجال على سطح القمر" للإنجليزي هربرت جورج ويلز، قدح شرارة الخيال الذي عدّه أرسطو وظيفة ذهنية ضرورية للمعرفة، لأنه يربط بين الحس والعقل ويساعد على التفكير والتأمل. أما كانط فأعطى الخيال مكانة أساسية، وعدّه قوة توحّد بين الحس والعقل، وتبني التجربة الإنسانية للعالم.
الخيال أهم من المعرفة
آينشتاين كان أكثر ولاءً للخيال، الذي هو في نظر واضع نظريتيْ النسبية الخاصة والنسبية العامة "أهم من المعرفة، لأنّ المعرفة محدودة، أما الخيال فيُحيط بالعالم بأسره".
بالخيال المتفلت من قيود العالم المادي، حلقت السينما، وحررت الذهن، وسبقت الزمن، لتبرهن على الإمكانات اللامتناهية للمعرفة. وبالخيال، وقبل نحو مائة عام، تنبأ فيلم "متروبوليس" (Metropolis) الذي صدر عام 1927، بجهاز التواصل بالفيديو، حيث يُجسّد روبوت امرأة حقيقية، عن طريق الصعق بالكهرباء من قبل طبيب مجنون. هذا الفيلم الألماني الصامت، يتحدث عن المستقبل الغامض عام 2026.
ما برحت السينما تهجس بالمستقبل، وتعبر عن المخاوف الإنسانية، والذعر من انفلات الكون وخروجه عن سيطرة الإنسان، وصيرورة الآلات واعيةً، كما جسده فيلم "2001 ملحمة الفضاء" (2001: A Space Odyssey) الذي عرض عام 1968، ويتناول سلسلة من اللقاءات بين البشر وأجسام غامضة سوداء، إذ تُرسل رحلة فضاء إلى كوكب المشتري لتتبع إشارة منبعثة من إحدى هذه الكتل الغامضة الموجودة على القمر.
أفلام "ماتريكس"
ومن أكثر الأفلام المحملة بغلالات تنبؤية لجهة علاقة الإنسان بالوجود والآلة والوعي والمعتقدات، أتت أفلام "ماتريكس" (The Matrix) لتظهر أية قمة وصلها خيال السينما، قبل ستة وعشرين عاماً، وهاهي تتحقق الآن، في صورة رغبات قاهرة للسيطرة على البشر، حيث تتوصل عصابة من المتمردين الإلكترونيين، كما كتب الناقد السينمائي الأميركي روجر إيبرت، إلى اكتشاف جوهري عن العالم: إنه غير موجود. إنه في الواقع شكل من أشكال الواقع الافتراضي، مصمم ليخدعنا في حياة من الطاعة العمياء "للنظام". نذهب بطاعة إلى وظائفنا البائسة كل يوم، من دون أن ندرك. كما يقول قائد المتمردين لزميله، إنّ "الماتريكس هو الصوف الذي تغطى به عينيك. إنك عبد".
منتصف الشهر الجاري، صدر في فرنسا، فيلم تنبؤي مثير يتوقع (أو يتخيل) أحداثاً ستقع في باريس، خلال العقدين المقبلين، حيث المدينة ستكون مقسمة طبقياً إلى ثلاث مناطق في عام 2045، وحيث تدير الشرطة نظاماً ذكياً معتمداً على الذكاء الاصطناعي.
الفيلم يطرح قضايا مثل، التفاوت الاجتماعي، واستخدام الذكاء الاصطناعي في التحكم والسيطرة، والتحوّلات القسرية التي قد تواجه المجتمعات. ولا أحد يستطيع الهروب من (ALMA)، وهو نظام ذكاء اصطناعي تنبؤي أحدث ثورة في إنفاذ القانون.
العالِم رصين والسينمائي مجنون
ما جعل السينما تسبق العلم، وتلهمه أنّ الأولى تعمل في نطاق غير محسوب العواقب. لا يهمها إن أخطأت أو تمادت في تصوراتها، فلذلك ذريعة ربما تكون مقبولة إلى حد ما: نحن نجرب، ونتخيل، سيقول صنّاع السينما، ولا رقيب على الدهشة والإدهاش والتجربة والتجريب.
العالِم في مختبره رصين، يحسب الأشياء بدقة وحذر، أما السينمائي فمجنون لا يقيم وزناً للعلائق المنطقية أو قواعد العقل، بل إنه ربما يهزأ بها، لكنّ جنون السينمائي ينطوي على حدس خلاق، وإحساس عالٍ بالمسؤولية، لذلك نراه في غالبية الأفلام التي تحكي عن المستقبل يحذّر، ويعرب عن مخاوفه وشكوكه.
إسهام السينما العربية
ماذا عن إسهام السينما العربية في استشراف المستقبل، والتنبؤ بتحولاته؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
النماذج العربية المهجوسة بالمستقبل قليلة ونادرة، وأي تحليل لهذه الظاهرة قد يوقع الكاتب في هجاء الذات، والبكاء على أطلال العقل العربي. لكن من بين ركام الأفلام قد يعثر المرء على حفنة قليلة ذات رسالة رؤيوية، مثل الأفلام المصرية "عمارة يعقوبيان"، و"هي فوضى" و"678"، والفيلم المغربي "الزين اللي فيك"، وهي تناقش قضايا الفساد والدعارة والتحرش الجنسي والاغتراب الإنساني في المجتمعات العربية، ودخول الإنسان العربي عصر اللامبالاة والطمع والحسد وتفاهة الركض وراء الماديات، وتهافت القيم الأخلاقية. وهي قضايا بعيدة عن تخيل عالم غير متوقع، لكنها بمثابة جرس إنذار لما هو قادم، مع أنّ الرواية العربية حفلت بنماذج استشرافية كثيرة ومهمة، لكنّ تحويل بعضها إلى السينما يتطلب ميزانيات ضخمة، وإفلات قبضة الرقابة، أو ارتخاءها.
ما أماطت السينما اللثام عنه حتى الآن هو غيض من فيض الخيال المتمرد على عقاله، والذي يحذو العلماء والمبتكرين والمخترعين، إلى الإنصات الجدي المثابر لهذه الرؤى التي لن يتوقف معينها الفياض.
وما يزيد الدعوة السابقة إلحاحاً هو الجدل الذي لا يهدأ حول وعي الآلات، وهي قضية مؤرقة تشغل تفكير فريقين من العلماء؛ الأول متفائل ويطمئن الناس بأنّ وعي الآلة وخروجها عن سيطرة الإنسان أمر لا يمكن حدوثه، لكنه يعرب عن قلقه من ذلك. أما الفريق الثاني الأعلى صوتاً والأشد غلواء، فيقول إنّ الأمر لن يطول حتى نرى كيف يكون للروبوتات الواعية كيانات وجودية على الأرض والكواكب الأخرى، باعتبارها، كما قال لـ"بي بي سي" الأستاذ الفخري في جامعة كارنيجي ميلون في بيتسبرغ، بنسلفانيا، "ذريتنا"، وأنها ستكون "المرحلة التالية في تطور البشرية".