ملخص
تحولت حياة السكان العالقين في الفاشر إلى جحيم لا يطاق مع انقطاع الاتصالات في عموم المدينة، مما أدى إلى شلل حركة ما تبقى من خدمات شحيحة، ويهدد بأزمة صحية وغذائية كارثية ووضع إنساني تغيب فيه أبسط الحقوق ومقومات الحياة.
يعيش السكان العالقون الذين لم يتمكنوا من مغادرة مدينة الفاشر أوضاعاً إنسانية قاسية وحياة مليئة بالرعب بخاصة في ظل ارتكاب قوات "الدعم السريع" انتهاكات واسعة ضد المدنيين وتنفيذ تصفيات ميدانية وحشية، وكذلك حال الانفلات الأمني الكامل عقب انسحاب الجيش السوداني من المدينة.
ويتعرض آلاف من السكان للحصار والقتل والجوع داخل عاصمة ولاية شمال دارفور، ولا يستطيعون الوصول إلى الغذاء أو الرعاية الطبية أو الأمان بعد توقف عمل "التكايا" والمطابخ المجانية عن تقديم الوجبات، إضافة إلى نهب المستشفيات والمرافق الصحية والصيدليات وخطف الكوادر الطبية.
أوضاع مزرية
وبحسب "المنظمة الدولية للهجرة"، لا يزال نحو 177 ألف مدني في المدينة ومحيطها.
جراء هذه الأوضاع أطلقت "تنسيقية لجان مقاومة الفاشر" نداء وتحذيراً عاجلاً من تفاقم الأوضاع الإنسانية داخل المدينة، إذ يواجه المدنيون المحاصرون نقصاً حاداً في الغذاء ومياه الشرب والرعاية الصحية". وأشارت في بيان إلى أن "الجرحى والمصابين داخل المستشفى السعودي وعنابر الجامعة تمت تصفيتهم من ميليشيات ’الدعم السريع‘ بطرق بشعة، قتلوا وهم بين الحياة والموت في زمن لم يعد فيه للإنسانية مكان".
وقالت التنسيقية، على منصة "فيسبوك"، "لم يبق للجرحى فرصة للنجاة، أولئك الذين كانوا ينتظرون يداً تمتد إليهم غابت عنهم الرحمة قبل أن يصل إليهم الدواء، والمستشفيات سقطت في صمت مرعب لا يسمع فيه سوى أنين انقطع فجأة".
جوع ومرض
بحسب المواطن السوداني عبود التاج الموجود داخل الفاشر، فإن العالقين في المدينة كانوا طوال فترة الحصار التي تجاوزت 500 يوم يسدون فجوة الغذاء من تكايا الطعام المجانية، لكن بعد سيطرة ’الدعم السريع‘ على المدينة توقفت المطابخ الخيرية، خصوصاً بعد نزوح المتطوعين ومقتل آخرين".
ونبه التاج إلى أن "السكان العالقين أصبحوا مكشوفين أمام موجات الجوع المستشري بصورة مخيفة، وباتوا يعيشون أسوأ أزمة إنسانية في الوجود"، وأن "من نجا من القتل، لم ولن يسلم من تداعيات الجوع وانعدام الدواء والنقص الحاد في مياه الشرب النظيفة".
ويصف المواطن السوداني ما تعرضت له مدينة الفاشر بأنه "يتجاوز التهجير القسري إلى المذابح والإبادة الجماعية بفتح النار على المواطنين المدنيين وقتلهم داخل منازلهم، على رغم أن معظمهم من الفئات الأكثر ضعفاً".
انتهاكات وجرائم
من جانبه، أوضح الناشط المجتمعي سعد جبارة أن "حياة السكان العالقين تحولت إلى جحيم لا يطاق بانقطاع الاتصالات في عموم المدينة، مما أدى إلى شلل حركة ما تبقى من خدمات شحيحة، مما يهدد بأزمة صحية وغذائية كارثية ووضع إنساني تغيب فيه أبسط الحقوق ومقومات الحياة". وأشار إلى أن "هناك تخوفاً واسعاً في شأن مصير آلاف المدنيين العالقين في الفاشر، خصوصاً أن المدينة محاصرة بقوات ’الدعم السريع‘ من جميع الاتجاهات، في حين يعتمد المدنيون في حركة نزوحهم على السير على الأقدام بسبب انعدام الشاحنات والوقود". ولفت جبارة إلى أن "عناصر الدعم السريع تنفذ تصفيات ميدانية وحشية رمياً بالرصاص بدم بارد، وملاحقات على أساس عرقي للسكان وأعمال انتقامية واسعة النطاق في حق المواطنين عقب إعلان سيطرتها على المدينة". وتابع الناشط المجتمعي، "الوضع في الفاشر خطر للغاية بالنسبة إلى المدنيين الذين يقعون تحت مسؤولية القوة العسكرية المسيطرة على الأرض، إذ لا توجد أية ضمانات لحصولهم على الحماية بسبب عدم سيطرة قوات ’الدعم السريع‘ على عناصرها، الذين يرتكبون انتهاكات وجرائم مروعة في حق المدنيين".
نزوح ومآس
عاش السودانيون لحظات مؤلمة وهم يشاهدون مقاطع مصورة جرى تداولها بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر صراخاً ونداءات لآلاف الأطفال والنساء وكبار السن والمرضى من شدة الجوع والعطش وآلام السير في رحلة نزوحهم القسري من مدينة الفاشر باتجاه منطقة طويلة (تبعد 64 كيلومتراً من عاصمة شمال دارفور) ومدن أخرى عقب سيطرة قوات "الدعم السريع" على الفاشر، بحثاً عن الأمان والاستقرار في مناطق جديدة في ظل تدهور الأوضاع الغذائية والصحية.
وقضى معظم هؤلاء النازحين ما بين يومين وثلاث ليال في الطريق سيراً على الأقدام قبل وصولهم إلى وجهة نزوحهم الجديدة، وبدا كثيرون منهم مصابون بالصدمة والجروح بعد تعرضهم لإطلاق النار العشوائي، ويحتاج معظمهم إلى تدخل طبي عاجل، وكذلك تحتاج الحوامل إلى رعاية صحية بخاصة بعد ارتفاع حالات فقر الدم والهبوط الحاد، في وقت يعاني فيه الأطفال الجفاف وسوء التغذية، وجميعهم مصاب بصدمات نفسية، بحسب الأطباء والمنظمات الدولية.
جراء هذه الأوضاع، قالت منسقية النازحين واللاجئين بدارفور إن "نحو 360 أسرة و1117 نازحاً من المدنيين الفارين من الفاشر وصلوا إلى منطقة طويلة، ليرتفع العدد الكلي للأسر التي وصلت إلى المنطقة منذ الـ18 وحتى الـ27 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، إلى نحو 831 أسرة و3038 شخصاً، يعيشون ظروفاً إنسانية وصحية بالغة السوء".
وأوضح المتحدث الرسمي باسم المنسقية العامة للنازحين آدم رجال أن "الأسر بحاجة ماسة إلى خدمات منقذة للحياة تشمل المياه الصالحة للشرب والرعاية الصحية، فضلاً عن توفير الغذاء ومواد الإيواء، إضافة إلى الدعم النفسي والاجتماعي". وأشار رجال إلى أن "النازحين يعانون مآسي حقيقية على طول الطريق إلى منطقة طويلة، بينما يفتقر من يصل منهم إلى الإيواء، إلى جانب المعاناة الطاحنة في الحصول على المياه الصالحة للاستعمال الآدمي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صدمة وألم
المواطن السوداني الشريف سليمان الذي وصل أمس الثلاثاء إلى منطقة طويلة، فاراً من الموت، كشف عن معاناته الرهيبة هو وأسرته جراء العطش والجوع طوال الرحلة التي استغرقت يومين سيراً على الأقدام، لكنه دخل في حالة من الإعياء التام استدعت نقله إلى المركز الطبي بمعسكر الإيواء لتلقي الإسعافات والعلاج.
وأوضح سليمان أن "الانتهاكات بجانب الرمي بالرصاص في الشوارع، استحدثت أسلوباً شنيعاً بالذبح بطريقة بشعة لم يستثن منها حتى الشيوخ والأطفال، إذ وجدت عشرات الجثث المذبوحة وسط الحقول على طرق الهرب". ونوه النازح السوداني بأن "آلافاً في حاجة ماسة إلى المأوى والغذاء والماء والإمدادات الطبية بصورة عاجلة، خصوصاً بعد وفاة عشرات عطشاً وجوعاً في الطريق بين الفاشر وطويلة".
تفاقم الأزمات
أما أم سلمة عبدالباقي، التي فرت مع زوجها هرباً من الموت فتبدو مأساتها أكثر عمقاً، إذ فقدت جميع أطفالها في الطريق إلى منطقة مليط عبر رحلة مروعة، وتقول إنها "لا تعرف حتى الآن مكانهم وما إذا كانوا أحياء أم أمواتاً"، وأكدت أن "العدد القليل من المنظمات غير قادر على مواجهة تحديات الطوارئ الماثلة هناك، فالناس ينتظرون مجرد التسجيل في كثير من تلك المواقع، فضلاً عن تقديم أي شيء لهم، كما يعاني النازحون انعدام مواد الإيواء".
وعن الأوضاع داخل المعسكرات قالت عبدالباقي "لا توجد مراحيض لائقة ولا كافية، وهناك مشكلة حقيقية في توفير مياه الشرب، ويضطر كثيرون إلى الذهاب للبرك في الوادي القريب من المعسكر للحصول على المياه، وهي عكرة يستحم فيها معظم الناس. كذلك يعاني النازحون الجوع وشح الطعام ومعظم الناس فقدوا كثيراً من وزنهم جراء سوء التغذية، بخاصة وسط الأطفال". وأردفت أن "هناك جرحى وصلوا إلى منطقة مليط يحتاج معظمهم إلى تدخل طبي عاجل، ومنهم من يعاني كسوراً تحتاج إلى العلاج خارج المحلية".
حركة نزوح
في الأثناء، أشارت منظمة الهجرة الدولية إلى نزوح ما بين 2500 و3 آلاف شخص من مدينة الفاشر. ونوهت المنظمة في بيان بأن النازحين توجهوا إلى مواقع داخل الفاشر، وربما يتحركون لاحقاً نحو محليتي طويلة ومليط الواقعتين في ولاية شمال دارفور، وذلك بحسب تطورات الأوضاع الأمنية والقيود المفروضة على الحركة. ولفتت المنظمة إلى نزوح نحو ألفي شخص من الفاشر خلال الفترة بين الـ23 والـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، إلى مواقع أخرى في محليتي الفاشر وطويلة.