ملخص
ملامح الاتفاق الذي أنجزه وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت ونائب رئيس الوزراء الصيني وكبير المفاوضين التجاريين الصينيين لي تشنغ جانغ جاءت متسقة مع توقعات مجلة الـ"إيكونوميست" التي نشرت ملفاً في عددها الأخير بعنوان "لماذا تكسب الصين الحرب التجارية؟".
قبل لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترمب ونظيره الصيني تشي جينبينغ، توصل المفاوضون من البلدين على هامش قمة مجموعة "آسيان" في ماليزيا لاتفاق أولي يخفض من حدة الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم.
ملامح الاتفاق الذي أنجزه وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت ونائب رئيس الوزراء الصيني وكبير المفاوضين التجاريين الصينيين لي تشنغ جانغ جاءت متسقة مع توقعات مجلة الـ"إيكونوميست" التي نشرت ملفاً في عددها الأخير بعنوان "لماذا تكسب الصين الحرب التجارية؟".
فمقابل خفض الولايات المتحدة رسوم التعريفة الجمركية الهائلة على الصادرات الصينية وعدت الصين بتأجيل القيود على صادرات معادن الأرض النادرة والعودة لاستيراد فول الصويا من أميركا، أما ما سيفاخر به الأميركيون إعلامياً فهو الأقل أهمية مثل تصديق الصين على بيع تطبيق "تيك توك" لمستثمرين أميركيين والتوقف عن تصدير "الفنتانيل".
وخلصت افتتاحية مجلة الـ"إيكونوميست" قبل أيام قليلة فإن الاتفاق المبدئي وقمة ترمب وتشي ليسا نهاية للحرب التجارية بين العملاقين الاقتصاديين بتسوية خلافاتهما وإنما مجرد هدنة موقتة تسمح لبكين وواشنطن بمزيد من "التسلح الاقتصادي" في صراع ممتد ترى افتتاحية المجلة أن الصين تفوز به على رغم الادعاءات الأميركية، وتعدد المجلة العوامل التي تقف وراء فوز بكين.
أحلام أميركية ووقائع صينية
وعلى رغم الحرب التجارية الضارية بين أكبر اقتصاد في العالم، الولايات المتحدة، وثاني أكبر اقتصاد في العالم، الصين، لم تتوقف الاتصالات بين البلدين، لكنها اتصالات لا تتسم بالواقعية غالباً، وذلك بسبب تصورات مسبقة لدى الأميركيين لا يعكسها الواقع العملي.
فمنذ توليه الحكم في فترة رئاسته الثانية مطلع هذا العام زاد الرئيس ترمب من وتيرة الضغط الاقتصادي على الصين التي بدأها في فترة رئاسته الأولى السابقة.
في المقابل، لم تخضع الصين أو تستسلم بل ردت بعقوبات مضادة وفرض تعريفة جمركية انتقامية على الصادرات الأميركية، فحين أعلن الرئيس ترمب فرض تعريفة جمركية على كل صادرات الصين بأكثر من 100 في المئة مطلع أبريل (نيسان) الماضي اضطر للتراجع عنها بعد أسبوع لأنها أدت إلى انهيار في الأسواق، ولم تكن المرة الأولى ولا الأخيرة التي يتراجع فيها ترمب عن قراراته.
هناك تصور لدى الإدارة الأميركية ومستشاريها في البيت الأبيض ومحيطها الأوسع أن تراجع ترمب عن مواقفه هو السبب في أن الصين تبدو وكأنها تكسب جولات الحرب التجارية وليست قوة الصين وصلابة مواقفها.
وينطلق ذلك الوهم، بحسب تعبير الـ"إيكونوميست" من تصور أن أميركا "لها اليد العليا" في العلاقات مع بكين وأن "الصين ضعيفة" على حد تعبير وزير الخزانة سكوت بيسنت، إلا أن الواقع غير ذلك كما توضح المجلة.
كان هدف إدارة ترمب الحالية من زيادة الضغط على الصين بواسطة فرض الرسوم الجمركية والقيود على التكنولوجيا والإفراط في استخدام العقوبات الاقتصادية هو شل آلة التصنيع الصينية، على اعتبار أن ذلك سيؤدي إلى إمكانية انتزاع تنازلات مالية وتجارية، وإبطاء تقدم الصين التكنولوجي لتكسب أميركا سباقات تكنولوجية متطورة.
ووصل الأمر بترمب أن "بعض مساعديه حلموا بـصفقة كبرى تلتزم فيها الصين إصلاح رأسماليتها الحكومية مقابل تخفيف واشنطن قبضتها عنها"، كما تقول افتتاحية المجلة.
أسباب الفوز الصيني
ما حدث منذ مطلع هذا العام حتى الآن يؤكد أن بكين لم ترضخ أو تستسلم للضغوط الأميركية، بل على العكس ردت على كل إجراء بسياسات انتقامية مما اضطر إدارة ترمب للتراجع عن الضغوط والتفاوض معها والوصول إلى حلول وسط.
وكما تقول الافتتاحية، فإن الصين "تعلمت كيف تصعد وترد بفاعلية، بل وبدأت تجرب قواعدها التجارية الخاصة ذات الطابع العابر للحدود، وهو ما يغير مسار الاقتصاد العالمي نفسه".
تلخص الـ"إيكونوميست" أسباب فوز الصين بالحرب التجارية في ثلاثة عوامل مهمة، أولها، أنها أثبتت قدرتها على مقاومة الضغوط الأميركية والرد عليها بمهارة وبصورة مناسبة ومحسوبة، فأخيراً، عندما فرضت بكين قيوداً على تصدير المعادن النادرة المستخدمة في التكنولوجيا المتقدمة، هدد ترمب بفرض رسوم بنسبة 100 في المئة على صادرات الصين ثم تراجع مرة أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما تهديداته بفرض "حصار اقتصادي شبه كامل على الصين" فترى المجلة أنها تفتقر إلى الصدقية، لأن تنفيذها سيضر بأميركا نفسها، وفيما يرى البعض أن الصين تمر بأزمة، فإن بورصتها ارتفعت هذا العام بنسبة 34 في المئة مقيمة بالدولار، أي بضعف نسبة ارتفاع مؤشر "أس أند بي 500" القياسي في البورصة الأميركية.
وحين فرض ترمب رسوماً على السفن الصينية القادمة إلى الموانئ الأميركية، ردت بكين برسوم مماثلة، بل وهددت بفتح تحقيقات في اتهامات بالاحتكار ضد شركات أميركية منها "غوغل" و"إنفيديا" و"كوالكوم".
إنما الأهم إنها أعلنت التوقف عن شراء فول الصويا الأميركي (أكبر صادرات أميركا إلى الصين التي بلغت 12 مليار دولار العام الماضي) بما يضر بمزارعي الغرب الأوسط الأميركي الذين يعدون قاعدة انتخابية مهمة لترمب.
نظام عالمي جديد
صحيح، أن أميركا لا تزال تملك بعض أوراق الضغط على الصين، مثلاً في ما يتعلق بالطائرات، إلا أن الرئيس الصيني تشي جينبينغ يدفع بقوة باتجاه جعل سلاسل التوريد الصينية أقل اعتماداً على الخارج وفي ذات الوقت أكثر ضرورة لسلاسل توريد وإمداد الدول الأخرى. ونظرياً، يمكن لإدارة ترمب تصعيد المواجهة بمنع وصول الصين إلى النظام المالي المعتمد على الدولار الأميركي "لكنه على الأرجح لن يفعل، لأن ذلك سيسبب اضطرابات مالية تؤذي الولايات المتحدة نفسها"، بحسب افتتاحية المجلة، خصوصاً مع تحسب الصين لمثل تلك الخطوات التصعيدية المحتملة.
العامل الثاني وراء فوز الصين بالحرب التجارية هو أن بكين أصبحت تعمل على بناء نظام تجاري عالمي جديد بقيادتها، من طريق التجربة والخطأ، ولكن بصورة عملية ودقيقة.
وتعمل بكين على بناء نظام صيني بديل للنظام التجاري الليبرالي القديم، ينافس إمبراطورية الرسوم الجمركية التي يفرضها ترمب، بعد أن غيرت بالفعل خريطة تجارتها، فصادراتها السلعية زادت بأكثر من ثمانية في المئة خلال عام، حتى سبتمبر (أيلول) 2025، على رغم تراجع صادراتها إلى أميركا 27 في المئة في تلك الفترة.
وأثارت تهديداتها بتقييد تصدير المعادن النادرة الذعر في أميركا والعالم لأنها تهيمن على السوق ويمكنها شل سلاسل التوريد الصناعية الغربية، ففضلاً عن إنتاجها الذي يقارب ثلثي إنتاج العالم فإنها تتحكم في تنقية وتصنيع معظم تلك المعادن المنتجة في العالم.
والأهم من ذلك، أن قيود التصدير تلك تبين سعي الصين إلى فرض نظام عالمي جديد للتراخيص التجارية، في نسخة أكثر صرامة من الأسلوب الذي استخدمته أميركا سابقاً للسيطرة على صناعة أشباه الموصلات.
ويتوقع أن تواصل الصين إعادة صياغة قواعد التجارة العالمية مع استغلال موقعها كمركز تصنيع متقدم وأكبر شريك تجاري لأكثر من 70 دولة حول العالم.
أما العامل الثالث، الذي تذكره المجلة الاقتصادية وراء فوز الصين فهو أن حرب التجارة جعلت الرئيس تشي جينبينغ والحزب الشيوعي الحاكم في بكين أكثر قوة ولم تضعفه، ذلك رغم أن الصين تواجه مشكلات ضخمة، من أزمة عقارية خانقة، إلى إنفاق استهلاكي ضعيف من مستهلكين مترددين ورواد أعمال مقيدين إضافة إلى فوائض إنتاج تهدر رأس المال.
إلا أن معظم الصينيين يرون في ضغوط ترمب على بلادهم دليلاً على صواب رؤية الرئيس تشي "لبناء قوة صناعية تكنولوجية قادرة على الصمود في عالم معاد".
وهذا الأسبوع، اجتمع قادة الحزب الحاكم في بكين لمناقشة خطة خمسية جديدة يتوقع أن تركز أكثر على النهج القومي التكنولوجي للرئيس تشي.