ملخص
تمس التأتأة جوهر التواصل الإنساني وتترك أثراً نفسياً واجتماعياً عميقاً في المصابين بها. تبدأ غالباً خلال مرحلة الطفولة المبكرة بين عمر سنتين وخمس سنوات، وقد تختفي تدريجاً مع النمو، إلا أن نحو ربع الحالات تستمر وتتحول إلى تأتأة دائمة تحتاج إلى علاج.
وعلى رغم عدم وجود دواء محدد لعلاج التأتأة، فإن الدمج بين العلاج النطقي والسلوكي أثبت فعاليته الأكبر، إذ يساعد في تحسين الطلاقة وتقليل القلق، كما أن التدخل المبكر والدعم الأسري يعدان عاملين حاسمين في التعافي.
تعد التأتأة إحدى أكثر اضطرابات النطق شيوعاً وتعقيداً، إذ تمس جوهر التواصل الإنساني وتترك أثراً نفسياً واجتماعياً عميقاً على من يعانونها. وهذه الآفة، التي تبدأ غالباً في سنوات الطفولة الأولى، لا تقتصر على تكرار الأصوات أو تعثر اللسان، بل تمتد إلى صراع داخلي بين الرغبة في الكلام والخوف من فقدان السيطرة على الكلمة.
وعلى رغم التقدم العلمي الكبير في مجالات علم الأعصاب واللغة والنفس، لا يزال الغموض يكتنف الأسباب الدقيقة للتأتأة، التي تجمع بين العوامل الوراثية والبيولوجية والنفسية والبيئية.
ويصادف اليوم العالمي للتأتأة الـ22 من أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام، ويهدف إلى زيادة الوعي بهذه الآفة ويشكل فرصة لتسليط الضوء على تجارب من يعانيها، وتشجيع المجتمع على تفهم معاناتهم بدلاً من وصمهم، ويدعو إلى تعزيز الدعم النفسي واللغوي لهم وإبراز أهمية العلاج المبكر.
ضمن هذا الملف، نحاول من خلال 10 أسئلة أساس أن نفكك هذه الظاهرة ونقترب من فهم طبيعتها وأسبابها، وتأثيرها وسبل علاجها، مستندين إلى ما توصلت إليه أحدث الدراسات العلمية والتجارب العلاجية الحديثة، في محاولة لإلقاء الضوء على طريق الطلاقة الذي يسعى إليه ملايين الأشخاص حول العالم.
1- ماذا عن التأتأة؟
آفة التأتأة هي اضطراب في طلاقة الكلام يتميز بتكرار الأصوات أو المقاطع أو الكلمات، أو بإطالة بعض الأصوات أو بتوقفات لا إرادية أثناء الحديث.
ويحدث هذا الاضطراب نتيجة خلل في التنسيق بين الجهاز العصبي ومراكز النطق والعضلات المسؤولة عن الكلام، مما يجعل عملية إنتاج الأصوات وتسلسلها الطبيعي صعبة في بعض الأحيان.
ولا تعد التأتأة مجرد مشكلة نطقية فحسب، بل تمتد لتؤثر في الحال النفسية للمصاب، إذ قد تسبب له توتراً وقلقاً اجتماعياً وقد تحد من قدرته على التواصل.
2- ما الأسباب الرئيسة التي تؤدي إلى ظهورها؟
تنتج التأتأة عن مجموعة من العوامل المتداخلة، ولا يمكن عادة إرجاعها إلى سبب واحد محدد، بل هي مزيج من أسباب عصبية، ونفسية، وبيئية، من أبرزها العوامل العصبية إذ يعتقد أن التأتأة ترتبط باختلال في الاتصال العصبي بين مراكز الكلام في الدماغ، وبخاصة في الفص الجبهي الأيسر المسؤول عن التخطيط اللغوي والحركة اللفظية.
كما أنه في مرحلة تعلم اللغة عند الأطفال، قد يتطور الكلام بسرعة أكبر من قدرة الدماغ على تنظيم الأصوات والمقاطع، مما يؤدي إلى تأتأة نمائية موقتة قد تزول مع الوقت أو تستمر إذا لم تعالج.
ويضاف إلى ما سبق القلق، والخوف من التحدث أمام الآخرين، والضغوط النفسية أو التجارب الصادمة التي يمكن أن تفاقم التأتأة أو تثيرها موقتاً، وبخاصة عند الأشخاص الذين لديهم استعداد عصبي أو وراثي لها.
3- في أية مرحلة عمرية تبدأ التأتأة عادة في الظهور؟
تبدأ التأتأة عادة في الظهور بين عمر سنتين وخمس سنوات، وهي المرحلة التي يتطور فيها الكلام واللغة بسرعة لدى الطفل.
خلال هذه الفترة، يحاول الطفل تكوين جمل أطول وأكثر تعقيداً، وقد يتعثر موقتاً في النطق أو ترتيب الكلمات، وهو ما يُعرف باسم التأتأة النمائية. وفي معظم الحالات، تختفي التأتأة تدريجاً مع النمو واكتساب المهارات اللغوية، لكن لدى نحو 26 في المئة من الأطفال، قد تستمر الحال وتتحول إلى تأتأة دائمة تحتاج إلى متابعة وعلاج، وفق دراسة أجرتها جامعة إلينوي في أميركا.
وتشير الدراسات إلى أن التأتأة أكثر شيوعاً عند الذكور مقارنة بالإناث، كما أن احتمال استمرارها إلى سن المراهقة أو البلوغ أعلى عند الذكور.
دراسة أجريت في ألمانيا بهدف تحليل بيانات التأمين الصحي الوطني لعام 2017 وتحديد مدى انتشار التأتأة وغيرها من اضطرابات النطق بين الأطفال والبالغين، وشملت العينة أكثر من 70 ألف شخص يعانون اضطرابات في الطلاقة والكلام، أظهرت أن عدد الذكور المصابين بالتأتأة بلغ 21.045، في حين بلغ عدد الإناث 6.932 فحسب.
4- ما دور الجينات في انتقال التأتأة وراثياً؟
تلعب الجينات دوراً مهماً في انتقال التأتأة وراثياً بين أفراد العائلة، إذ يشير عدد من الدراسات الحديثة إلى أن العوامل الجينية تشكل أحد أبرز أسباب القابلية للإصابة بهذا الاضطراب، إلى جانب العوامل العصبية والبيئية.
وأظهرت الأبحاث أن نحو 60 إلى 70 في المئة من الأشخاص الذين يعانون التأتأة لديهم قريب من الدرجة الأولى أو الثانية يعاني الأعراض نفسها.
لكن يؤكد العلماء أن الوراثة لا تحدد وحدها انتقال هذه الآفة، لكنها تزيد من احتمالية الإصابة وتفسر وجود عائلات تنتشر فيها التأتأة عبر الأجيال.
5 - ماذا عن العلاجات المتاحة حالياً للتأتأة؟
العلاجات المتاحة حالياً للتأتأة تتنوع بين أساليب سلوكية ونطقية وطبية وتقنية، وتختار بحسب عمر المريض وشدة الأعراض، وسببها العصبي أو النفسي., الهدف الأساس من العلاج ليس دائماً "إزالة التأتأة تماماً"، بل تحسين الطلاقة والثقة بالنفس وتقليل القلق أثناء الكلام.
وتتنوع طرق العلاج الحديثة والمعتمدة بين علاج النطق، الذي يعد العلاج الأساس والأكثر فاعلية في معظم الحالات، وفيه يعمل متخصص النطق على تدريب المريض على إبطاء سرعة الكلام لتقليل الضغط العصبي أثناء النطق، والتنفس الصحيح أثناء الحديث لتحقيق إيقاع طبيعي للجمل.
ويضاف إلى ما سبق العلاج النفسي والسلوكي، الذي يركز على الجوانب العاطفية والاجتماعية للتأتأة، مثل القلق والخوف من المواقف الاجتماعية وفقدان الثقة.
فيما لا يوجد دواء خاص لعلاج التأتأة حتى الآن، لكن بعض الأدوية تستخدم لتخفيف القلق أو تنظيم النشاط العصبي لدى بعض المرضى، منها أدوية تعمل على تنظيم الدوبامين في الدماغ.
ويبقى أخيراً الدعم الأسري والتربوي الذي يعد جزءاً أساساً من العلاج، وبخاصة للأطفال، إذ ينصح الأهل والمعلمون بعدم مقاطعة الطفل أثناء كلامه، ومنحه الوقت الكافي للتعبير وتجنب تصحيح كلامه أمام الآخرين أو إظهار القلق.
ووفق الجمعية الأميركية للسمع والنطق، فإن الدمج بين العلاج النطقي والسلوكي يعد الأكثر فاعلية، ويحقق تحسناً ملحوظاً لدى أكثر من 70 في المئة من المرضى خلال أشهر من الالتزام بالعلاج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
6- هل يمكن الشفاء منها تماماً؟
نعم، يمكن الشفاء من التأتأة جزئياً أو كلياً، لكن ذلك يعتمد على العمر ونوع التأتأة وسببها، والتدخل العلاجي المبكر.
وتشير الأبحاث إلى أن نحو 75 في المئة من الأطفال الذين تبدأ لديهم التأتأة بين سن سنتين وخمس سنوات يتعافون تلقائياً مع النمو أو بعد الخضوع لجلسات علاج نطق بسيطة.
ويعود ذلك إلى مرونة الدماغ في الطفولة وقدرته على إعادة تنظيم مراكز النطق، إضافة إلى التطور الطبيعي في اللغة والثقة بالنفس.
أما عند المراهقين والبالغين يمكن التحسن لكن نادراً ما تختفي كلياً التأتأة، فخلال هذه المرحلة،تصبح التأتأة أكثر استقراراً لأنها ترتبط بأنماط عصبية وسلوكية ترسخت عبر الزمن.
وعلى رغم ذلك، يمكن عبر العلاج السلوكي والنطقي المنتظم أن يحقق الشخص تحسناً ملحوظاً في الطلاقة والثقة بالنفس، بحيث تقل نوبات التأتأة إلى الحد الأدنى.
7 - ما أبرز التحديات التي يواجهها المصابون بالتأتأة؟
يواجه الأشخاص المصابون بالتأتأة مجموعة من التحديات المتشابكة، التي تشمل الجوانب النفسية والاجتماعية والتعليمية والمهنية. وهذه التحديات لا ترتبط فقط بصعوبة النطق، بل تمتد لتؤثر في الثقة بالنفس والعلاقات ونظرة المجتمع إليهم.
وتشمل التحديثات النفسية والعاطفية القلق والخوف من التحدث أمام الآخرين، وبخاصة ضمن المواقف الرسمية أو العامة، وانخفاض تقدير الذات نتيجة التجارب السلبية أو السخرية المتكررة، وكلك الإحساس بالإحراج أو العزلة، مما يدفع بعض إلى تجنب المحادثات أو الانسحاب الاجتماعي.
أيضاً تبرز التحديات الاجتماعية والتواصلية التي يعاني المصابون معها من سوء الفهم من الآخرين، الذين يظنون أن المتأتئ متردد أو غير واثق من نفسه، والتمييز أو التنمر اللفظي في المدرسة أو مكان العمل، مما يعني حكماً صعوبة بناء العلاقات أو المشاركة في النقاشات الجماعية نتيجة القلق من المواقف الكلامية.
ويضاف إلى ما سبق التحديات الأكاديمية والتعليمية، إذ قد يتجنب الطفل بسبب التأتأة المشاركة الشفوية أو قراءة النصوص بصوت عالٍ، ويواجه بعض نقصاً في الدعم المدرسي أو سوء تقدير لقدراتهم بسبب الحكم على الأداء اللفظي لا الفكري، وهو ما سيرافقه في مراحل الدراسة المتقدمة وصولاً إلى العمل، وبخاصة في الوظائف التي تتطلب تواصلاً شفهياً مستمراً.
8- ماذا عن الدور الذي يلعبه العلاج النفسي في مساعدة المصابين بالتأتأة؟
يلعب العلاج النفسي دوراً أساساً ومتكاملاً في مساعدة المصابين بالتأتأة، لأنه لا يركز على الكلام فحسب، بل على المشاعر والتجارب الداخلية التي ترافق الاضطراب، مثل الخوف والقلق والشعور بالحرج أو فقدان السيطرة أثناء التحدث.
وبينما يعمل متخصص النطق على تحسين الطلاقة اللفظية، يهتم المتخصص النفسي بـ"تحرير المريض" من الخوف من الكلام ذاته، وهو ما يعد خطوة حاسمة في العلاج.
9- هل للتكنولوجيا الحديثة مثل التطبيقات أو الذكاء الاصطناعي دور في علاج التأتأة؟
للتكنولوجيا الحديثة وبخاصة التطبيقات الرقمية وتقنيات الذكاء الاصطناعي دور متزايد وواعد في تشخيص وعلاج التأتأة، إذ أصبحت تستخدم كوسائل مساعدة مكملة للعلاج التقليدي داخل العيادات، وتقدم دعماً فردياً يمكن الوصول إليه بسهولة من أي مكان.
فقد طورت شركات وأبحاث جامعية أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على تحليل نمط النطق وسرعة الكلام وتكرار المقاطع، لتحديد مدى شدة التأتأة. وهذه الأنظمة تستخدم خوارزميات تعلم الآلة (Machine Learning) للتعرف على أنماط الصوت الفريدة لكل شخص، مما يسمح بتقدير تقدم الحالة خلال العلاج.
ومن أبرز التطبيقات البحثية في هذا المجال مشروع طورته جامعة كامبريدج عام 2022، إذ استخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل تسجيلات صوتية لأشخاص متأتئين بنسبة دقة تجاوزت 90 في المئة في التمييز بين النطق الطبيعي والمتأتئ.
وظهرت تطبيقات هاتفية كثيرة لمساعدة المتأتئين على التدرب ذاتياً وتحسين طلاقتهم.
وأخيراً بدأ بعض الباحثين في تطوير روبوتات مدربة للنطق، قادرة على التفاعل بالصوت مع المتأتئ في بيئة غير حكمية، مما يساعده على اكتساب الطلاقة تدريجاً من دون خوف من التقييم الاجتماعي.
10- مَن هم المشاهير الذين عانوا مشكلة التأتأة؟
عند البحث عن المشاهير الذين عانوا هذه الآفة، نجد قائمة كبيرة من الأسماء تشمل فنانين وممثلين وحتى قيادات دول، فيما نجحت غالبيتهم في تخطي هذه المشكلة خلال الطفولة ومراحل مبكرة من العمر.
ومن بين هذه الأسماء الممثل الأميركي الشهير صامويل أل. جاكسون، الذي تحدث علناً عن معاناته التأتأة خلال طفولته، وقال إن التمثيل والقراءة بصوت عالٍ ساعداه في السيطرة عليها.
أيضاً الممثلة البريطانية يميلي بلنت التي عانت تأتأة شديدة في صغرها، وتغلبت عليها عندما بدأت بالتمثيل وتقمص الشخصيات، إذ قالت إن تغيير الصوت والنبرة خفف من التوتر الداخلي.
الممثل الأميركي بروس ويليس كشف بدوره أنه عانى تأتأة قوية خلال طفولته، ولم تختفِ إلا بعد مشاركته في المسرح المدرسي، حيث ساعده الأداء العلني في بناء ثقته بنفسه.
كذلك تكشف تقارير عدة أن ملك بريطانيا السابق جورج السادس خاض رحلة علاج طويلة لتجاوز التأتأة بمساعدة متخصص نطق، وأصبح رمزاً للإرادة والقيادة على رغم الصعوبات.