ملخص
ما يجعل الفيلم استثنائياً هو قلب وظيفة المراقبة نفسها، فكاميرات الشرطة عادة ما تُستخدم لتبرير سلوك السلطة أو لتجريم الضحايا، لكن المخرجة غاندبهير استخدمتها هذه المرة لتكشف بوضوح حجم التواطؤ المؤسسي والفشل في التدخل قبل وقوع الكارثة.
في عالم مشبع بالضجيج والمعلومات المتدفقة، تبقى الأفلام الوثائقية واحدة من أكثر الأدوات قدرة على فرز الحقيقة من الضوضاء، وعلى منحنا فرصة نادرة لرؤية الوقائع من الداخل، لا من خلال العناوين أو السرد المنمّق، فالوثائقي ليس مجرد وسيلة للسرد البصري، بل مساحة للتحقيق وتفكيك العلاقات المعقدة بين الأفراد والمجتمع والسلطة.
تكمن قوته الحقيقية في قدرته على إزاحة المسافة بين الجمهور والحدث، ليجعل المشاهد شاهداً لا مجرد متفرّج، مشاركاً في اكتشاف الحقيقة، لا مستهلكاً لها، حين توضع الكاميرا في المكان الصحيح تصبح عدستها أقرب إلى "محضر رسمي" أو "شهادة" لا يمكن إنكارها، خصوصاً عندما تتعامل مع قضايا حساسة تمس العدالة والمجتمع.
من هذا المنطلق، يكتسب فيلم "الجار المثالي" The Perfect Neighbour أهميته، فيحوّل الكاميرا من وسيلة مراقبة إلى وثيقة اتهام حقيقية، ويقدم سرداً صادماً لقصة عنصرية قاسية وقعت في الولايات المتحدة عام 2023، ويكشف كيف يمكن أن يتآمر الخوف والتمييز والقوانين غير العادلة لتقويض شعور الناس بالأمان حتى داخل منازلهم.
وبينما كثير من أفلام الجريمة تتلاعب بالمونتاج والموسيقى والتعليق الصوتي لبناء التشويق، يذهب هذا الفيلم في الاتجاه المعاكس تماماً: يعرّي الحدث من الزخرفة، ويضعنا وجهاً لوجه أمام حقيقة عارية تمسّ بنية المجتمع الأميركي ذاتها: الخوف والعنصرية وتراخي المؤسسات.
هكذا يتحول الوثائقي من مجرد عمل فني إلى سجل واقعي حيّ، يعيد مساءلة القانون والسلطة والمجتمع، ومن خلال قصة جارة واحدة وطلقة واحدة يفتح الباب أمام أسئلة أكبر بكثير من حدود الحي الذي وقعت فيه الجريمة.
إنه ليس مجرد أداة للسرد البصري، بل مساحة للتحقيق والتفكيك والمساءلة، ولعل قوة الوثائقي تكمن في أنه لا يكتفي برواية القصة، بل يضع المشاهد في قلب الحدث، شاهداً لا متلقياً فقط.
جريمة أمام الكاميرا
في يونيو (حزيران) 2023، كانت أجيكي "أي جي" أوينز، أم لأربعة أطفال، تتوجه إلى باب جارتها في مدينة أوكالا بولاية فلوريدا، بعد خلاف بسيط حول جهاز لوحي، بعد دقائق كانت ممددة على الأرض مصابة برصاصة قاتلة أطلقت من خلف باب مغلق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يوثق فيلم "الجار المثالي"، من إخراج غيتا غاندبهير، هذه الحادثة المروعة وما سبقها من توتر مزمن بين عائلة أوينز وجارتهم سوزان لورينتز، وعلى عكس أغلب أفلام الجريمة الحقيقية لا يعتمد الوثائقي على روايات أو تعليقات أو مقابلات، بل يبني سرده على كاميرات الشرطة وكاميرات الأبواب ومكالمات الطوارئ.
لا أحد يروي القصة، اللقطات تتحدث وحدها، وتكشف كيف يمكن لعزلة شخص واحد وخوفه الممزوج بالعنصرية أن يتحولا إلى مأساة.
وجه آخر للعنصرية
لورينتز امرأة بيضاء في الستين من عمرها، كانت تُقدم نفسها على أنها "الجار المثالي": هادئة، مسالمة، لا تزعج أحداً، لكن كاميرات المراقبة تسرد حكاية أخرى، على مدى عام تقريباً كانت تشتكي باستمرار من أصوات الأطفال السود الذين يلعبون أمام منزلها، وترسل بلاغات متكررة للشرطة.
ومع مرور الوقت يرسم الوثائقي صورة واضحة لامرأة معزولة عن محيطها، تستخدم اللون والامتياز كسلاح دفاعي، في الثاني من يونيو 2023، حين وقفت أوينز أمام بابها، لم تفتح لورينتز، بل أطلقت النار من خلاله لترديها قتيلة أمام طفلها.
قلب وظيفة المراقبة
ما يجعل الفيلم استثنائياً هو قلب وظيفة المراقبة نفسها، فكاميرات الشرطة عادة ما تُستخدم لتبرير سلوك السلطة أو لتجريم الضحايا، لكن المخرجة غاندبهير استخدمتها هذه المرة لتكشف بوضوح حجم التواطؤ المؤسسي والفشل في التدخل قبل وقوع الكارثة.
يظهر الضباط مراراً وهم يتعاملون مع شكاوى لورينتز وكأنها غير خطرة، بل بقدر كبير من التساهل، وحين تُعتقل في النهاية بعد قتلها أوينز، يتحدثون معها بلطف وهدوء، هذا المشهد وحده يكشف مفارقة كبيرة: تسامح مع امرأة بيضاء أطلقت النار، مقابل ما يحدث عادة مع متهمين سود في ظروف أقل خطورة.
يعيد الفيلم تسليط الضوء على قانون "الدفاع عن النفس في مكانك" (Stand Your Ground) المثير للجدل في فلوريدا، الذي يسمح باستخدام القوة المميتة في حال الشعور بالخطر، هذا القانون تحديداً وفّر غطاءً قانونياً موقتاً للورينتز التي بقيت حرة خمسة أيام بعد الجريمة.
القضية أعادت إلى الأذهان مقتل ترايفون مارتن عام 2012، وهو مراهق أسود قُتل في فلوريدا أيضاً، كلتا الحادثتين تكشف التداخل الخطر بين القوانين المتساهلة والتحيّز العنصري، إذ تشير الدراسات إلى أن جرائم القتل التي يكون فيها الجاني أبيض والضحية سوداء تُعتبر "مبررة" بمعدل أكبر بخمس مرات.
بعيداً من لحظة إطلاق النار نفسها، يرسم الفيلم ببطء لوحة لمجتمع كان يوماً مترابطاً، قبل أن تزرع فيه العنصرية الخوف والتوجس، نرى الأطفال يختفون من الشوارع، والآباء يتحدثون عن فقدانهم شعور الأمان، عائلة واحدة خائفة وجارة واحدة مسلحة كافيتان لزعزعة توازن حيّ بأكمله.
بنية العمل
يتميز الفيلم ببنيته الوثائقية الصارمة: لا تعليق صوتي، ولا حبكة درامية تقليدية، ولا محاولة لتجميل الواقع، إنه يضع المشاهد في مقعد الشاهد، ويترك له أن يربط الأحداث بنفسه، هذه المسافة بين السرد والمتلقي تعزز من قوة الرسالة: هذه ليست قصة معزولة، بل جزء من واقع أميركي أوسع، حيث يمكن للعنصرية والسلاح والقوانين المنحازة أن تحوّل الجيران إلى أعداء.
في قلب هذه القصة تقف باميلا دياس، والدة أجيكي أوينز، حضورها الهادئ العميق يعطي الفيلم بعده الإنساني الأوضح، تقول بصوت مكسور، "لو كانت الأدوار معكوسة لكان تم القبض على الفور، ابنتي قُتلت من خلال باب مغلق، لم تدخل المنزل حتى".
بعد الجريمة أسست باميلا صندوقاً لدعم العائلات المتضررة من العنف العنصري، لتمنح المأساة بعداً يتجاوز الألم الشخصي.
"الجار المثالي" ليس مجرد فيلم وثائقي آخر عن جريمة، إنه وثيقة اتهام حقيقية ضد عنصرية بنيوية وتحيّز قانوني وفشل مؤسساتي، يبيّن بوضوح كيف يمكن لطلقة واحدة أن تمزّق نسيج مجتمع بأكمله، ويضع أميركا أمام مرآة لا يمكنها أن تصرف النظر عنها.
تقول غاندبهير "لا توجد نهاية سعيدة هنا"، لكنها تقدم شيئاً أهم من النهاية السعيدة: الحقيقة.