ملخص
منذ بدايات التاريخ، لم تكن الحروب وحدها ما أسقط العروش، فقد رافقتها جوائح صامتة غيرت وجه البشرية... من طاعون أثينا إلى "كوفيد-19" تاريخ من الأوبئة فتكت بسكان الكوكب.
كائن لا يرى بالعين المجردة لكنه قادر أن يوقف الكوكب بأسره على رؤوس أصابعه حابساً أنفاسه مسكوناً بالخوف؟ إنها الجوائح المرعبة التي تقبض الأرواح وتخلف ملايين المرضى وتسقط اقتصادات الدول وتغير مجرى الحياة الاجتماعية برمتها.
لم يمضٍ وقت لننسى جائحة "كوفيد-19" التي عايشناها وشهدنا سيطرتها على الكوكب. فيروس ميكروسكوبي حبس المليارات في بيوتهم وغير طبيعة حياتنا وعاداتنا وأعمالنا ونظرتنا إلى الحياة برمتها، لكنه ليس الوحيد الذي فتك بالناس، فعبر قرون من الزمن، لم تكن الحروب وحدها ما هزت البشرية وقضمت المجتمع، فالجوائح الخفية والفتاكة التي جاءت بلا صوت، خلفت صرخات لا تنسى، وكانت في كثير من الأحيان أشرس من الحروب والأزمات.
ففي كل مرحلة من مراحل التاريخ، كانت البشرية تظن أنها بلغت من القوة ما يجعلها بمنأى عن الانهيار، فتأتيها بلا مقدمات جائحة صامتة، تهدم هذا الوهم حجراً فوق حجر، وتشكل كل جائحة محطات فارقة تعيد صياغة علاقة الإنسان بالحياة وبالخوف وبالموت، فما إن تطرق باباً حتى يتبدل العالم الذي نعرفه، وتجتاحنا الغربة فجأة، فيصبح العناق مخاطرة والاقتراب تهديداً، وحتى الهواء نفسه يصبح محل شك.
هذه الجوائح، إضافة إلى أنها حدث صحي صامت وصاخب في الوقت نفسه، تشكل مرآة كبرى تكشف عن كل ما حاولنا طمسه ربما من هشاشة أنظمتنا، وعجزنا أمام اللامرئي الضئيل، وتسقط أقنعة المجتمعات لتصوغ أقنعة جديدة.
الطاعون والكوليرا والإنفلونزا الإسبانية وسواها أمراض غيرت مسار التاريخ، فسرقت ملايين الأرواح، وأعادت تعريف معنى الخطر والموت.
بين مقصلة الوباء والجائحة
يخلط الناس بين الوباء Epidemic والجائحة Pandemic، وعلى رغم أن الاثنين يفتكان بالبشر والمجتمعات، لكن الوباء يشبه ناراً تشتعل في بيت واحد، أما الجائحة فهي حين تنتقل تلك النار وتحرق الحي بأكمله وربما المدينة أو الكوكب، وخير مثال حديث هو الفرق بين "إيبولا" و"كوفيد-19". فالوباء هو تفشي مرض معدٍ في منطقة جغرافية محددة أو ضمن مجتمع معين خلال فترة زمنية قصيرة، ويكون عدد الإصابات أعلى من المتوقع في الظروف العادية مثل تفشي فيروس "إيبولا" في غرب أفريقيا عام 2014 الذي يعتبر وباء لأنه كان محصوراً نسبياً على الصعيد الجغرافي.
أما الجائحة، فهي وباء أيضاً لكنه ينتشر على نطاق جغرافي واسع جداً مثل قارات متعددة أو العالم كله، ويصيب عدداً هائلاً من البشر، وكي تسمى جائحة لا بد لها من الانتشار العالمي، والتأثير الكبير في المجتمعات من ناحية الصحة والاقتصاد والحياة اليومية مثل جائحة "كوفيد-19" التي بدأت أواخر عام 2019 وانتشرت في معظم دول العالم بحلول عام 2020. وهكذا فليس كل وباء يتحول إلى جائحة، لكن كل جائحة تبدأ أولاً كوباء قبل أن يتوسع نطاقها، لذا فإن المنظمة العالمية للصحة (WHO) لا تعلن الجائحة بسهولة، فهي تنتظر الوباء ليحقق الانتشار العالمي وخروج المرض عن السيطرة في دول عدة.
طواعين متعددة
ورافقت الأوبئة الإنسان منذ أن خطا على الأرض وشكل المجتمعات، فكانت الزائر المتسلل الأكثر أذية وجعلت البشرية تنزف بصمت من الداخل من دون جرح، فمنذ أن قرر الإنسان أن يستقر ويشيد الحضارات، لم يرث الأرض وحده، بل ورث معها رفقة دائمة هي الأمراض. ولم تكن الأوبئة خلال العصور القديمة مجرد عوارض صحية عابرة، إذ كانت أحداثاً كبرى تسقط العروش وتعيد تشكيل الفكر البشري من جديد.
وأول ما تسجله الذاكرة التاريخية هو طاعون أثينا (430 ق م) الذي ضرب المدينة وسط حربها مع إسبرطة، فأودى بحياة ما يقارب ثلث سكانها، ولم يفهم الأثينيون حينها من أين أتى هذا الموت، لكن المؤرخ ثيوسيديدس وثق الرعب عبر شهادته حين كتب أن الناس كانوا يموتون في الشوارع، وأن المرض كان أسرع من العدالة، وأقوى من الآلهة!
ثم جاءت أنواع الطواعين، وأولها كان الطاعون الأنطوني عام (165–180م) الذي فتت أوصال الإمبراطورية الرومانية وأرهق جيوشها العائدة من الشرق، ويعتقد الآن بأنه كان الجدري، بحسب تحاليل طبية حديثة لمخطوطات الطبيب غالينوس، كما ذكر باحثون ضمن دراسة في جامعة أوكسفورد ونشرت في "مجلة الأمراض المعدية" (Journal of Infectious Diseases).
ولم يكَد الجسد الروماني يتعافى حتى أصيب من جديد بـ"طاعون جستنيان" عام (541م) الذي اجتاح القسطنطينية وانتشر عبر البحر الأبيض المتوسط، فقتل أكثر من 25 مليون شخص، ويرجح أنه أول ظهور للطاعون "الدملي"، بحسب منظمة الصحة العالمية. وما سرع في انتشار الأوبئة حلم البشر بالاتصال والتجارة والنقل والانفتاح على العوالم الأخرى الذي تحول لاحقاً إلى كابوس.
واعتبر باحثون في "مركز السيطرة على الأمراض الأميركية CDC" ضمن دراسة بعنوان "تاريخ الأوبئة" (History of Pandemics) أن كل جائحة قديمة كبرى كانت مرتبطة بصورة أو بأخرى بخطوط النقل النشطة آنذاك. وكان أشهر طرق التجارة حينها طريق الحرير الذي ربط الصين ببلاد فارس وروما، والسفن التجارية التي كانت تنقل الحرير والتوابل وتحتل عنابرها الجرذان والبراغيث والفيروسات، كأن ما يبنيه الإنسان في قرون قد تهدمه جرثومة وصلت عن طريق الخطأ في أيام.
ولجأ إنسان ذلك الزمن إلى طبه المعروف حينها الذي مارس العزل البدائي ومحاصرة المرضى في أطراف المدن أو كانوا يتركون للموت وحدهم. وقامت الطقوس الدينية بدور كبير، إذ كانت الأوبئة تفسر كغضب من الآلهة، فترتفع الأناشيد وتقدم القرابين وصولاً إلى جلد الناس أنفسهم طلباً للرحمة.
الموت العظيم
وفي القرن الـ14 حل الكابوس الأكبر، الطاعون الأسود، أو كما سماه بعضهم "الموت العظيم"، فاجتاح أوروبا بين عامي 1347 و1351، ولم يكن مجرد جائحة، بل كان نقطة فاصلة في التاريخ الإنساني.
بدأ أولاً في آسيا الوسطى، وسلك طريقه عبر قوافل التجارة إلى البحر الأسود، ومن هناك على متن السفن التجارية إلى إيطاليا، ثم انفجر كالنار في هشيم أوروبا المزدحمة والجاهلة بطبيعة العدوى. وبحسب المؤرخ فيليب زيغلر في كتابه "الموت الأسود" (The Black Death)، فإن الطاعون قضى على ما لا يقل عن ثلث سكان أوروبا، أي ما يقارب 25 إلى 50 مليون إنسان خلال أعوام قليلة، ولم يفرق بين غني وفقير، فكان الموت حينها عادلاً بطريقة قاسية!
وكان ينتقل عبر براغيث الجرذان، وكانت الحمى المفاجئة والأورام الدموية تحت الجلد والنزيف الداخلي من أعراضه المرعبة التي تنبئ بانتهاء الحياة في غضون أيام أو ساعات.
وخلّف الطاعون الأسود زلزالاً اجتماعياً تجلى بانهيارت ثقة الناس بالمؤسسات الدينية التي عجزت عن إنقاذهم، وبدأت موجات الشك والتشكيك في السلطة الكنسية، مما مهد لاحقاً لحركات إصلاح ديني عميقة. وتحولت نظرة الإنسان إلى الحياة والموت، فظهرت في الفن لوحات تجسد الهلاك والفراغ، وبدأ العقل الأوروبي يستيقظ من سباته اللاهوتي، مؤذناً ببدايات عصر النهضة.
ومع تناقص عدد السكان بصورة هائلة، ارتفعت أجور العمال وانهار نظام الإقطاع تدريجاً وبدأت الطبقة الوسطى بالنمو، مما شكل تغيراً كبيراً في الوضع الاقتصادي وأعطى انطباعاً أنه على رغم الموت العظيم، فإن عصراً جديداً بفكر واقتصاد وثقافة جديدة ولد من رماده.
ولم يكن الطاعون الأسود مجرد فصل في التاريخ، إنما سلسلة من الفصول السوداء التي امتدت إلى قرون لاحقة، تذكر كل جيل باحتمال أن يعود الموت في أية لحظة، وإن تغير الزمن. فلقد عاد الطاعون عام 1665 ليضرب لندن بضراوة وعرف بـ"الطاعون العظيم"، وقدرت الوفيات آنذاك بأكثر من 100 ألف شخص، أي نحو ربع سكان العاصمة، فأغلقت الأحياء ووضعت علامات حمراء على أبواب المنازل المصابة، وفر الملك والطبقة الحاكمة إلى الريف، تاركين خلفهم مدينة تلتهمها العدوى، ثم دخل الطاعون إلى مرسيليا عام 1720 على متن سفينة تجارية تدعى "جراند سان أنطوان" (Grand-Saint-Antoine) آتية من الشرق، على رغم التحذيرات. ومع تجاهل السلطات للحجر الصحي لأسباب اقتصادية، انفجرت الكارثة وفقدت المدينة ما يقارب نصف سكانها في غضون أشهر.
لم يدخل المستعمر وحده
لم يكن الاستعمار مجرد احتلال بالسلاح، فلقد كان اجتياحاً شاملاً للجسد والأرض والحضارة والروح. فعندما وصلت السفن الأوروبية إلى آسيا وأفريقيا والأميركتين، لم تكن محملة بالبضائع فقط، إذ إنها حملت الجدري والحمى الصفراء والجذام كذلك، كأنما توزع الموت مجاناً على الشعوب التي كانت تحيا مطمئنة في أراضيها. ففتكت الحمى الصفراء بجنود الاستعمار في أفريقيا لكنها أبادت السكان الأصليين أكثر، وبقي الجذام وصمة يخلفها المستعمر في الأجساد ليذكرهم بأنهم "مصابون" حتى بعد أن يرحل.
وكأنه كان ينقص سكان الأميركتين الأصليين بعدما سرقت أراضيهم وهدمت حضاراتهم وتحولت ثقافاتهم إلى رماد تحت راية "الاكتشاف"، أن يُهدى إليهم الموت في ثياب جديدة على شكل مرض لم يعرفوه من قبل ولا مناعة لديهم ضده.
وحين وطئت أقدام الأوروبيين ما سموه "العالم الجديد" في أواخر القرن 15، لم يحملوا معهم النور والعلم كما زعموا، إذ حملوا الجدري، تلك الهدية القاتلة التي فتكت بما يقارب 90 في المئة من السكان الأصليين في بعض المناطق قبل أن تقتلهم البنادق، وفق ما ذكره جارد دايموند في كتابه الشهير "البنادق والجراثيم والفولاذ" (Guns, Germs, and Steel).
ولم يكن الغزو الأوروبي انتصاراً بالسلاح فقط، كان إبادة بيولوجية غير معلنة، فقامت الجراثيم بدور الفاتح الأكبر. سلاح بلا صوت واحتلال بلا معركة، ويكفي الاقتراب لتتحول الأماكن إلى مقابر. كأن المرض، في كثير من الأحيان، كان رفيقاً وفياً للاستعمار، يمهد له الأرض ويضعف الخصم. ولم يكن عرضاً جانبياً، كان جزءاً من منظومة السيطرة، حتى لو لم يعلن ذلك بصراحة.
في زمن الكوليرا
لم يكن القرن الـ20 بكل ما حمله من تطور علمي وتقني كفيلاً بأن يكف يد الوباء عن البشرية حين تمتد، فالمرض لا يراعي الحدود ولا يقف أمامه العلم ولا الأمل، وفي كل مرة يستشري يذكرنا بهشاشتنا مثله مثل الكوارث الطبيعية.
فمع بداية القرن الـ19، عندما كانت أوروبا تتغنى بثورتها الصناعية وتفاخر بقطاراتها ومصانعها وشوارعها، كانت البنية الصحية تنهار تحت ذلك الازدهار. وعام 1817 انطلقت أولى موجات الكوليرا من دلتا نهر الغانج في الهند، وعبرت آسيا إلى الشرق الأوسط ثم إلى أوروبا. ووصلت على أجنحة التجارة، تماماً كما وصل الحرير والتوابل، وكان ثمنها الباهظ أرواحاً تزهق بسرعة قاتلة، فبعد أن يصاب الشخص بالإسهال الشديد والجفاف يموت أحياناً في غضون ساعات. وكان الناس يتساقطون كأوراق الشجر من دون سابق إنذار في شوارع لندن وباريس، حتى ظن أن الموت يختبئ في الهواء، ولكن الطبيب البريطاني جون سنو أثبت بعد ملاحظات ودراسات أن الكوليرا لا تنتقل عبر الهواء الفاسد إنما عبر الماء الملوث.
واللافت أنه على رغم أن الكوليرا كانت منتشرة في المستعمرات الأوروبية منذ عقود، لم يجرِ يتعامل معها كخطر حقيقي إلا حين وصلت إلى أبواب الأوروبيين أنفسهم، مما يفتح صفحات عن قيمة الإنسان والعدالة الاجتماعية وازدواجية الحضارة.
وما بين عامي 1817 و1917، تعرض العالم إلى ست موجات كوليرا عالمية، حصدت مئات الآلاف في كل مرة. وكان المرض دائماً أقسى على الفقراء والمهمشين لأنهم لا يملكون رفاهية الهرب، ولا حتى ماء نظيفاً للشرب والاستخدام.
ختام الحرب إنفلونزا
وعام 1918 مع نهاية الحرب العالمية الأولى، سكتت أصوات المدافع، وانكفأ الجنود إلى بيوتهم بجروحهم الجسدية وجراحهم النفسية وأعصابهم المحترقة، وكان العالم يظن أنه نجا، لكن الموت كان بالمرصاد، وهذه المرة كان السلاح مختلفاً، إذ كان يكفي نفس واحد ليبدأ فصل الموت، إنها الإنفلونزا الإسبانية التي ضربت العالم بقسوة غير مسبوقة، إذ ظهرت أولى حالاتها في معسكرات الجنود، وانتشرت بسرعة جنونية حتى طاولت العالم بأسره خلال أشهر.
وكان الجنود العائدون لأوطانهم يحملون المرض معهم، كأنهم يكملون مهمة الموت التي لم تطلبها منهم الحرب. وكانت بمثابة مقصلة جماعية خفية توغلت في المدن والقرى ولم تفرق بين البشر أصحاء كانوا أو ضعفاء، إذ أصيب بها ثلث سكان الكوكب، وراح ضحيتها نحو 50 مليون إنسان في غضون عامين فقط، أي أكثر بكثير مما قتلته الحرب العالمية ذاتها. وسميت "الإنفلونزا الإسبانية" لأن الصحافة هناك كانت الوحيدة التي تحدثت عنها بحرية، بينما كانت بقية الدول لا تزال تمارس رقابة الحرب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وانهارت حينها المستشفيات والنظام الطبي بات عاجزاً وأصبح الناس يخافون من بعضهم، فأغلقت المدارس والأعمال ودور العبادة، واستخدمت الكمامات البدائية وتوقفت الجنازات فالموت كان أسرع من الدفن، تماماً كما حصل أيام كورونا.
ولأن هذه الأوبئة لا تشيخ، عادت الإنفلونزا بسلالة جديدة عام 1957 وسميت "الإنفلونزا الآسيوية"، إذ إنها ضربت الصين، وسرعان ما اجتاحت شرق آسيا ثم انتقلت إلى الولايات المتحدة وأوروبا، فكانت سريعة وقاتلة ولكن أقل ضجيجاً من أختها الإسبانية، وأودت بحياة نحو مليون شخص حول العالم. وعلى رغم التقدم الطبي، لم يكن لدى العالم الوقت الكافي لإدراك سرعة انتشارها إلا بعدما فاضت أجنحة المستشفيات بالمصابين. وبعد عقد واحد فقط، عادت إنفلونزا هونغ كونغ عام 1968، لتقتل مليون شخص آخر في موجة خاطفة. وكانت تشبه الإنفلونزا الآسيوية جينياً، لكنها جاءت في زمن العولمة الجديدة والسفر الجوي والانفتاح الثقافي، فكان انتشارها أسهل من مقاومته.
الوباء الذي كسر الصمت
لم تترك الأوبئة كوكبنا يأخذ نفساً ويتعافى حتى تعالجه بإصداراتها الجديدة، ففي مطلع الثمانينيات كان العالم يحتفل بثوراته العلمية والمجتمعات تتجه نحو مزيد من الانفتاح، فظهر مرض لم يحمل في بدايته اسماً، لكنه كان يحمل كل علامات الموت، فقد كان صامتاً وغامضاً، ينهش المناعة لا الجسد فقط، ويسقط الإنسان قطعة قطعة من دون صخب. إنه فيروس نقص المناعة البشرية (HIV) الذي يسبب مرض "الإيدز" (AIDS)، وهو إصدار جديد لا يشبه ما سبقه من أوبئة. فهو لا ينقل بالهواء ولا عبر اللمس، إنما عبر أكثر علاقات الإنسان حميمية، في الدم والولادة والجنس، مما جعله منذ اللحظة الأولى أكثر من مجرد مرض طبي، إذ شكل صدمة أخلاقية وثقافية ودينية.
و"الإيدز" لم يثِر الذعر فقط بسبب العدوى، إنما لما يحمل معه من أسئلة محرمة عن الهوية والحرية والوصمة. وجرى حينها تسييس المرض وتجريم المصابين به اجتماعاً قبل أن يعاملوا كمرضى، مما جعل أيضاً الاستجابة الطبية والسياسية تتأخر لأعوام بسبب المواقف الأخلاقية والتهميش المجتمعي. ورأى الكاتب راندي شيلتس أن أحد أسباب توسع الوباء هو أن كثراً فضلوا الصمت حتى صار المرض أكبر من أن يُحتوى.
وشكل "الإيدز" منعطفاً في تاريخ الطب الحديث، فظهرت مفاهيم جديدة للطب الوقائي ولأهمية التوعية الجنسية وحقوق المرضى، إضافة إلى ضرورة محاربة "وصمة المرض" قبل المرض نفسه. وبعد عقود من الأبحاث طورت العلاجات المضادة للفيروسات التي حولت "الإيدز" من حكم بالإعدام إلى مرض مزمن قابل للإدارة، لكن من دون أن يجد العالم علاجاً نهائياً له حتى اليوم. وبحسب إحصاءات برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) "UNAIDS" لعام 2023 يوجد أكثر من 85 مليون إصابة حول العالم منذ ظهور الفيروس، ونحو 40 مليون حالة وفاة، إضافة إلى ما لا تحصيه الأرقام وهو عدد الذين ماتوا خوفاً أو عزلة أو خجلاً، أو قهراً.
اليد التي صالحت العالم مع "الإيدز"
لم يكن مرض "الإيدز" مجرد وباء طبي، بل كان لعنة اجتماعية، يهمس بها أكثر مما يتحدث عنها، فكان المصابون به منبوذين في صمت، يعاملون وكأنهم خطر متنقل، يخشى لمسهم، أو حتى الاقتراب منهم، ثم جاءت الليدي ديانا بكل ألقها. لم تكن طبيبة ولا ناشطة صحية، كانت إنسانة ترى الألم قبل أن ترى المرض، فزارت عام 1987 مستشفى في لندن مخصصاً لمرضى "الإيدز"، وبين عدسات الإعلام المرتابة وعيون العالم المذعورة، جلست إلى جانب أحد المرضى ومدت يدها لتصافحه بلا قفازات.
كان ذلك المشهد البسيط في ذلك الزمن ثورة صامتة، إذ كان الناس حينها يعتقدون بأن "الإيدز" ينقل باللمس أو المصافحة، وكانت ديانا بيدها العارية تنشر وعياً اجتماعياً إنسانياً راقياً، وواصلت عملها الإنساني في التوعية حول "الإيدز" حتى وفاتها، فزارت مستشفيات وتحدثت علناً عن المرض وقدمت الدعم النفسي والعلني إلى المصابين، فكسرت بذلك جدار الوصمة الذي كان أكثر عرضاً من جدار المرض ذاته.
أوبئة وجوائح الألفية
بعض الأوبئة والجوائح نزل مع الزمن عن رفوف تسميته ليصبح مرضاً عادياً يعالج بالأدوية ولا يشكل مصدر قلق ورعب كما كان عند ظهوره الأول، ولكن لم يتوقف شبح الوباء عن الظهور على رغم تقدم العلم ووجود التطعيمات المفيدة منها والتجارية! فما إن فتحت البشرية الباب للألفية الجديدة، حتى دخلت معها أوبئة صغيرة لا ترى، لكنها تقلق وترعب وتربك.
وظهر عام 2003 فيروس "سارس "SARS، تلته عام 2005 إنفلونزا الطيور، وعام 2009 إنفلونزا الخنازير "H1N1" التي صنفت جائحة بعدما أصابت أكثر من 214 دولة خلال أقل من عام، كما عادت "إيبولا" التي انتشرت عام 1995 لتأخذ مقعدها في العقد الأخير وترعب غرب أفريقيا من جديد بين عامي 2014 و2016، إذ تجاوزت نسبة الوفاة في بعض المناطق 50 في المئة، إلى أن وصلنا إلى "مرحلة الوحش"، "كوفيد-19" الذي اجتاح العالم أواخر عام 2019، وأعلن جائحة في مارس (آذار) عام 2020، وهو الفيروس الذي غير وجه الكوكب، وحمل في طياته كثيراً من الإشاعات والحقائق والاتهامات عن أصله ومنشأه، وإذا كان مفتعلاً أو طبيعياً، المهم أنه أقفل الأبواب على الناس، وأغلق الحدود وجمد الاقتصاد.
وبعدما خف وهج كورونا ظهر وباء جلدي عام 2022 وهو جدري القرود الذي أعاد للأذهان مخاوف الأوبئة الجلدية والعدوى السريعة. وعادت الكوليرا أخيراً للتفشي في اليمن وهايتي وأماكن أخرى.
رئة الصين ضاقت بالـ"سارس"
من الصين في مدينة قوانغدونغ بدأ عام 2002 كضيق في التنفس، لكنه لم يكن مرضاً عادياً، كان غامضاً يشبه الزكام لكنه لا يتوقف ويصيب الرئتين فيخنق صاحبه في أيام. إنه المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة "سارس"، وكان أول فيروس تاجي حديث يعلن عن نفسه بهذه الطريقة المفاجئة.
انتشر "سارس" بسرعة عبر المسافرين، من الصين إلى هونغ كونغ، ثم إلى كندا وسنغافورة وأكثر من 30 دولة. وفي غضون أشهر، أصاب أكثر من 8000 شخص، وقضى على ما يقارب 800، لكن النسبة كانت مخيفة بمعدل 10 في المئة من المصابين ماتوا.
وفجّر فيروس "سارس" أول اختبار حقيقي لسرعة استجابة العالم في زمن العولمة، فتم احتواء الوباء بنهاية عام 2003، لكنه ترك خلفه ظلاً طويلاً من القلق، فالكمامات بدأت تظهر في شوارع آسيا، لا كوقاية فقط إنما كعلامة على خوف لم يعهده الناس على هذا النحو من قبل، وأدرك الناس أن الطائرات التي تنقل المسافرين تترك متسعاً كبيراً للفيروسات.
من الزريبة إلى المطار
خلال ربيع عام 2009 لم يكن العالم ينتظر شيئاً سوى مزيد من الأزمات المالية التي بدأت عام 2008 مزلزلة العالم، لكن الفيروس الجديد قرر أن يطل من مكان غير متوقع، من مزارع الخنازير في المكسيك، فظهرت سلالة جديدة من فيروس الإنفلونزا "H1N1"، وهي مزيج من جينات بشرية وخنازير وطيور، كأن الفيروسات اجتمعت لعقد مؤتمر، وخرجت منه بسلالة لا تشبه شيئاً عرفناه من قبل.
بسرعة انتقل المرض من الحيوان إلى الإنسان، ثم انتشر خلال أيام عبر المطارات، ليتحول إلى جائحة عالمية أعلنتها منظمة الصحة العالمية في يونيو (حزيران) عام 2009. وبسرعة البرق، أصاب نحو 1.4 مليار شخص، وتسبب في وفاة نحو 575 ألف إنسان، وفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية.
وعلى رغم اتساعه، لم يحدث هذا الوباء الذعر الذي أحدثته أوبئة أقل انتشاراً لأن العالم بدأ يتعود على الطوارئ، واليوم بات مألوفاً السماع أن من حولنا مصابين من دون أي داعٍ للذعر، كأنه خرج من سجل الأوبئة إلى الإنفلونزا العادية.
فيروس باسم النهر
في قرى منسية، تحت شمس حارقة خرج "إيبولا" من عزلته، فاكتشف الفيروس للمرة الأولى عام 1976 في زائير بجمهورية الكونغو الديمقراطية اليوم، قرب نهر "إيبولا"، وكأن الجغرافيا قررت أن تمنح الموت اسماً محلياً، لا يخيف إلا من يعرفه، لكن العالم لم يلتفت كثيراً لأن المرض أفريقي يقتل الفقراء ولا يمس المال العالمي ولا يؤثر فيه، حتى جاء الانفجار الكبير في غرب أفريقيا بين عامي 2014 و2016، حين تحول الفيروس من خبر صغير إلى صرخة صحية عالمية، فقتل أكثر من 11 ألف إنسان في غينيا وسيراليون وليبيريا.
ولم يكن المرض سهلاً، لا في انتشاره ولا في شكله، فأعراضه عبارة عن نزيف داخلي فتدهور سريع فموت مؤلم، وخوف يعدي أكثر من الفيروس نفسه. والأصعب أن الضحايا كانوا يموتون وحدهم، في عزلة صارمة بلا وداع وبلا دفن لائق. وكانت المجتمعات تجبر على الاختيار بين الحب والسلامة، وبين أن تلمس مريضك أو تنجو، كأكثر الأوبئة. ولم تأتِ المساعدات إلا بعدما وصل المرض إلى بوابات الدول "الآمنة".
"كوفيد" الذي أوقف الكوكب
من سوق في ووهان إلى كل بيت على وجه الأرض، إنه الوطواط الذي تناوله ذلك الرجل الصيني الغامض، أو ربما إشعاعات من مختبرات جرثومية أو ربما تجارب فاشلة لفيروسات ما، إنه "كوفيد-19" الذي ظهر عام 2019، إنه الحدث الكوني الذي أعاد ترتيب أولويات العالم بأسره وقلب معادلة الحياة رأساً على عقب.
وكانت له طقوسه الخاصة، فحبس الناس في بيوتهم وألبسهم الكمامات في الخارج وأغلق المطارات والأعمال والمدارس ودور العبادة. وصمت الكون كله بانتظار أن يمر بأقل أضرار ممكنة.
ولكل قصته مع هذا الزائر غير المرغوب فيه، فقد كثر أحباءهم، وتغير نوع العلاقات الاجتماعية، وصارت التعقيمات فرضاً واجباً، وبات الخبر الأوحد إحصاء عدد الضحايا يومياً. وكانت كل مرة تحتل دولة سلم أعلى الوفيات من إيطاليا إلى المكسيك إلى إسبانيا، ولم تسلم دولة في العالم من هذا الفيروس الفتاك، إذ إن الوباء انتقل من رئة إلى رئة، ومن دولة إلى قارة، كأن الأرض نفسها أصيبت بضيق تنفس.
وعلى رغم أنه لم يكن القاتل الأكبر من ناحية الأرقام، لكنه كان الأكثر تأثيراً من ناحية المدى والعمق. فلقد أصاب أكثر من 700 مليون إنسان، وتسبب في وفاة ما يزيد على 7 ملايين حول العالم، بحسب بيانات منظمة الصحة العالمية.
ومع ظهور اللقاحات بدأ المرض بالانحسار، على رغم ما رافق الجرعات من فضائح حول العالم، واعترافات بأنها لم تكن ناجعة تماماً. المهم أن "كوفيد" لم ينتهِ وكانت له متحورات عدة، لكن يبدو أن الخوف الذي رافقه وقد يكون سبباً في وفاة كثر قد زال. واليوم نقابل أشخاصاً مصابين بكورونا كأنهم مصابون بالرشح أو الإنفلونزا الموسمية، إن من ناحية الأعراض أو محاولة الوقاية والابتعاد منهم.
لكن الجائحة هذه لا شك في أنها تركت وراءها ندوباً غير مرئية في الذاكرة والنفوس، وفي صورة الحياة نفسها، فلقد اعتاد الناس على تباعد معين وأصبح العمل عن بعد حلاً بدأت الشركات تدرجه ضمن أنظمتها.
جدري القرود وباء الهامش
عاد للواجهة في زحمة ما بعد "كوفيد"، وبين أنفاس العالم اللاهث نحو ما يشبه التعافي، إنه المرض القديم بوجه جديد "جدري القرود" Monkeypox. ولم يكن غريباً على الأطباء، لكنه كان ثقيلاً على المجتمعات التي ظنت أن الأوبئة لن تطرق الباب مرتين متتاليتين بهذه السرعة.
وعرف "جدري القرود" منذ عام 1958، وسجلت أول إصابة بشرية به عام 1970 في جمهورية الكونغو الديمقراطية، لكنه حينها ظل حبيس أدغال أفريقيا لعقود، يصيب الفقراء في صمت ويعالج من دون تسليط الضوء وينقرض من ذاكرة العالم فوراً بعد انتهاء الحالات، لكن عام 2022، غيّر المرض موقعه الجغرافي، بالتالي الإعلامي، فخرج من الهامش وامتد إلى مدن ومطارات أوروبا وأحياء أميركا، ودخل فجأة في حسابات الطوارئ الصحية العالمية! وأخذ حينها على محمل الجد والقلق.
وتنتقل عدوى "جدري القرود" عبر الاتصال الجسدي المباشر، بخاصة عبر سوائل الجسم أو الآفات الجلدية، وهو يشبه في أعراضه جدري الإنسان القديم، كارتفاع الحرارة وتورم الغدد وطفح جلدي مؤلم مترافق مع الوصمة الاجتماعية والخوف من العدوى. وعلى رغم أنه نادراً ما يكون قاتلاً، أي بنسبة تراوح ما بين واحد و10 في المئة في بعض السلالات، لكن الخوف الحقيقي كان في غموضه. وأعلنت منظمة الصحة العالمية طوارئ صحية عالمية، وأطلقت حملات التوعية ووفرت لقاحات محدودة.
لم تتحول إلى جائحة
بعض الأمراض والأوبئة التي لا بد من النظر إليها عن كثب لم تتحول إلى جوائح لكنها تمتلك ميولاً مقلقة. بعضها يتسلل في صمت ويستوطن الجسد والبيئة، ويتحول إلى وجع يومي كالملاريا التي تعود لزمن بعيد. فنصوص الطب الفرعوني واليوناني أشارت إلى "حمى المستنقعات"، ووجدت آثار الطفيل البلازموديوم التي تنتقل عبر لدغة أنثى بعوضة الأنوفيليس في مومياوات مصرية.
والملاريا ليست جائحة مفاجئة مثل "كوفيد" أو "سارس"، لكنها وباء مستوطن (Endemic Epidemic)، يضرب بصورة دائمة في مناطق واسعة، خصوصاً في أفريقيا جنوب الصحراء وبعض أجزاء آسيا وأميركا اللاتينية. وتسجل سنوياً أكثر من 240 مليون إصابة، وتتسبب في نحو 600 ألف وفاة، معظمهم من الأطفال دون سن الخامسة، بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية للملاريا عام 2023. وعلى رغم أن الملاريا قابلة للعلاج والوقاية، فإن اللامساواة في الوصول إلى العلاج، إضافة إلى سوء البنية الصحية، جعلا منها أطول الأوبئة عمراً وربما أكثرها ظلماً
فيروس آخر يعلن عن نفسه، إنه MERS أو متلازمة الشرق الأوسط التنفسية. ظهر كفيروس جديد عام 2012 في شبه الجزيرة العربية، تحديداً في السعودية، ليضاف إلى قائمة الفيروسات التاجية التي تخترق الجهاز التنفسي وتزرع الرعب الصامت. وهو لا ينتشر بسرعة كغيره، لكنه أشد فتكاً، إذ تجاوزت نسبة الوفيات 35 في المئة من بين الحالات المؤكدة وهي نسبة لا يمكن تجاهلها. وارتبط الفيروس بصورة كبيرة بالجمال، وأثار ذلك جدلاً اجتماعياً وثقافياً حول العلاقة بين العادات والعدوى.
كذلك فيروس زيكا الذي يصيب الأجنة، واجتاح عام 2015 أجزاء واسعة من أميركا اللاتينية، وعلى رأسها البرازيل. والمختلف هذه المرة أن المرض لم يقتل المصابين به، إنما يترك أثره في من لم يولدوا بعد. وفيروس زيكا المنقول عبر لدغة بعوضة " الزاعجة المصرية" (Aedes aegypti)، انتشر بسرعة في المناطق المدارية، لكن الذعر لم يبدأ إلا عندما لاحظ الأطباء زيادة حادة في ولادات الأطفال المصابين بصغر حجم الرأس microcephaly"" وتشوه خلقي يضعف الدماغ ويعوق النمو.
الفيروس لا يبدو خطراً على البالغين، لكنه كان يهاجم الأجنة بصمت، واستجابت منظمة الصحة العالمية بسرعة، وأعلنت حال طوارئ صحية عالمية، وأطلقت حملات توعية وحظراً على السفر والتنقل لبعض الفئات، لكن الأزمة إضافة إلى أنها طبية، فإنها تحمل في طياتها عوامل اجتماعية وأخلاقية حول تأجيل الحمل وحظره في بعض المناطق. وعلى رغم تراجع الفيروس تدريجاً، فإن الخوف الذي خلفه في قلوب الأمهات لا يزال باقياً، تماماً كأثره في رؤوس الأطفال الذين لم يسعفهم العالم في الوقت اللازم.
اقتصاد الأوبئة
وفي كل مرة يظهر فيها وباء، تنشغل العناوين بعدد الضحايا والإصابات واللقاحات، لكن هناك رقماً آخر، غالباً ما يهمس به، وهو كلفة المرض على الأرواح والمال. فالاقتصاد، كما الجسد، هش أمام العدوى. فما إن ينتشر المرض، حتى يبدأ كل شيء بالتباطؤ من الإنتاج إلى الاستهلاك إلى السفر وصولاً إلى الثقة.
وكلفت الإنفلونزا الإسبانية على رغم غياب بيانات مالية دقيقة من تلك الفترة، خسائر للعالم حينها بما يعادل 3.3 تريليون دولار بقيمة اليوم، أي ما يقارب خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في ذلك الوقت، بحسب روبير بارو وخوسيه أورسوا وجوانا وينغ ضمن دراسة تقارن بين الإنفلونزا الإسبانية و"كوفيد-19" نشرت عام 2020 في "المجلة الفصلية للاقتصاد" (The Quarterly Journal of Economics) التابعة لجامعة "هارفارد"، كما تقلصت القوى العاملة فجأة في الإنتاج الزراعي والصناعي الذي توقف كما لو أن الزمن مصاباً بالفيروس.
أما "الإيدز" فلم يكن جائحة عابرة، إذ شكل منذ الثمانينيات أزمة طويلة الأمد أثرت في البنية الاقتصادية للدول النامية، خصوصاً في أفريقيا. وتقدر الخسائر المباشرة وغير المباشرة له عالمياً بأكثر من 500 مليار دولار حتى عام 2020، كما انخفض نمو الناتج المحلي في الدول المتضررة بنسبة واحد إلى 2.6 في المئة سنوياً بسبب تقلص القوى العاملة وزيادة الإنفاق الصحي، بحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) لعام 2020.
وتأتي الضربة الأكبر في العصر الحديث من جائحة كورونا، فوفقاً لتقرير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كانت الخسارة التقديرية للناتج المحلي الإجمالي العالمي حتى عام 2025 هي 22 تريليون دولار، وفقدت 114 مليون وظيفة خلال عام واحد، كما انهارت قطاعات كاملة كالسياحة والطيران والمشاريع الصغيرة والتعليم التقليدي.
وعلى رغم أن جنون البقر ليس جائحة بالمعنى التقليدي، فإنه كبّد أوروبا وحدها أكثر من 13 مليار دولار بسبب ذبح الأبقار وخسارة الصادرات، بحسب تقرير الـ"فاو" عام 2001.
وتسببت إنفلونزا الطيور بخسائر تقدر بـ20 مليار دولار عالمياً، بسبب إعدام ملايين الطيور وإغلاق الأسواق. أما إنفلونزا الخنازير فبلغت الخسائر المباشرة وغير المباشرة لها أكثر من 50 مليار دولار، معظمها بسبب توقف السفر والطيران.
فما تفعله الأوبئة بالاقتصاد قد لا يرى في الشوارع، لكنه يمد يده إلى الأجور والأسعار والجيوب.
من عزل القرى إلى توحيد الأرض
كانت الأوبئة في الماضي شأناً محلياً، فما إن يتفشى المرض حتى تغلق الأبواب وتدفن الجثث وينتظر الناس رحمة الله لينتهي الوباء، لكن مع نهايات القرن الـ19، بدأ العالم يفهم أن الفيروسات لا تحترم الجغرافيا، وأن قارب النجاة لا يفلح عندما يكون وحيداً. فبدأت أولى المحاولات بتأسيس سلسلة المؤتمرات الصحية الدولية، وكان أولها في باريس عام 1851، حين اجتمعت دول لفهم كيفية تنظيم الحجر الصحي وتبادل المعلومات حول تفشي الأمراض مثل الكوليرا والطاعون، وشكلت هذه الخطوات ما يشبه نواة أول فهم بأن الوباء قضية عابرة للحدود.
وبعد الحرب العالمية الثانية، ولدت منظمة الصحة العالمية (WHO) عام 1948، فأصبحت الجهة الأممية المعنية بتنسيق الجهود الصحية وإدارة الاستجابة للأوبئة وتحديد الطوارئ الصحية العالمية، إذ لم تعد الصحة شأناً وطنياً صرفاً، وامتدت لتشكل مصلحة جماعية عالمية. فتحول الحديث عن المرض من حكايات محلية إلى قضايا عالمية تناقش خلال المؤتمرات، وترصد لها الموازنات. وأصبح الناس ينتظرون إشعارات منظمة الصحة العالمية ليعرفوا كيف يتعاملون مع مرض أو وباء أو جائحة.
وعلى رغم أن منظمة الصحة العالمية تعد المرجع الأول عالمياً في مواجهة الأوبئة والتنسيق بين الدول، لكنها ليست وحدها في هذا الميدان المعقد. فلقد أدرك العالم بعد سلسلة من الأزمات الصحية، أن الجائحة تحتاج إلى أكثر من جهة، تحتاج إلى منظومة كاملة تتحرك للمواجهة. وهكذا فعل مركز CDC في أميركا الذي كان قد أنشئ عام 1946 تحت اسم "مركز الأمراض السارية"، وهو مركز متخصص في مراقبة الأمراض المعدية وتحليل البيانات الوبائية وتطوير السياسات الوقائية. وقام بدور مهم أثناء جوائح "سارس" وإنفلونزا الخنازير و"كوفيد-19"، كما أن نظيره الأوروبي ECDC يعمل منذ عام 2005 على تنسيق جهود الدول الأوروبية في مواجهة التفشيات وإصدار الإنذارات الصحية المبكرة. ويشكل هذان المركزان العين التقنية والطبية للعالم ويقدمان خبرات تحليلية وفنية لا غنى عنها.
وفي سياق التمويل تظهر صناديق التمويل والاستجابة الدولية، إذ إن الفجوة بين من يملك الدواء ومن يحتاج إليه كانت واضحة دائماً، لكن الأوبئة العالمية جعلتها محرجة ومكلفة. ومن المؤسسات التي عملت على ردم هذا الخلل كان التحالف العالمي للقاحات والتحصين GAVI الذي أسس عام 2000، ومهمته العمل على توفير التطعيمات للدول منخفضة ومتوسطة الدخل لضمان ألا يكون اللقاح حكراً على الدول الغنية، إضافة إلى تحالف ابتكارات التأهب للأوبئة CEPI الذي تأسس بعد أزمة "إيبولا"، ويعنى بتمويل أبحاث اللقاحات والتأهب المسبق للفيروسات التي قد تتحول إلى جائحة، والصندوق العالمي لمكافحة "الإيدز" والسل والملاريا الذي يمول البرامج طويلة الأمد للتصدي للأمراض المعدية المستوطنة، خصوصاً في أفريقيا وآسيا.
العدوى تضيء ملامح العالم
وإذا أردنا أن نتحدث عن كل جائحة ووباء بما يليق بما تركته من ندوب على سكان الكوكب، سيحتاج الأمر إلى دراسات وكتب عدة لكي نفي ذلك الزائر الطفيلي المزعج والقاتل حقه في ما ترك من آثار. فكل جائحة مرت من الطاعون إلى "كوفيد-19" تركت بصماتها على الناس في أجسادهم وقلوبهم وعقولهم. وكانت هناك أنماط تتكرر وأخطاء تعاد في كل مرة، ودروس تنسى بمجرد أن يزول الألم من دون خطط. فعلى رغم اختلاف الأزمنة والأماكن، فإن الجائحات الكبرى تتشارك في عناصر جوهرية من ناحية النشأة والانتشار وردود الفعل وصولاً إلى الفوضى.
وقد يكون العامل المشترك الأول هو سهولة الانتشار، بخاصة بعد أن أصبح العالم أكثر اتصالاً وتواصلاً من أي وقت مضى. فالعولمة والسفر، وكثافة السكان وسوء توزيع الخدمات، كلها عوامل حولت العالم إلى قرية مفتوحة أمام العدوى لتجعله مسرحاً دامياً، فأية إصابة في أية دولة في العالم هي احتمال لإصابة سكان الكوكب على الطرف الآخر، خصوصاً إذا لم يجرِ الكشف عنها والاستجابة سريعاً. وقد يكون "كوفيد-19" خير مثال عن شخص واحد في ووهان نشر العدوى في أنحاء العالم. ولا بد من التنبه إلى نقطة التحول Tipping Point، أي اللحظة التي يتحول فيها مرض محلي إلى جائحة عالمية، إذ غالباً ما تفشل الحكومات في قراءة تلك اللحظة. وقد يكون السبب إما الإنكار أو البطء أو الخوف من التأثير الاقتصادي، لكن الثمن لاحقاً يكون أضعاف ما يمكن توقعه أو تحمله.
ويأتي الإعلام الذي يضطلع بأدوار مختلفة من بث الذعر إلى نقل الحقائق إلى التوعية، لكن بعض وسائل الإعلام والاتصال يبحث عن لحظات إعلامية وسط هذه الفوضى والخوف، ملقياً بقلق الناس ورعبهم على لائحة الـ"رايتنغ" والـ"ترند"، فيبث الإشاعات المضللة ويتلهى في نظريات المؤامرة ونقل معلومات غير دقيقة. وخلال هذه اللحظات الحرجة، تصبح المعلومة الدقيقة أكثر أهمية أحياناً من الدواء نفسه.
كما لا يمكن تجاهل الفارق الصارخ بين الدول الغنية والفقيرة، إذ بينما تسارع الأولى إلى تأمين اللقاحات وإغلاق حدودها والاعتماد على احتياطاتها الصحية، تكافح الأخرى بأدوات منسية ومستشفيات مثقلة وأطباء يقاتلون بلا عتاد، إلى أن يأتي دورها لتصل إليها الجرعات والأدوات اللازمة. فالأوبئة التي تفضح ضعف الجسد، تفضح أيضاً هشاشة السياسات ومحدودية الرؤية وغياب العدالة في هذا الكوكب.