ملخص
دلالة عدم المشاركة في "قمة شرم الشيخ" أكبر من مجرد الصراع داخل إيران بين المتشددين والإصلاحيين، أنه في حقيقة الأمر يرتبط بكيفية إدارة طهران علاقتها بواشنطن ومصالحها في الشرق الأوسط وموقع الدول العربية من تلك المفاوضات دائماً، إذ اعتادت التعامل مع أميركا بصورة ثنائية وليس ضمن إطار إقليمي متعدد الأطراف.
اندلع صراع داخل إيران بين المتشددين والإصلاحيين حول مدى خطأ أو صحة القرار الإيراني بعدم المشاركة في "قمة شرم الشيخ" حول غزة، بين من رآها فرصة ضائعة ومن رآها صائبة، والأكيد أن هناك دافعان، الأول تكتيكي مرتبط بمصلحة إيرانية والآخر يرتبط بالعقلية الإيرانية عند تعاملها مع الدول العربية وواشنطن معاً.
وعلى رغم تلقي طهران دعوة من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لحضور "قمة شرم الشيخ" لتوقيع اتفاق غزة، قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في منشور عبر منصة "إكس" إنه "لا الرئيس بزشكيان ولا أنا نستطيع التعامل مع نظراء لنا هاجموا الشعب الإيراني ويواصلون تهديدنا وفرض العقوبات علينا"، في إشارة إلى الولايات المتحدة.
ويبدو من المنشور وكأن إيران تتذرع بوجود الطرف الأميركي، لكنها ذريعة غير ذي صدقية، فمنذ نحو شهر سعى المسؤولون الإيرانيون إلى عقد اجتماعات مع نظرائهم الأميركيين في الأمم المتحدة بنيويورك، وتخلف ستيف ويتكوف عن الاجتماع ولم يحضر.
وأيضاً كان هناك رد إيران على كلمة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في الكنيست الإسرائيلي، إذ قال "إن اتفاق السلام بين إسرائيل وغزة لم يكن ممكناً لولا قصف الولايات المتحدة للمنشآت النووية الإيرانية"، مضيفاً أنه يعتقد أن إيران مستعدة لإبرام صفقة خاصة بها، "وحتى بالنسبة إلى إيران، التي ألحق نظامها كثيراً من الموت بالشرق الأوسط، فإن يد الصداقة والتعاون مفتوحة، وأقول لكم إنهم يريدون التوصل إلى اتفاق"، متابعاً أنه "حتى لو قالوا 'لا نريد عقد صفقة' أستطيع أن أخبركم أنهم يريدون عقد صفقة"، ثم ردت الخارجية الإيرانية على تصريحات ترمب بإدانتها ووصفتها بالاتهامات الباطلة والمزاعم غير المسؤولة والمخزية للرئيس الأميركي في شأن إيران.
وتصريحات ترمب قد يفهم منها من جهة تفاخره بإنجاز ضربة عسكرية ضد طهران، حتى لو لم تقض على البرنامج النووي الإيراني بصورة كاملة، كما ادعى من قبل، لكن من جهة أخرى يعتبر ترمب أن الضربة الأميركية هي ما دعت إيران إلى دعم مقترح وف إطلاق النار في غزة وإقناعها لحركة "حماس" بقبول الاتفاق.
وربما بالغ ترمب أيضاً حينما طلب من إيران الاعتراف رسمياً بوجود إسرائيل، وللمرة الثانية طلب من إيران الانضمام إلى "اتفاقات آبراهام"، أي إقامة علاقات سياسية مع إسرائيل، إذ رد عراقجي بأن ما يطلبه ترمب من المستحيل، وهذا أقرب إلى الواقع لأن النظام الإيراني الذي تأسس منذ 1979 كانت أهم محاور شرعيته حينها هي العداء لإسرائيل، ومن ثم لا يمكنه الانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية حتى لو عقدت إيران مع إسرائيل الصفقات السرية، كما حدث خلال الثمانينيات فيما عرف بفضيحة "إيران كونترا".
وأوضحت إيران لـ "حماس" منذ فترة طويلة قبولها الضمني لاتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه الحركة ويشمل الإفراج عن جميع الرهائن الباقين في غزة.
وعلى رغم استدراك ترمب أن يد الحوار ممدودة فقد ردت إيران بأنها منفتحة على الحوار البناء، لكن قاطعت قمة شرم الشيخ ولم تحضر، والمغزى واضح وهو أن إيران لا تريد أن تبدو متلهفة للتفاوض والحوار مع ترمب، ولا سيما أنه أكد رغبتها في الحوار خلال كلمته أمام الكنيست، وأرادت إيران أن تثبت عدم سعيها إلى التفاوض بأي شكل، وإنما بشروطها التي حددتها، وبخاصة أن هناك قضيتين خلافيتين سيصطدم بها أي حوار بين إيران وواشنطن، الأولى التخصيب الصفري والأخرى الصواريخ الباليستية، وإن كانت هناك تقارير بدأت تتحدث عن أن استعداد إيران للقبول بالتخصيب بدرجة قريبة من الصفر وهي واحد في المئة بدلاً من 3.67 في المئة التي كانت تتمسك بها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لذا وعلى رغم أن إيران على علاقة جيدة الآن مع مصر، ومن جهة أخرى تريد التفاوض مع ترمب، لكنها رأت أن عدم المشاركة هو ما يعزز موقفها في المفاوضات المحتملة، لكن من جانب آخر عكس قرار إيران عدم المشاركة الجدل الذي ساد في الداخل بين الإصلاحيين والمتشددين، إذا وجد الإصلاحيون أن المقاطعة هي تضييع للفرص المتاحة، في حين اعتبر المتشددون أن المقاطعة تعكس موقف إيران الإقليمي، وهو رفضها مبدأ حل الدولتين كأساس لحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.
ولم تر إيران في قمة غزة أنها من أجل تحقيق ما يمكن في ضوء السياق الإقليمي والدولي الراهن، ولأن تعريف السياسة أنها فن الممكن لذا فإن أية محاولة ومبادرة لوقف الإبادة الجماعية في غزة وإدخال المساعدات لسكان غزة ووقف مجاعة الأطفال قد يكون أهم الأهداف الممكنة في الوقت الراهن والتي يمكن في مرحلة لاحقة البناء بعدها على أسس الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والذي جاء نتيجة الدبلوماسية السعودية والفرنسية.
وتحاول إيران كذلك تبرير عدم المشاركة بأنه لا يعنى ضعف الوزن الإقليمي لإيران أو عزلة دولية، ولا سيما أن بعضهم في الداخل انتقد غياب إيران عن القمة بما يعنى خفوت ثقلها الإقليمي، في مقابل حضور أطراف أخرى مثل إندونيسيا وباكستان.
ورداً على ذلك يرى التيار المقابل أن غياب إيران ومحور المقاومة لا يعطى ثقلاً لأية مبادرة إقليمية، لأن محور المقاومة دوره فعال في تغيير موازين القوى في المنطقة، وفى هذا مغالطة كبيرة لأن ما حدث هو العكس، إذ سيظل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 نقطة تحول في المشروع الإيراني في المنطقة، ومعها محور المقاومة، ولولا إضعاف أطرافه لما تمكنت إسرائيل من شن حرب الـ 12 يوماً، وقبلها المواجهات التي حدثت على مدى عامين واغتالت فيها كبار قادة إيران العسكريين، ومن ثم فإن ضعف محور المقاومة، وفق عقيدة الأخطبوط التي تنتهجها إسرائيل ضد إيران، ولكانت إيران دفعت "حماس" نحو رفض اتفاق وقف إطلاق النار، ولتعنتت الحركة أكثر، لكن في ظل غياب وحدة الساحات صار كل طرف يتحرك تكتيكياً وفق المتاح من مسارات، في ظل الهيمنة العسكرية الإسرائيلية المحصنة من أية عواقب.
من جهة أخرى فإن إيران تحاول الاستفادة من قمة السلام في شرم الشيخ واتفاق غزة، إذ أكدت الخارجية الإيرانية أن لـ "حماس" الحق في اتخاذ مبادراتها الخاصة، لكنها حذرت الحركة من أن إسرائيل ستواصل مخططاتها التوسعية والعنصرية، وقد لا تلتزم بالاتفاق.
وهذا الدعم الموضح يبدو إيجابياً لجهة إيران، لأنها تبدو أمام واشنطن وكأنها لم تعطل مبادرة ترمب لوقف القتال في غزة، لكن في الوقت ذاته تريد الحفاظ على صورتها أنها دائماً في الجانب الآخر وليس في الجانب الأميركي، إذ اعتبرت أن حضورها إلى شرم الشيخ كان سيرسخ صورتها كقوة خاسرة في المنطقة، وأنها مستبعدة من أي دور في رسم شرق أوسط جديد.
ودلالة عدم المشاركة في شرم الشيخ أكبر من مجرد الصراع داخل إيران بين المتشددين والإصلاحيين، أنه في حقيقة الأمر يرتبط بكيفية إدارة إيران علاقتها بواشنطن ومصالحها في الشرق الأوسط، وموقع الدول العربية من تلك المفاوضات دائماً، حيث اعتادت طهران التعامل مع واشنطن بشكل ثنائي وليس ضمن إطار إقليمي متعدد الأطراف.
لقد اعتادت إيران مع كل الإدارات الأميركية من الجمهوريين والديمقراطيين أن تتفاوض على مصالحها والملفات الإقليمية، ضمن إطار ثنائي تكون هي وواشنطن فقط أطرافه، حيث تقدم نفسها باعتبارها Gate keeper حارس البوابة الذي لا يمكن أن تتحرك واشنطن داخلها من دون التنسيق المنفرد مع إيران، ومن ذلك الاتفاق النووي عام 2015 والذي لم يستبعد فقط الأطراف الإقليمية العربية، بل استبعد الأنشطة الإيرانية التي تثير مخاوف لدى جيرانها، ومن قبل ذلك التنسيق مع واشنطن في رسم النظام العراقي منذ عام 2003، إذ لم تعتد إيران أن توجد مع الأطراف العربية ضمن إطار إقليمي واحد، حتى لو كانت تتقارب مع تلك الدول دبلوماسياً على غرار علاقتها بمصر والسعودية.