ملخص
يتخذ النفوذ الأميركي في لبنان شكل منظومة أمن وتمويل مشروط، أي أن تثبيت هدوء الحدود وتوسيع سلطة الدولة جنوباً سيقابله إبقاء قنوات دعم الجيش والأمن مفتوحة، مع عصا العقوبات على شبكات الحزب وجزرة صندوق النقد المشروطة، وسيتحرك الاهتمام الدولي ضمن سيناريو "الأمن أولاً والاقتصاد المشروط"، ما لم تقع نكسة كبيرة.
بينما تتسارع العواصف الإقليمية نحو إعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط، وتتحول مؤتمرات مثل شرم الشيخ إلى محطات مفصلية في هندسة اليوم التالي لغزة، وجد لبنان نفسه خارج قاعة القرار، وغاب البلد الذي لطالما كان مرآة لتقاطعات الإقليم، لا بسبب الجغرافيا وحسب، بل لأن أزماته الداخلية وموقعه في محور متنازع عليه جعلت حضوره عبئاً أكثر منه إضافة.
واستبعاد لبنان من "مؤتمر شرم الشيخ" ليس مجرد تفصيل بروتوكولي أو خلل في التمثيل، بل إشارة سياسية إلى موقعه المتراجع في معادلة النفوذ الأميركي -العربي الجديدة، فالمجتمع الدولي الذي يسعى إلى تثبيت هدنة في غزة وبناء نظام أمني - اقتصادي جديد يضمن استقرار "الشرق الأوسط الجديد"، لم يعد يرى في بيروت شريكاً قادراً على الالتزام أو التأثير، بل ساحة رخوة محكومة بثنائية السلاح والانهيار، فماذا يعني استبعاد لبنان من "مؤتمر شرم الشيخ"؟
تتحول المسألة هنا من لماذا لم يدع لبنان؟ إلى ما الذي يعنيه استبعاده؟، هل هو عقوبة ضمنية على ارتهان القرار الوطني لمحور إيران؟ أم هو رسالة لإعادة ضبط ميزان القوى قبل إعادة إدماجه بشروط جديدة؟ أم أنه ببساطة انعكاس لانكفائه عن دوره التاريخي كمنصة حوار عربي ودولي؟
بهذا المعنى يصبح استبعاد لبنان من "شرم الشيخ" مرآة لأزمة أعمق، أزمة تعريف دوره في المنطقة، بين مشروع دولة عاجزة ومشروع مقاومة متضخم، في لحظة يعاد فيها توزيع الحصص والنفوذ على طاولة ما بعد الحرب.
الخلفيات التي أثرت في عدم دعوة لبنان
قبل الدخول في الأسباب التي تفسر الانغماس اللبناني في الخطوط الحمر، من المفيد ملاحظة بعض العوامل التي تجعل لبنان حالاً أكثر حساسية، ومن المعلوم أن لبنان داخل بصورة غير مباشرة في الصراع بين إسرائيل وميليشيات مثل "حزب الله"، أي أن دوره ليس طرفاً محايداً بسيطاً، ووجود سلاح غير شرعي يعد عاملاً معقداً في أية ترتيبات سياسية إقليمية، أضف إلى ذلك الانهيار الاقتصادي الشديد الذي يعانيه البلد، وضعف مؤسسات الدولة وانخفاض القدرة على تقديم مقترحات ملموسة ومستقلة.
ولبنان ليس طرفاً في النزاع الفلسطيني -الإسرائيلي داخلياً، لكنه يعتبر محيطاً متورطاً أمنياً وعسكرياً، وهذه الخلفيات تجعل أيّ استدعاء للبنان إلى مثل هذا المؤتمر مصحوباً بأخطار سياسية أو توازن رأسمالي منخفض في رصيده الدبلوماسي، ومن هنا فإن الأسباب المحتملة لاستبعاد لبنان من "مؤتمر شرم الشيخ"، والتي قد تكون قادت المنظمين أو الداعمين إلى استبعاده، هي عدم توافق لبنان مع المعايير السياسية أو الخطاب الرسمي للدعوة، أي أن لبنان أو حكومته أو بعض القوى فيه لم يُظهر حتى اللحظة تماشياً كافياً مع الخطاب الذي صاغه منظمو المؤتمر، أي خط السلام والاعتراف بالدولة الفلسطينية والمفاوضات القائمة والمطلوب من الأطراف المعنية، ومن هنا جاء تصريح رئيس الجمهورية جوزاف عون أنه لا بد من التفاوض مع إسرائيل لحل المشكلات العالقة بين الطرفين، وذلك بالتزامن مع بدء تطبيق خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإنهاء الحرب في غزة.
ولكن ربما جاء التصريح متأخر قليلاً، ولهذا لم يوضع لبنان ضمن الدول الفاعلة في حل النزاع الفلسطيني، أو لم يعتبر جهة تفاوضية مركزية في هذه المرحلة، وأيضاً وبسبب الخطر الذي يشكله التزام لبنان ضمن محور "حزب الله" وإيران، فلبنان مرتبط داخلياً بقوة لها نفوذ عسكري وسياسي، أي الحزب، وتعتبر من أبرز أدوات التأثير الإيراني في المنطقة، وعبر إدراج لبنان في مؤتمر يعتبر دافعاً لترتيب جديد في الشرق الأوسط، فإن ذلك قد يُفهم كتطبيع، ضمني أو لاحق لهذا النفوذ، وهو ما لا ترغب فيه أطراف كثيرة أو لن ترغب فيه، بما في ذلك دول عربية أو دول غربية.
وقد يكون هذا الضغط على لبنان عبر استبعاده عقاباً دبلوماسياً أو تحفيزاً للتغيير، بمعنى "إذا لم تلتزم بمعايير معينة فلن تدعى"، وهذه وسيلة ضغط لتوجيه لبنان نحو مسارات أكثر تقارباً مع المواقف المطلوبة، وعادة ما يستخدم هذا الأسلوب في السياسة الدولية كأداة إشعارية، وقد يكون هناك رفض أو تردد من بعض القوى داخل لبنان في الدخول الرسمي في مؤتمر يُحتمل أن يلزمه بمواقف ملموسة، أو يضعه أمام التزامات صعبة، خصوصاً في موضوع السلاح غير النظامي والتفاوض مع إسرائيل.
وبرأي بعض المراقبين فإنه وعلى رغم أن لبنان من الجهات المتأثرة ومشارك في الديناميات الإقليمية فلم يُدع، وهو ما اعتبر عزلاً دبلوماسياً أو تجاهلاً لموقع لبنان، وبكل الأحوال فإن لبنان يخسر أولاً من عملية الاستبعاد ويقلل من شرعيته الدبلوماسية في أية ترتيبات سلام مقبلة أو إعادة إعمار غزة، مما يضعه في موقع تابع بدلاً من فاعل، وتلك المعطيات تدفع نحو سؤال محوري: أين يقع لبنان من خريطة النفوذ الأميركي في المنطقة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قد تكون أولوية واشنطن في هذه المرحلة تحييد الجبهة الشمالية لإسرائيل، وباتت الولايات المتحدة تتعامل مع لبنان باعتباره ملف أمن حدودي، قبل أن يكون ملف دولة منهارة، وهدفها الآن هو ترسيخ ترتيبات وقف النار بين إسرائيل و"حزب الله"، وتوسيع دور الجيش اللبناني جنوب الليطاني، وربط ذلك بخريطة طريق للقرار (1701)، مع ضغط مالي وقانوني متواصل على شبكات تمويل الحزب، وهذا يتضح من مسار وقف إطلاق النار منذ الـ 27 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 وتمديدات تطبيقه، مع مفاوضات ترسيم وضبط النقاط الساخنة برعاية أميركية، واعتراف أبحاث قريبة من دوائر صنع القرار بأن الهدنة صمدت نسبياً لكنها مشروطة بقدرة الدولة على الإنفاذ، كما واستهدفت رزم العقوبات الأميركية المتتابعة مسؤولي المالية في "حزب الله" وشبكات التهرب والتمويل داخل لبنان ومع إيران، لتجفيف مصادر القوة غير الشرعية بالتوازي مع المسار الأمني.
أيضاً تسعى واشنطن إلى دعم الجيش وقوى الأمن كأداة نفوذ، وعادت ورفعت تمويل المؤسستين العسكرية والأمنية بحزمة قدرت بـ 230 مليون دولار، في مقابل تقدّم ملموس في فرض سيادة الدولة وضبط السلاح جنوباً، وهذا التمويل هو رافعة تأثير أميركية مباشرة داخل مؤسسات القرار الأمني اللبناني، أضف إلى ذلك التبدل في شكل المظلة الأممية بعد التمديد النهائي لقوات "يونيفيل" والدفع نحو نقل العبء إلى الدولة، إذ مدد مجلس الأمن ولاية "يونيفيل" لمرة نهائية حتى الـ 31 من ديسمبر (كانون الأول) 2026 مع لهجة واضحة، أي تشجيع بسط سيادة الدولة عبر الجيش وطلب حشد دعم اقتصادي لإعادة الإعمار وعودة النازحين، والرسالة هي أن المجتمع الدولي يريد انتقالاً منظماً من حضور أممي كثيف إلى مسؤولية لبنانية مباشرة.
الاقتصاد بوصفه أداة ضبط سياسية
يرى صندوق النقد الدولي بعض التقدم لكنه يشترط إصلاحات صعبة وتمويلاً ميسراً خارجياً، واستخدام أية انفراجة مالية كحافز أو عصا لفرض مسار الضبط الحدودي والسيادي، بمعنى أن استمرار التعثر الإصلاحي يعني إبقاء لبنان في منطقة الاستقرار الأدنى المدار، وتعكس تصريحات الرئاسة اللبنانية بترجيح مسار التفاوض مع إسرائيل بعد تجربة الحرب تلاقياً مع المقاربة الأميركية القائمة على أمن الحدود أولًا ثم الاقتصاد، وهذا الخطاب ستوظفه واشنطن لشرعنة أية تسويات تقنية أو حدودية جديدة.
سيناريوهات الاهتمام الدولي بلبنان خلال الفترة المقبلة
على المدى القريب، أي ما بين ستة أو 12 شهراً، سترجح كفة الأمن أولاً ودعم اقتصاد مشروط عبر تثبيت وقف النار جنوباً وإنفاذ تدريجي للقرار (1701) بإسناد من الجيش اللبناني وقوى الأمن، مع رقابة دولية مخففة، كما واستمرار الدعم الأميركي الأمني المباشر في مقابل خطوات عملية تظهر سيادة الدولة جنوب الليطاني، مع إبقاء مسار "صندوق النقد" مفتوحاً من دون اختراق جذري، وأي دعم إنساني أو إعادة للإعمار مرتبطان بالتقدم الأمني، ولكن قد يرافق ذلك هدنة هشة متقطعة مع خروق متفرقة، وهذا واضح مع الغارات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية كافة، وتأخير إضافي في معالجة نقاط على الخط الأزرق وبقاء جيوب تموضع مسلح.
لكن قد تتوسع موجة العقوبات الأميركية على شبكات التمويل والواجهة الاقتصادية للحزب داخل لبنان والمنطقة، مع تجميد مساعدات اقتصادية هيكلية، وبهذا يدخل لبنان مرحلة التثبيت بالضغط، أي تصعيد الضغوط المالية والقانونية على حلفاء إيران داخلياً وإقليمياً، وإشارات مشروطة بالتقدم الأمني في مقابل تحرير دفعات دعم لمؤسسات الدولة، وتهدف واشنطن من خلال رفع كلفة السلاح غير الشرعي إلى جعله غير مجد اقتصادياً عبر الضغط والخنق المالي، بالتوازي مع طرح بدائل أمنية تدعم الدولة.
وفي حال تقدمت تسوية غزة وهدأت الجبهات فمن الممكن دفع حزمة شرق أوسطية إضافية تشمل ترسيمات حدودية وترتيبات أمنية طويلة جنوب لبنان، مع رزمة تمويل للبنان مرتبطة بخطوات سيادية قابلة للتحقق، وسلوك "يونيفيل" وموعد خروجها النهائي أواخر عام 2026، وسيكونان مؤشرين على جدية هذا المسار، ولكن هذا إذا ترافق مع نكسة أمنية، وهو السيناريو الأسوأ، أي انهيار الهدنة وعودة الضربات المتبادلة أو توسعها بين "حزب الله" وإسرائيل، وانهيار المسار داخل غزة، فسيدخل لبنان مرحلة تجميد كامل للتمويل الدولي وانزلاق اقتصادي خطر.
ماذا يعني ذلك لصانع القرار في بيروت؟
ومن هذه الزاوية يقع على عاتق المسؤولين اللبنانيين التقاط النافذة الأمنية وتحويل "وقف إطلاق النار" إلى ترتيب دائم، أي نشر خرائط انتشار واضحة للجيش جنوباً وآليات رصد مشتركة وإجراءات جدية لمنع التهريب السلاح، بهذا سيمتلك لبنان مفتاح حنفية المساعدات الهيكلية لاحقاً، إذ تريد واشنطن وشركاؤها أدلة تنفيذ لا وعوداً سياسية، أي مؤشرات قابلة للقياس ونقاط مراقبة ومصادرات للسلاح وتوقيفات نوعية، مع ضبط الحدود ومهل زمنية محددة لنزع السلاح، وفي المقابل فإن كل خطوة أمنية سترفع رصيد لبنان في مفاوضات التمويل.
الأمن أولاً والاقتصاد المشروط
في المحصلة يتخذ النفوذ الأميركي في لبنان شكل منظومة أمن وتمويل مشروط، أي أن تثبيت هدوء الحدود وتوسيع سلطة الدولة جنوباً سيقابله إبقاء قنوات دعم الجيش والأمن مفتوحة، مع عصا العقوبات على شبكات الحزب وجزرة "صندوق النقد" المشروطة، وسيتحرك الاهتمام الدولي ضمن سيناريو "الأمن أولاً والاقتصاد المشروط" ما لم تقع نكسة كبيرة، وأي تقدم لبناني ملموس على مسار القرار (1701) سيحول الهدنة إلى نقطة ارتكاز سياسية واقتصادية يمكن البناء عليها عام 2026 بالتوازي مع مرحلة خروج "يونيفيل".