Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما أبدل يوسف شاهين مسرحية "هاملت" بـ"كاليغولا" في اللحظات الأخيرة

مواجهة عبث العالم لا تمنحنا الحق في تدميره بل تضع علينا مسؤولية فحواها العيش من دون جعل أنفسنا جلادين باسم الحقيقة

ألبير كامو في باريس عقب إعلان فوزه بجائزة "نوبل" في الأدب عام 1957 (أ ف ب/ غيتي)

ملخص

مهما يكن من أمر يمكننا اليوم أن نستذكر تلك المغامرة المسرحية الشكسبيرية على الطريقة الشاهينية، وربما لمناسبة بدء الفعاليات المتعلقة بالذكرى المئوية الأولى لولادة يوسف شاهين. فمسرحية "كاليغولا" تعد واحداً من أكثر أعمال ألبير كامو راديكالية وإثارة للقلق لأنها لا تكتفي بطرح سؤال السلطة، بل تمضي إلى أبعد من ذلك، إلى جذر العبث نفسه: ما الذي يحدث حين يكتشف الإنسان فجأة أن العالم بلا معنى، وأن الموت حقيقة مطلقة لا يمكن التفاوض معه؟

كان المقربون من يوسف شاهين يعرفون من زمن بعيد أن ثمة حلماً شكسبيرياً كان لا يكف عن مداعبة خياله ووجوده، بشكل عام منذ زمن مبكر. وكان الحلم ينبثق دائماً من تولع السينمائي المصري الكبير، وربما منذ سنواته الأميركية المبكرة، بشخصية "هاملت" التي من الواضح أنه تدرب على أدائها كثيراً منذ درس التمثيل في أميركا، ولكن كان ثمة شيء يمنعه من مسايرة هذا الحلم الذي ظل لديه كحبيبة مشتهاة إنما لا يمكن الدنو منها. وحتى وإن كان الحلم طوال مسار شاهين السينمائي، يقضي بتقديم الشخصية عبر فيلم، أو حتى مسرحية داخل الفيلم على النمط المسرحي الشكسبيري الأصيل، فإن رغبة شاهين الخفية كانت تتعلق بتقديم "هاملت" الشكسبيري على المسرح، وأن يكون إسكندرانياً بشكل أو بآخر. ونعرف أن هذه الفرصة التي أمضى شاهين أكثر من النصف الثاني من عمره يترصدها، وأتته أخيراً، وقبل سنوات قليلة من نهايته، لكنه استنكف عن التقاطها. كان ذلك حين دعاه الفرنسيون، أيام وزير ثقافتهم الرائع جاك لانغ لاختيار عمل مسرحي يقدمه في وسط باريس، وتحديداً على خشبة قاعة الشانزيليزيه. يومها كنا محيطين بشاهين وهو يزف إلينا الخبر فرحاً، لكننا بوغتنا به يزيد عليه خبراً غريباً فحواه أنه لن يقدم مسرحية شكسبيرية الآن، بل سيترك شكسبير "وبطله المقدس"، بحسب تعبيره، "هاملت"، لمناسبة أخرى. أما الآن فإنه سيقدم، وللمرة الأولى في مساره الفني على خشبة مسرح، عملاً من ألبير كامو هو بالتحديد مسرحية "كاليغولا". بالنسبة إلينا كان الاختيار منطقياً، ومع ذلك بدا لنا مذهلاً بعد سنوات أنفقناها في انتظار "هاملت" الإسكندراني الشاهيني.

 

لماذا الديكتاتور الروماني؟

والحال أن شاهين نفذ رغبته الجديدة وقدم يومها "كاليغولا"، لكن الجهد الذي بذله، ناهيك بردود الفعل التي لم تكن مشجعة أحبطت المسرحي في داخله فكان تقديمه كامو في قلب باريس نهاية لحلمه المسرحي، بل إننا لم نسمعه بعد ذلك يتحدث حتى عن "هاملت". ومع هذا لم يخل الأمر، خلال السنوات التالية على تلك المغامرة، من نقاشات مع المخرج الكبير تناولت ذلك الاختيار ودوافعه، وما إلى ذلك من أمور. ولعل أهم ما تمكنا من استخلاصه حينها يتعلق بالفارق بين "هاملت" و"كاليغولا" كشخصيتين كبيرتين على الخشبة، وكمسرحيتين أيضاً. وبالنسبة إلى شاهين كان العنوان الرئيس المزدوج يتلخص في أن تقديمه "هاملت" كان يفرض عليه أن يخوض إبداعاً وجودياً، بينما يفترض تقديمه لـ"كاليغولا" أن يدنو من إبداع واقعي "يتعلق بالمرحلة التي نعيشها نحن العرب، حيث المسألة المطروحة ليست فلسفية وجودية، بل سياسية تتعلق بالحكم والسلطة"، كما قال لنا مرة ملخصاً ليردف أن في إمكاننا أن نعود لاحقاً إلى مشكلات الذات مع الوجود، "أما الآن فلنحاول أن نشرح الديكتاتور في الحكم وفي داخل كل واحد منا!". والحقيقة أن شاهين في هذا التفسير الذي اعتبرناه نحن المحيطين به نوعاً من التبرير، بدا محقاً، وإن من الناحية الشكلية تماماً، كما أنه كان محقاً من ناحية تقديمه في فرنسا مسرحية فرنسية، في ذلك التعاون المسرحي الأول (والذي سيكون الأخير على أية حال) مع المؤسسة الثقافية الفرنسية. وألبير كامو ليس فرنسياً فقط، بل يشغل مكانة متقدمة جداً في تراتبية كبار الكتاب الفرنسيين، "أما شكسبير فإنجليزي سيحين أوانه حتى في باريس ذات يوم".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مسرحية راديكالية

مهما يكن من أمر يمكننا اليوم أن نستذكر تلك المغامرة المسرحية الشكسبيرية على الطريقة الشاهينية، وربما لمناسبة بدء الفعاليات المتعلقة بالذكرى المئوية الأولى لولادة يوسف شاهين. فمسرحية "كاليغولا" تعد واحدة من أكثر أعمال ألبير كامو راديكالية وإثارة للقلق لأنها لا تكتفي بطرح سؤال السلطة، بل تمضي إلى أبعد من ذلك، إلى جذر العبث نفسه: ما الذي يحدث حين يكتشف الإنسان فجأة أن العالم بلا معنى، وأن الموت حقيقة مطلقة لا يمكن التفاوض معه؟ انطلاقاً من هنا، لا يظهر "كاليغولا" الإمبراطور الروماني بوصفه طاغية تاريخياً فحسب، بل ككائن فلسفي صدم بعبثية الوجود فقرر أن يعيش هذه الحقيقية حتى نهايتها الأكثر قسوة. وتبدأ المسرحية من لحظة مفصلية تتعلق بموت دروسيلا، أخت "كاليغولا" الحبيبة في حدث يشكل الشرارة الأولى لولادة الوعي لدى "كاليغولا"، إذ إن هذا الموت لا يقرأ هنا بوصفه فاجعة شخصية وحسب، بل كاكتشاف وجودي: الإنسان يموت، والسعادة مستحيلة، والعالم لا يقدم ما يعوض على ذلك. وهكذا إذا لا يكون أمام "كاليغولا" إلا أن يولد من جديد لا بوصفه مجنوناً بل بوصفه عاقلاً أكثر مما ينبغي. إنه عقل يرفض الأكاذيب الاجتماعية، ويريد أن يفرض الحقيقة العارية على الجميع مهما كان الثمن.

لا للحلول الوسطى

لدى كامو لا يتحول "كاليغولا" إلى طاغية لأنه شرير، بل لأنه يرفض الحلول الوسط. إنه يريد الحرية المطلقة، العدالة المطلقة، الصدق المطلق، وهي مطالب مستحيلة في عالم إنساني محدود. ولهذا يتحول مشروعه إلى مشروع يتعلق بالعنف المنظم: يقتل، يهين، يصادر ولكن ليس بدافع اللذة فحسب، بل انطلاقاً من تجربة فلسفية. إنه يريد أن يرى إلى أي حد يمكن للإنسان أن يتحمل الحقيقة إذا أجبر عليها. "كاليغولا" هنا، بالتالي، الوجه المظلم للوعي العبثي. ففي فلسفة ألبير كامو، العبث لا يقود بالضرورة إلى العنف، بل إن الرد الأخلاقي الصحيح عليه هو التمرد الإنساني، لا التدمير، بيد أن "كاليغولا" يختار طريقاً آخر هو طريق السلطة كتعويض على فقدان المعنى. إنه يستخدم موقعه الإمبراطوري ليشرك الآخرين في قلقه، وكأن الألم لا يحتمل إلى حين يعمم. وعلى أية حال فإن الشخصيات المحيطة بـ"كاليغولا" هنا، ولا سيما شيريا وسكيبيو، تمثل مواقف متنوعة من هذا العبث. شيريا هو صوت العقل الأخلاقي الذي يدرك أن الحقيقة إن لم تحتمل يجب أن تروض لا أن تفرض بالقوة. أما سكيبيو الشاعر، فيجسد هشاشة الإنسان أمام سلطة لا منطق لها، سلطة تحول الفن نفسه إلى فعل خطر. والحقيقة أن في اشتغاله على التوازن بين الشخصيات، يرسم كامو خريطة دقيقة للصراع بين الحرية المطلقة والفوضى القصوى. في النهاية، وكما فهمها شاهين نفسه يومها، ليست "كاليغولا" مسرحية عن إمبراطور روماني، بل عن كل سلطة تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وعن كل عقل يرفض حدود الإنسان. إنها عمل تأسيسي من أعمال مسرح العبث، لكنها في الوقت نفسه جرس إنذار شديد الوضوح: إن مواجهة عبث العالم لا تمنحنا الحق في تدميره، بل تضع علينا مسؤولية إضافية فحواها أن نعيش في هذا العالم من دون أن نجعل من أنفسنا جلادين باسم الحقيقة والدفاع عنها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة