ملخص
تتكفل أمانة العاصمة عمّان عادة بدفن جثامين من ليس لهم أوصياء أو أهل، وكل جثمان يدفن في قبر يحمل شاهداً عليه الاسم وتاريخ الوفاة، ويجري الاحتفاظ بالمعلومات لدى الجهات المعنية، ومع غياب إحصاء مركزي علني يخص عدد الجثث المجهولة، ثمة مطالب بضرورة إدارة أعباء دفن الفقراء ومجهولي الهوية ووضع خطط بديلة طويلة الأمد وإطلاق منصة إلكترونية.
لا توجد بيانات تفصيلية عن عدد الجثث المجهولة أو غير المطالَب بها سنوياً، لكن الأردن يسجل نحو 30 إلى 35 ألف وفاة سنوياً بحسب إحصاءات رسمية حديثة.
في الأردن، كما في كثير من دول العالم، تظهر بين حين وآخر جثث مجهولة الهوية، بلا أقارب يطالبون بها أو يتحملون نفقات دفنها، في مشهد إنساني قاس تتقاطع فيه القوانين والإجراءات الرسمية مع عمل الجهات الصحية والأمنية، وتتشابك فيه أدوار المتطوعين والجمعيات الخيرية وعمال المقابر ومغسلي الموتى.
لكن خلف هذه المشاهد ثمة موت صامت لا ينعى وأجساد لا تجد من يحتضنها سوى برادات المستشفيات، تنتظر قرار دفن قد يتأخر أياماً أو أسابيع، في غياب أي اسم أو ملامح تعيد لها هويتها.
من المشرحة إلى المقبرة
وتمثل قضية الجثث مجهولة الهوية في الأردن تحدياً إنسانياً وأخلاقياً، إذ تتجاوز الإجراءات القانونية لتلامس مبدأ "إكرام الميت بدفنه"، ويقول عاملون في مجال الدفن الإسلامي إنه عندما يعثر على جثة مجهولة أو متوف بلا هوية، تبدأ الإجراءات الرسمية من الشرطة التي تحرر محضراً بالحادثة وتحيل الجثة إلى الطب الشرعي لمعرفة سبب الوفاة والتثبت من كونها طبيعية أو جنائية.
ويوضح "المركز الوطني للطب الشرعي" أن التشريح إجراء ضروري في حالات الوفاة المجهولة، بعدها يصار إلى محاولة تحديد الهوية عبر البصمات أو تحليل الحمض النووي، وبعد استكمال الفحوص تُسلم الجثة إلى المستشفى لحفظها في الثلاجة المخصصة بانتظار مطالبة أحد الأقارب بها، وإن لم يظهر أحد خلال الفترة القانونية فترفع توصية إلى البلدية أو أمانة عمّان الكبرى لتسلم الجثمان ودفنه وفق نظام المقابر ودفن الموتى المعمول به.
ويلعب الطب الشرعي دوراً دقيقاً وحساساً وجهداً كبيراً لإثبات الهوية، وهي مهمة قد تستغرق أسابيع أو أشهر، بخاصة عندما تكون ملامح الوجه مشوهة أو الجثة في حالة تحلل، إذ يجري أخذ عينات من الحمض النووي والاحتفاظ بها في قاعدة بيانات لمحاولة مطابقتها مع بلاغات المفقودين، بينما يحدد نظام المقابر دور البلديات التي تتولى نقل ودفن حالات الفقراء ومجهولي الهوية وتتحمل النفقات، على أن تدفن في المقابر العامة المخصصة لذلك.
غياب الأرقام الرسمية
ولا توجد بيانات تفصيلية عن عدد الجثث المجهولة أو غير المطالب بها سنوياً، لكن الأردن يسجل ما بين 30 و 35 ألف وفاة سنوياً، بحسب إحصاءات رسمية حديثة.
إلا أن البيانات المتوافرة من أمانة عمّان تعطي مؤشراً جزئياً، ففي عام 2022 جرى التكفل بدفن نحو 106 جثامين من مجهولي الهوية، وجثامين أخرى ليس لها أوصياء أو أهل من منتفعي دور المسنين أو صندوق المعونة الوطنية.
ويرى خبراء أن غياب هذه البيانات يخفي بعداً إنسانياً مهماً ويمنع تطوير خطط متكاملة للتعامل مع الظاهرة، سواء من حيث التوثيق أو البنية التحتية للمقابر، ويقول مراقبون إن المنظمات الدولية المعنية مثل "اللجنة الدولية للصليب الأحمر" و"المفوضية السامية لحقوق الإنسان" و"منظمة الصحة العالمية"، تطالب دوماً الحكومات بضرورة حفظ كرامة الجثث المجهولة وتوثيقها، وتوصي هذه الجهات بإنشاء قواعد بيانات للحمض النووي في ظل وجود ثغرات كضعف التنسيق بين الجهات الطبية والبلديات في بعض المحافظات، وضغط المساحات داخل المقابر الكبرى ونقص التمويل لبرامج حفظ الحمض النووي وتطوير أنظمة التتبع الرقمي للجثث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شهود الميدان
وبين برودة المشرحة وهدوء المقبرة، يبرز دور العمال المتخصصين بالتغسيل والتكفين والدفن لأجساد مجهولة باتت مجرد أرقام، ويقول أحدهم "نغسل كل جثة كما لو كانت لشخص نعرفه أو من أقاربنا، لأن مرارة الموت وحيداً مؤلمة، وأحياناً يصلنا متوفى بلا أوراق لا نعرف اسمه ولا قصته، فنكفنه بالدعاء ونشيعه بصمت".
ويوضح أحد عمال المقابر "تصلنا أوامر من البلدية بدفن الجثة بعد اكتمال الإجراءات، ونكتب على الشاهد فقط رقم الملف وتاريخ الدفن إن كان الشخص مجهولاً، فبعضهم يدفنون في زوايا نائية من المقبرة لكننا نحاول أن نحافظ على كرامتهم قدر المستطاع".
هذه القضية الانسانية تبقى ذات بعد وجداني عميق في مجتمع لا يزال يعلي شأن قيم التكافل والاحترام للموتى، إذ يثير مشهد دفن جثة بلا أهل مشاعر متباينة، ففي بعض الحالات تكون الجثث لأشخاص فقراء أو لعمال وافدين تائهين أو لأشخاص مجهولي الإقامة والهوية، ومع غياب إحصاء مركزي علني يخص عدد الجثث المجهولة، ثمة مطالب بضرورة إدارة أعباء دفن الفقراء ومجهولي الهوية ووضع خطط بديلة طويلة الأمد وإطلاق منصة إلكترونية رسمية تنشر بيانات محدودة عن الجثث المجهولة.
قصص مؤلمة
وثمة كثير من القصص المؤثرة للجثث المجهولة في الأردن، من بينها حادثة السيول التي ضربت منطقة البحر الميت عام 2018، وتوفي جراءها عدد من الطلبة غرقاً، وقد بقيت إحدى الجثث في ثلاجة الموتى لأيام عدة تحت وصف "لم يتعرف عليها أحد"، فالجثة رقم (21) لم تمنح اسماً لأيام وكانت مجرد رقم بلا عنوان واضح لأهلها، مما زاد من ألم الانتظار والشكوك قبل أن يتوصل الطب الشرعي إلى هويتها عبر فحص الحمض النووي.
وفي قصة أخرى عثر على جثة امرأة أربعينية من دون تحديد هويتها على طريق المطار في عمّان وهي في حال تحلل، وبعد نقل الجثة إلى مركز الطب الشرعي لم يتمكن من تحديد هويتها.
من بين الجثامين التي تكفلت الأمانة بدفنها جثمانان لطفلتين من الجنسية السورية في الرابعة والسادسة من عمرهما، توفيتا بحريق منزل العام الماضي، لعدم وجود أوصياء أو أهل لاستلام الجثمانين.
ويطلق على قبور المجهولين اسم "مدافن الصدقة" أو "مقاطيع"، مما يعكس احتواء المجتمع لهم بعد أن انقطعت صلتهم بأهلهم، وتكشف الجهات المتخصصة آلية التعامل مع هذه الجثث بالقول إن الجثمان يحفظ في الثلاجة مدة لا تقل عن 15 يوماً بعد انتهاء الإجراءات القانونية، لمحاولة الاستدلال على هويته بالتحري والمقارنة مع بلاغات الغياب، وفي حال عدم التعرف إلى الهوية بعد انقضاء المدة واستنفاد كل السبل، يصدر المدعي العام أمراً رسمياً بالدفن، وتقول أمانة العاصمة عمّان إنها تتكفل عادة بدفن جثامين من ليس لهم أوصياء أو أهل مجاناً، وبكلفة تصل الى 100 دولار تقريباً لكل جثمان، وفق ما يكشف عنه المتحدث الإعلامي في أمانة عمّان ناصر الرحامنة، الذي يؤكد أن القيمة الحقيقة للمقابر ورسوم الدفن أكثر بكثير، ولكن الأمانة تتحمل هذا الفرق في السعر.
ويضيف الرحامنة أن "كل جثمان يدفن في قبر يحمل شاهداً عليه الاسم وتاريخ الوفاة، ويجري الاحتفاظ بالمعلومات لدى الجهات المعنية في حال ورود أي استفسار حوله في أي وقت لاحق بعد تسجيل الوفاة"، بينما يؤكد مدير "المركز الوطني للطب الشرعي" ماجد الشمايلة أنه يمكن الاحتفاظ بالجثث المجهولة في ثلاجاته مدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر، بحسب قانون الصحة العامة، لغايات صحية ونظراً إلى وجود عدد محدود من الثلاجات، موضحاً أنه بعد مرور المدة المحددة تجري مخاطبة الادعاء العام الذي يصدر قراراً بالدفن إكراماً للمتوفى مع حفظ جميع الأوراق المتعلقة بالوفاة، وخلال العام الماضي جرى رصد 46 جثماناً لبالغين وأطفال، إضافة إلى أجنة وبقايا إجهاضات.
حقوق محفوظة
لكن في المقابل يشير حقوقيون إلى ضرورة حفظ حقوق المتوفى بعد الدفن، إذ يتطلب التعامل مع الجثث المجهولة التي تتكفل الدولة بدفنها تمييزاً دقيقاً بين فئتين رئيستين، وهما الجثث مجهولة الهوية وجثامين المقاطيع (عديمي الأوصياء)، فالفئة الأولى تمثل جثماناً لا يمكن تحديد صاحبه بأية وسيلة تحقيق أولية، وتخضع لإجراءات تحقيقية مشددة تبدأ بالتشريح الإلزامي لتحديد سبب الوفاة، مروراً بتوثيق كامل للمواصفات الجسدية مثل البصمات والأوشام والعلامات الفارقة، وضرورة أخذ عينات الحمض النووي (DNA) وحفظها في بنك العينات الجنائية كـ "بصمة حياة" دائمة، تحسباً لظهور أقارب لاحقاً، ولا يصدر أمر دفن هذه الجثامين إلا بقرار رسمي من المدعي العام بعد استنفاد مدة لا تقل عن 15 يوماً في ثلاجة الموتى، مع حفظ ملفها كاملاً لدى النيابة العامة.
أما الفئة الثانية، "جثامين المقاطيع"، كما تسمى باللهجة المحلية الدارجة، فغالباً ما يتعذر الوصول إلى ذوي هؤلاء مثل الأشخاص الفقراء الذين لا معيل لهم، أو العمال الوافدين، ولا يوجد أوصياء يطالبون بهم أو يتكفلون بنفقات دفنهم، وهنا يجري التعامل معها كواجب تكافلي وإداري تتولاه البلدية أو أمانة عمّان وفق نظام المقابر.
يشار إلى أن القانون الأردني يسمح بنبش القبر كإجراء استثنائي لا يجري إلا بأمر صريح من المدعي العام وإشراف فريق الطب الشرعي الذي يقوم باستخراج الرفات لأخذ عينات بيولوجية ومطابقتها بالحمض النووي للأقارب، ليجري بعدها نقل الجثمان وإعادة دفنه بكرامة في مقبرة العائلة، مما يحافظ على التوازن بين تطبيق الإجراءات القانونية وحفظ الكرامة الإنسانية للمتوفى.