Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تروما كشف العذرية في رواية "32 ديسمبر"

إبراهيم عبد المجيد في "منفيستو" البلاد من الملحمية إلى الواقعية الرقمية

لوحة لأسامة دياب (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

استطاع إبراهيم عبدالمجيد، منذ روايته "في كل أسبوع يوم جمعة" 2009، الخروج برشاقة من أسر الرواية الملحمية المتمثلة في "ثلاثية الإسكندرية" 1996 - 2012، إلى فضاءات ما أسميه بالواقعية الرقمية، إذ أصبحت التكنولوجيا متمثلة بوسائل التواصل الاجتماعي أدوات فنية حاضرة في بنيته الروائية، تعكس تحولات المجتمع بعد ثورات الربيع العربي.

 لعل الكتابة تحت عنوان الواقعية الرقمية هي استمرار لتحولات الرواية ضمن شرط نظريتها، ويمكنها أن تحاكي اندماج أدوات العصر وما تفرضه من أسئلة وتكيفات بنائية في بنية الرواية، باندماج تلك الأدوات، وتكييفها للحياة اليومية. ولعل هذه الواقعية الرقمية لم تلغ لدى عبدالمجيد النزوع إلى تهجين نصوصه بتقنيات أخرى تجمع بين الفانتازيا والعجيب والغريب، ليتمكن من إقامة بناء يستطيع مواجهة عالم مجنون بمتغيرات سريعة وعنيفة، كما في فعل في رواياته من مثل: "قبل أن أنسى أني كنت هناك" 2018، و"قطط العام الماضي" 2020.

تشكل روايته الجديدة "32 ديسمبر" (دار المتوسط 2024) مثالاً على هذا الاستمرار في عالم الواقعية الرقمية، إذ تطرح قضية كشف العذرية في أحداث التاسع من مارس (آذار) 2011، والصدمة التي أحدثتها في كل من مصر والعالم العربي. وتروى بأصوات ثلاث بنات تعرضن للكشف: دارين، وسلافة، وروان، لنعيش معها بعد أكثر من عقد من الزمان تلك التروما التي حملتها الشخصيات، وأثرها في حياتهن، وعلاقاتهن، وحتى على من حولهن من عائلات، وأصدقاء، وأحبة. الرواية مكتوبة على شكل إيميلات، تبدأ ببنية سهلة ثم تنفجر بالسخرية المبكية، وتعلو كل رسالة منها الصيغة الرقمية الآتية، أو بالعكس وفاقاً للمرسل وللمستقبلين:

To: [email protected]

[email protected]

From: [email protected]

البرغشة التي تزعج الفيل

لعل الحوادث الاستثنائية العجيبة تحدث طوال الوقت حولنا، لكننا نحتاج إلى رؤية ناقدة تجمعها من كل مكان، وتربط بعضها ببعضها الآخر، ومن ثم تفلسفها بسخرية ديوجينية، وعلى طريقة بطلات الرواية الثلاث: دارين، وسلافة: وروان: (عايزين رواية يا إبراهيم!) لتكون رواية إبراهيم رواية ساخرة صغيرة في 134 صفحة، لكنها كما يقول ستيفان زفايغ في (عنف الديكتاتورية): البرغشة التي تزعج الفيل. وعلى رغم أن كلاً من سلاف وروان تزوجت برجل متفهم، لم تنج من عقابيل التروما، في حين لم تتزوج دارين وقررت كتابة الرواية، روايتهن. أما حمدي النبوي بائع السجاد الذي تعرفت إليه دارين صدفة، فهو زوج لبنى ياسين التي كانت زميلة دارين في الزنزانة، في اعتقال كشف العذرية، وماتت بعد زواجها بسنة تحت ضغط نفسي أيضاً، مثلما ماتت والدة دارين في حسرتها، وبقي أبوها كما تقول ليدعمها ويطمئن على مستقبلها، إلى أن يسلمها إلى زوج يرعاها، ثم يمضي كما فعل في نهاية الرواية.

تستعين الرواية بأدوات العجيب، إذ يمعن الخيال في تصوير الفداحة، فيخرج الموتى من المقابر للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات، و"الكوارع تمشي في الشوارع"، كما يقول سائق أوبر منتقداً غلاء الأسعار: "الكورع بمتين وخمسين جنيه، الكوارع اللي هي أكلة الفقير بقت نار... ده الكورع لو بيمشي في الشارع مش حيكون بالسعر ده".

تفتح دارين في أحد إيميلاتها ملفات التزييف والفساد في أحداث يومية تخص المجتمع، منتقدة تحولات ما بعد الثورة، أو ديكتاتوية ما بعد الثورات: "أي حديث عن الديمقراطية لا معنى له. كلنا نعرف ماذا جرى في الأسعار وفي قيمة الجنيه أمام الدولار، ونعيش حياة ضنكاً. نعرف أيضاً السجون التي بنيت وزادت على الـ20 سجناً امتلأت بالشباب والكبار، التي يقولون إنها من أجل الوطن. هؤلاء كلهم كان لهم رأي، وليس من بينهم من حمل سلاحاً".

السخرية في مواجهة العنف

لا شك في أن السخرية لا تتحقق إلا من خلال وضعها في سياقها الاجتماعي التاريخي، وفي سياق الحدث العام للجماعة المشتركة كما يشير برغسون، وترتبط بشكل وثيق بالنظام القمعي السياسي والأخلاقي كما يرى باختين، وهي عند كيركجارد، الذي عارض هيغل في موقفه من السخرية، وسيلة يطور بها الإنسان إدراكه للحقيقة والوجود، إذ يشير إلى أنها ضرورة ثقافية واجتماعية للتعبير عن موقف محدد تجاه ما هو سائد ومهيمن، يحيل ذلك إلى مواجهة هذه المجموعة الصغيرة من الأبطال التحولات العجيبة في مصر بالسخرية، إذ يجتمعون في لقاءاتهم الفردية أو الجماعية في مطعم اسمه "دواعي أمنية" حافل بصور فناني الزمن الجميل، وتأتي سلسلة الأسماء الغريبة التي تشير إلى مفارقات يعيشها المواطن المصري تحت تحولات الحكم، مترافقة مع حال نقدية ساخرة غير منتهية، حيث تحمل أسماء الأماكن والشخصيات دلالات نقدية وساخرة، مثل "نجلاء المستخبي/ اظهر يا مستخبي"، البنت الجميلة، التي كانت معهن في الكشف، والتي حين التقتها روان أخيراً سألتها عن سبب إعراضها عن الزواج، فقالت: "عرفت ثلاثة شبان، طلب كل منهم أن ينام معي قبل الزواج. وحين كنت أرفض، ينظر لي كأنه يقول إشمعنى أنا! كنت أشعر أنه يريد أن يكشف على عذريتي لا أن يتزوجني".

وهكذا يتابع النص السخرية من الأسماء للإشارة إلى زمن تتهافت فيه أنواع التعبيرات الأخرى أو تفقد أثرها، أمام الهيمنة، ووجوم المواطنين، وآلام النساء بإخضاعهن بالوصمة: "لكن فتاة معنا سألت أباها (عن معنى اسم ريتاج)، فقال لها إنها كلمة فارسية معناها ترباس الباب وليس المفتاح... يضحكون مع ريتاج، ويقولون لها يا ترباس". يستمر النقد مع كل حكاية من حكايات الشخصيات، إذ يحكي حمدي النبوي زوج لبنى: "هل نسيت أن لبنى كانت تدرس الموسيقى، وكتبت فيها مقالات أيضاً. هي التي أخذتني إلى عالمها الساحر، هي التي جعلتني أدرك الفرق بين موسيقى الحياة الحقيقية وموسيقى العشوائيات. وسكت لحظة ثم قال العشوائيات لم تنتج هذه الموسيقى وهذا الغناء فحسب، لكن أنتجت حكاماً أيضاً".

تنتقد السخرية عالم النيوليبرالية، الذي يحفل بتطبيقات أوبر، وكريم، ودرايف إن، في حين أن البشر الذين تسيرهم ينتمون إلى عالم القمع الستاليني، ولا يزالون خائفين من التقارير الأمنية التي لم تبددها الحرية المدعاة: "كان يسمع أباه يتحدث مع أصدقائه عن تلك الأيام، فيقول منه لله حسني مبارك منع الغرز اللي السادات تركها للجميع. يقول زوجي عادل إن السادات ترك الغرز حتى تتخلص الناس من همومها فتنساه... النكتة التي شاعت بعد ثورة يناير، وهي أن حبيب العادلي وزير الداخلية قال لمبارك: قعدت تقول لي امنع الحشيش امنع الحشيش، لما الناس فاقت وعملت ثورة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تظهر الروبوتات في الرواية بوصفها جزءاً من فضاء الواقعية الرقمية، لكنها كما تبدو روبوتات مكتئبة تستمد حالتها من اكتئاب المزود، وإهمال السلطة، كما يبدي الحوار بين دارين والروبوت الذي يعيش معها: "رأيت الروبوت يظهر على وجهه الاكتئاب ويقول لي: ما ذنبي كي تشحنيني بكل هذه الآلام؟ ومن قال لك إني أفهم هذا كله. قولي لي شيئاً أفعله وأضحك. أنت تكتبين رواية وليس منشوراً سياسياً". ويقول مرة أخرى: "لا تخافي أنا روبوت مسكين، نسيت الحكومة أن تشحنني بالمعلومات منذ أسبوع. صرت بلا عمل، فجئت إليك تشحنينني بأي معلومات لأقوم بتنفيذها...".

 التاريخ مرجعية الواقع، من الجبرتي إلى رولان بارت

يشير رولان بارت إلى أن الأحداث التاريخية ليست مجرد توثيق للماضي، بل تفكيك للحاضر وكشف لآليات الهيمنة الثقافية، إنها أداة لفهم كيفية تشكل الأفكار، وتقديمها على أنها طبيعية، بينما هي في جوهرها تاريخية وأيديولوجية. يقدر بارت التاريخ لأنه يظهر غرابة العصور السابقة، مما يمكننا من فهم أنفسنا بشكل أفضل. فالمسافة الزمنية تكشف عن اختلافات جوهرية تضيء الحاضر من زاوية جديدة، إذ تقول روان في أحد إيميلاتها: "قرأت كتاب عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي. كان مملوءاً بالأحداث الغريبة. دعونا من الحديث عن الحكام وصراعاتهم. الحكام منذ دخل العرب مصر حتى الآن لم يخرج منهم حاكم سليماً إلا تقريباً عدلي منصور. ربما هناك واحد أو اثنان آخران. كلهم قتلوا بعضهم. وكان فيهم من يقتل أباه وإخوته وأبناءه أيضاً...".

تظهر الوظيفة المرجعية للتاريخ، التي يحكي عنها رولان بارت، أن التاريخ هو الذي يكشف عن أن ما نعتبره طبيعياً اليوم لم يكن كذلك دائماً، وتربط روان في أحد إيميلاتها بين حادثة الحاكم بأمر الله وزيف الحوار الوطني، وغياب الديمقراطية التي سعى إليها الشعب في ثورته، فتنتقد الغلاء الذي أصاب مصر، والسلع في الأسواق، وتربطها بالتاريخ، في حوار مع زوجها بعدما عاد من المول مع مشترياته: "اليوم اكتأبت، ليس بسبب الأسعار فحسب، لكن لأني رأيت كل من حولي يدعون على من كان السبب، وخفت أن يرتفع الدعاء من الجميع، فيملأ فضاء المول، وأن يتم غلق المول علينا. لا القبض علينا. غلق المول ووضع علامة أنه لم يكن هنا مول. وتذكرت الحاكم بأمر الله وهو يمر في منطقة الأزبكية، ويرى حماماً للنساء، ويسمع أصواتهن. ولأنه كان قد أمر بمنع خروج النساء من البيوت، أغلق عليهن الحمام، ومتن داخله من الجوع... ثم سألني هل تتابعين ما يسمى الحوار الوطني؟ قلت له: أنت تعرف أني ابتعدت عن السياسة، فلماذا تعود أنت إليها؟ هل شراء مأكولات للبيت مرة واحدة يفعل بك ذلك؟ هل سأعد الطعام وأنا أبكي وأنت الذي تشجعني أن أنسى؟ ثم ضحك وقال تخيلت الحاكم بأمر الله يمر عليهم ويسأل، فيعرف أنه هنا حوار وطني، فيأمر بإغلاق الأبواب عليهم إلى الأبد".

تأويل العنوان: من وادي الملوك إلى أحداث غزة

لا تغيب أحداث غزة عن الإيميل الختامي في الرواية، فتشير دارين إلى أن الناس مع هذه الأحداث يتبادلون التهاني بالعام الجديد، الذي يبدو امتداداً لما قبله، مما يحيل إلى العنوان: "الـ32 من ديسمبر"، ويمكن تأويله بخيط الزمن الذي يربط من يرقدون في وادي الملوك بمن يعيشون على صفحات "فيسبوك" و"إكس" إيلون ماسك، أو في بيوتهم مع الروبوتات. أولئك جميعاً يربطهم حبل الظلم، لكنه أيضاً حبل الحياة، الذي يختصره الوقوف على عتبة الجحيم: "أيها الداخل إلى هذا المكان، تخل عن كل أمل".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة