Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إبراهيم عبد المجيد يروي تحولات ما بعد تجربة السجن

في "الهروب من الذاكرة" يخرج السجين حاملاً زنزانته معه ويعجزعن استعادة الحرية

السجن والسجناء في لوحة نبيل عناني (صفحة الرسام على فيسبوك)

يقول علماء النفس والجريمة، إن السجون تترك آثارها على نزلائها، الذين يصبحون بعد وقت يقضونه داخلها، أكثر قلقاً وخوفاً وارتياباً. يتعرضون للانسحاب الاجتماعي، والانعزال النفسي. يتنازلون عن اختياراتهم الحرة، ويصبح تأقلمهم مع بيئة السجن عائقاً أمام استئناف حيواتهم الطبيعية، عند إطلاق سراحهم، فيصابون بمتلازمة ما بعد السجن، التي تزيد من صعوبة الانخراط في العلاقات، وانعدام القدرة على اتخاذ القرارات. هكذا يغادر السجين محبسه، بينما تبقى روحه قيد الأسر، تحاول التمرد والفكاك. على هذه الحقائق نهضت ثلاثية الكاتب إبراهيم عبد المجيد "الهروب من الذاكرة" (دار المتوسط).

تشاركت الروايات الثلاث: "العائد إلى البيت في المساء"، و"طريقان للهروب"، و"لأن في الدنيا نساءً"، الشخوص نفسها، وكذلك السياق العام للأحداث، الذي بدأ بتلمس أحد المعتقلين السياسيين طريقه إلى منزله، في "أرض الجمعية" في ضاحية إمبابة، شمال غربي القاهرة، بعد ثبوت براءته، والإفراج عنه، لكن خمس سنوات قضاها "مجدي هبة الله" بريئاً في محبسه، نالت من روحه وجعلت من الحياة خارج القضبان معاناة شديدة الوطأة.

نسق أفقي

انتهج الكاتب خلال رحلته، التي بدأت أحداثها بخروج البطل من محبسه، أسلوب الراوي العليم، واستخدم نسقاً أفقياً تدافعت عبره الأحداث منطقياً إلى الأمام، في حين تخلل السرد الكثير من المفارقات الزمنية المستقبلية، والكثير أيضاً من الارتدادات الزمنية، عبر تقنية التذكر، التي عاد عبرها مجدي إلى زنزانته، وخمسة أعوام من عمره، قضاها برفقة سجناء آخرين. جمعتهم البراءة من تهمة الإرهاب أو الانتساب إلى جماعة سياسية محظورة، بل إن بعضهم لم يسلك طريقاً إلى السياسة قط. ولم يكن له أي انتماء لأية أيدولوجية فكرية.

وخلف توليفته التي جمعت بين شخوص تعايشت معاً داخل السجن، على الرغم من اختلاف مذاهبها وأفكارها، مرر الكاتب إيمانه بضرورة الاختلاف وإمكانية التعايش، في ظل التنوع الفكري، وتباين الانتماءات. وإن كان مثل ذاك التعايش، لا يحول دون تصارع الأفكار لإثبات جدارة أوصدقية مذهب عن آخر. وهذا ما بدا في نقاشات بعض الشخوص، من ذوي الانتماءات المختلفة داخل الزنزانة، والتي كانت تدور بين "حسام وهبان" اليساري، و"الشيخ يسري" السلفي. وعلى الرغم من بروز هذا الصراع الظاهري كان الصراع الداخلي أشد وطأة. عاشته الشخوص منقسمة بين التوق إلى الحرية ومخافتها، محاولة تجاوز الماضي ونسيانه، عبر بداية جديدة وأمل تتسع معه الحياة، وبين الاستسلام لقيود غير مرئية، تأسر الروح، فتدفع بعض المعتقلين، ومن بينهم "مجدي"، إلى محاولة العودة طوعاً للسجن مرة أخرى. وتجعل من بينهم من يرفض الخروج منه.

البطولة المكانية

إلى جانب الشخوص، لعب المكان دوراً رئيساً في السرد، إذ أنتج الكاتب عبر امتداد فضاءاته المكانية بين "سجن القناطر"، و"أرض الجمعية"، وميدان التحرير، ومدينة 6 أكتوبر، وعلامات سيميائية. فكان السجن اللبنة الأولى التي اتكأ عليها النص، لكونه المسؤول الأول عن العطب، الذي حل بالروح، ونتج عنه النمو الدرامي للأحداث، بينما كان لاختيار "أرض الجمعية" دلالة أنتجتها التركيبة الديموغرافية لسكان هذا المكان، الذين ينتمي معظمهم للتيارات الإسلامية. وهذا ما سمح بصدفة أن يصلي "مجدي" خلف شيخ، يثبت انتماءه لجماعة إرهابية، بل ويجمعهما مقهى وأرجيلة. فيصبح العازف عن السياسة مشتبهاً به. ويزج به في السجن، الذي تضيع خلف قضبانه خمس سنوات - من عمر شاب لم ينتمِ يوماً إلى يمين ولا يسار - سدى، بلا جريرة ولا ذنب. الفضاء المكاني الأخير كان في مدينة 6 أكتوبر. وقد اتخذه الكاتب رافداً للأمل، وملجأ للشخصية المحورية، في محاولاتها للهروب من الماضي، إلى فضاءات المستقبل الرحبة. وإضافة إلى الفضاءات المكانية الرئيسة للسرد، أبرز الكاتب حضوراً هامشياً لأماكن أخرى، مثل شارع محمد محمود، والنادي السويسري، ومقار بعض الأحزاب، لينتج عبرها مزيداً من العلامات والدلالات. أما الفضاء الزمني للأحداث، فشمل سنوات ما بعد ثورة يناير، حتى ما قبيل اللحظة الراهنة. وقد أتاح هذا الفضاء، رصد عديد من القضايا الاجتماعية، التي تنوعت بين سجن الأبرياء، والإرهاب ومسؤولية السجن عن اتساع رقعته، نتيجة الجمع بين الأبرياء والإرهابيين الحقيقيين، والتشوه الفكري لدى بعض الفئات من ذوي الانتماءات لتيارات الإسلام السياسي، والذي برز في اتخاذ "المقاول أبو رقية" محظيات، معتقداً أنه لا يأتي بحرام، وإنما يسير على الخطى الصحيحة للدين.

مشكلات الواقع

تطرق عبد المجيد إلى قضايا أخرى، من بينها الزحف العمراني على الأرض الزراعية، ووأد الجمال واغتيال الطبيعة، والشيزوفرنيا الأخلاقية، وانتشار الإدمان وزيادة العنف وارتفاع معدلات الجريمة، ومشاكل التعليم وكثافة التلاميذ في المدارس، وتدني أحوال المستشفيات، وعمالة الأطفال، وشيوع ظاهرة التسول، والفساد والانحطاط الأخلاقي، وانحدار الذوق العام.

وكما رصد مشكلات الواقع وقضاياه، ذهب بعيداً إلى داخل النفس الإنسانية. ورصد تناقضاتها وأوهامها ومخاوفها. وأبرز بعض أعطابها. واستدعى كذلك بعض اضطراباتها، مثل متلازمة ستوكهولم، أو التعاطف مع الجاني. وأيضاً ظاهرة النيكروفيليا أو "معاشرة الأموات".

في سرد إبراهيم عبد المجيد تتآلف الفنون وتمتزج، وتتداخل الأجناس الأدبية. فعادةً ما يبرز بناؤه حضوراً للسينما، والفن التشكيلي، والموسيقى، والأغاني، وحضوراً آخر للشعر، والتراث الفكري والأدبي العربي والعالمي، كما يعمد إلى توظيف الأسطورة. وقد استطاع عبر هذه الفنون والأجناس الأدبية، إضفاء حالة من البهجة على النص، مرر عبرها حمولات معرفية كثيفة ومتنوعة، حققت للنسيج غاية المعرفة ومتعة العقل، التي أرادها الكاتب، إلى جانب متعة الروح، دون أن تؤثر على سلاسة السرد وانسيابيته.

لم يخلُ النص من مفارقات ساخرة، لم يكن إنعاش النسيج غايتها الوحيدة، وإنما وظفها عبد المجيد في مواضع متفرقة، لإبراز قضايا ورؤى ضمنية. مررها مرات عديدة، مرة عند القبض على "جرجس منكاريوس" بتهمة الانتماء إلى جماعة "الإخوان المسلمين" المحظورة، ومرة عبر "بسام المقبوض عليه بتهمة الضحك!

تيار الوعي

كان المونولوغ الداخلي والحلم، تقنيتي الكاتب، اللتين اتسقتا مع غايات نصه، في الولوج إلى عوالم النفس الإنسانية المأزومة، وإبراز "الأنا" التي تتأرجح بين الانهيار والصمود، واستطاع عبر استخدامهما الكثيف، الكشف عن الأفكار المستترة، الرغبات المقموعة والمشاعر المكبوتة. واستطاع أيضاً تجسيد احتدام الصراع، في العوالم الداخلية للشخوص. كذلك كانا أيضاً بوابتيه لاستدعاء الفانتازيا والخيال، والرموز والدلالات. وانطلق منها جميعها لبث رؤاه الفلسفية، وإنتاج مأثوراته الخاصة. فالشجاعة - في منظوره - إذا ضاعت، ضاع معها كل شيء في الحياة، والعالم أصعب من أي إدراك، والحياة تصبح أكثر قابلية للحياة بفضل النساء، والزوجة سقف البيت، بينما الأم سقف العالم، وهي رؤى تعبر عن نزوع إلى الحكمية. كما تعبر عن إيمان الكاتب العميق بقيمة المرأة، وما يتيحه الحب من قدرة على اجتياز الألم، وتحمل الصعوبات.

بين القديم والحديث

جمع النص في طياته الكثير من الثنائيات المتقابلة، ومن بينها، الجمال والقبح، والأمل واليأس، والشجاعة والانهزام. وتجاوزت المقابلات الجانب القيمي، إلى الجانب المادي، وبلغت حتى طبائع الشخوص واختياراتها. وهذا ما بدا بين شخصيتي "مجدي هبة الله"، وصديقه "سمير التايه"، فبينما سلك "مجدي" كل الطرق التي تمكنه من البقاء، اختار "التايه" الرحيل، لكن كلا الخيارين كانا لتحقيق الهدف نفسه، وهو الهروب من واقع مأزوم. كذلك كان رحيل "التايه" الذي عبر خلاله الحدود حتى وصل إلى الأندلس "إسبانيا"، نافذة أطل منها الكاتب على العالمية، لينقل ومضة من كل مدينة عبرت بها شخوصه. ولم تكن الرحلة إلى إسبانيا طريقاً إلى حضارة الغرب، فحسب، وإنما كانت أيضاً وسيلة لاستدعاء التاريخ، حين كانت الأندلس جزءاً من الحضارة الإسلامية. يعزز الكاتب عبر هذا الاستدعاء، حالة الحنين إلى الماضي، دون أن يغفل معالم الحاضر، وما حل عليه من تغييرات. أبرزها عبر حضور السوشيال ميديا، لا سيما "فيسبوك"، وما أتاحه له من دور رئيس في تطور الأحداث. وعلى الرغم مما بدا عبر السياق المتصل الذي جمع الروايات الثلاث، وكثرة القواسم المشتركة بينها، وتسلسل الأحداث وتعاقبها، من أننا أمام رواية واحدة، ذات أجزاء ثلاثة، فإن الكاتب كسر هذا الاتصال، بمبادلة الأدوار بين الشخوص. فبينما منح "مجدي" صدارة المشهد في الرواية الأولى، سحبه في الرواية الثانية إلى الخلفية، ليصبح "سمير التايه"، الشخصية الثانوية في النص الأول، هو الشخصية المحورية في النص الثاني، ثم أعاد "مجدي" مرة أخرى إلى مركز الأحداث في الرواية الثالثة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان التشويق الأداة الناجعة التي لجأ إليها عبد المجيد، للحفاظ على ولاء قارئه، خلال رحلته السردية الطويلة، لا سيما خلال رحلة "التايه" ورفيقته في الصحراء، وعبورهما الحدود بلا أوراق تثبت هويتيهما. وما أبداه من ملاحقة "الشيخ أبو رقية" لمحظيته الهاربة. وأضفى هذا التشويق أيضاً، على رحلة "مجدي" إلى الخلاص، ليتجاوز سكونية السرد، دافعاً بالمتلقي للمشاركة، عبر ترقب – وتوقع – مصير الشخصية، ورفقائها الأبرياء، ممن شاركوه الحبس، بعد إطلاق سراحهم. ومثلما لجأ الكاتب إلى المقابلات، لجأ أيضاً إلى التناظر والتماثل في غير موضع من النسيج. بدا بين شخصية أبو زيد الهلالي التراثية، وأبو زيد الهلالي السائق، الذي عبر بـ"سمير التايه"، ولبنى إلى حدود ليبيا. وبدا أيضاً بين حال المصريين بعد ثورة 1952، وبين الممثل عبد المنعم إبراهيم "عصفور"، في الفيلم العربي القديم "سر طاقية الإخفا".

اعتمد الكاتب الفصحى السلسة، وأنعشها بلمحات من السخرية، بينما تخللت العامية سرده، وربما كان من الأفضل لو قصرها على مساحات الحوار، لكنها في المجمل كانت لغة حية تجسد الواقع، تنساب منها الموسيقى، وتخبر بجمال الحياة، وتحفز الأمل، الذي تعزز بنهاية تشي بغدٍ أكثر قدرة على قبول الاختلاف.  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة