Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإنسانية الرقمية كمفهوم يضع الإنسان قبل التقنية

كتاب للباحث غسان مراد يرصد تأثير التكنولوجيا على اللغة والثقافة والمجتمعات

العالم الرقمي واقع لا مفر منه ولا بد من التعايش معه بمعرفة وذكاء حتى لا يهدد الإنسان والفكر والمجتمعات (كيوب ليرننغ)

ملخص

 في كتاب #مرايا_ التحولات_ الرقمية والتمثلات الذهنية للذكاء الاصطناعي، يدعو البروفيسور #غسان_مراد إلى #الإنسانية_ الرقمية وبناء نموذج فكري جديد لحماية الإنسان وسلوكياته وثقافته من مخاطر العالم الرقمي

في السنوات الأخيرة أصبح العالم الرقمي واقعاً تعتمد عليه الدول المتقدمة على نطاق واسع، فيما تحاول الدول النامية جاهدة مواكبة هذا التغيير، نظراً إلى دوره الجوهري في تحقيق التطور والتنمية. في كتابه الصادر في مطلع القرن العشرين "خدعة التكنولوجيا" توصل المفكر الفرنسي جاك إلول Jacques Ellul إلى فكرة أن التكنولوجيا ليست محايدة ثقافياً. وقد استمر البحث في تأثيرات التطورات التكنولوجية على الفكر والإنسان. فقدمت الكاتبة البريطانية سوزان غرينفيلد في كتابها "تغيير العقل، كيف تترك التقنيات الرقمية بصماتها على أدمغتنا؟" طرحاً جديداً حول آثار العالم الرقمي على الإنسان الذي تعود على ذلك العالم ويؤثره على تقنيات كثيرة أخرى. واستطراداً ترك ذلك تأثيراً في سلوكيات البشر وعلاقاتهم الاجتماعية وثقافاتهم وتطلعاتهم أيضاً. وفي السياق نفسه أثيرت نقاشات متوسعة حول موضوع التقنيات الرقمية، فتولد حولها جدال خلافي بين المدافعين عنها نظراً إلى ما تملكه من دور في تطور المجتمعات وتنميتها، ومن يرفضونها بسبب ما قد تحمله من سلبيات أحياناً.

أما الباحث الأكاديمي وأستاذ اللسانيات الحاسوبية في الجامعة اللبنانية البروفيسور غسان مراد فلا يحمل راية التقنيات الرقمية ولا يتخذ موقفاً مدافعاً عنها. فالحل ليس في مواجهة هذا العالم الذي يعتبر واقعاً لا مهرب منه، بل في "الإنسانية الرقمية" والتعايش مع العالم الرقمي عبر إنشاء بنية تحتية تتعامل مع الرقمنة وثقافتها بوصفها تقدم "رؤية شاملة للحياة". فطالما أن الإنسان قد تسلح بالمعرفة يبقى صاحب السلطة والكلمة الفصل والمحرك الأساس في هذا العالم بشقيه الرقمي والفعلي.

البشر لهم اليد العليا

لا تشكل التقنيات الرقمية سلطة بذاتها، بل إن استخدامها من قبل الإنسان بطريقة أو بأخرى يعطيها هذه السلطة. يردد البروفيسور مراد تلك المقولة في حديثه مع "اندبندنت عربية"، مؤكداً أنه لا يحبذ التحدث عن سلبيات أو إيجابيات للتقنيات الرقمية، بل إن موقفه حيادي أمام تقنيات موجودة في الواقع ولا بد من التعامل معها على هذا الأساس. في الوقت نفسه يمكن استخدام تلك التقنيات بشكل إيجابي فتخدم المجتمعات ومصالحها، أو يجري توظيفها بشكل سلبي ومسيء فتشكل خطراً على الفكر والإنسان واللغة والثقافات. في الحال الأخيرة يحدث التحول الخطر في مجال الدور الوظيفي للعوالم الرقمية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استكمالاً، ومن منظار كاتب "مرايا التحولات الرقمية والتمثلات الذهنية للذكاء الاصطناعي"، يبقى الإنسان ممسكاً بالدور الأساس في تحريك برمجيات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية وتطويرها. فإذا تناولنا مثلاً أولى برمجيات الذكاء الاصطناعي التي ظهرت قبل نحو 15 سنة، وهي أداة الترجمة "ترانسليت" في "غوغل" Google Translate، يلاحظ حدوث تطور مهم فيها وتحسينات مع تراجع مجالات الخطأ التي كانت كبيرة في البداية. وقد حدث ذلك التطور بفضل الإنسان الذي عمل على تصحيح الأخطاء الحاصلة في مجال الاستعمال الوظيفي لتلك الأداة الرقمية.

وسواء في المجال الطبي أو في أي مجال آخر، يبرز بوضوح دور الإنسان جوهرياً في برمجيات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية باعتبار أنها تبقى تحت سيطرته مهما بلغت من تطور. بالأحرى إنها لا تتطور إلا بفضل الإنسان. "أبسط الأمثلة على أن استخدام الإنسان للأدوات يحولها إلى سلطة فتتخذ منحى آخر، يتمثل في السكين الذي استخدمه الإنسان أولاً لتأمين الغذاء والصيد، فإذا به يستخدم لاحقاً في القتل والحروب. أليس ذلك خير دليل على أن الإنسان يقدر على تغيير وجهة استخدام الأدوات بحسب مصالحه ورغبته؟ ينطبق هذا حكماً على التقنيات الرقمية وبرمجيات الذكاء الاصطناعي. إنها تبقى تحت سيطرة الإنسان ويبرمجها على هذا الأساس ويحولها إلى سلطة لو أراد ذلك".

الانخراط في عوالم التكنولوجيا

في كتابه تناول مراد التغييرات التي تلحقها التكنولوجيا الرقمية في جوانب الحياة والمجتمع، مع ما يتطلبه ذلك من معرفة بها من قبلنا. قد تفرض التقنيات الرقمية تغييراً في العلاقات بين البشر وفي اللغة وفي أساليب الكتابة أيضاً. ويضرب مراد مثلاً على ذلك بمنصة "تويتر" التي تحدد عدد الكلمات التي يمكن استخدامها، ويتوقع أن ينعكس ذلك على اللغة وأسلوب الكتابة مستقبلاً في مواكبة لما يتطلبه هذا الأسلوب في الكتابة ضمن العالم الرقمي. بشكل عام، إن انعدام المعرفة الفعلية ببرمجيات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية يشكل بحد ذاته خطراً على الإنسان والمجتمعات، ويقود إلى مشكلات تهدد الثقافات والمجتمعات والفكر أيضاً. في ذلك الإطار يلاحظ أيضاً أن تلك البرمجيات تعتمد على السلوك الذكي، لكن بينما الإنسان يتميز بذكائه وفي ذكائه ابتكار، تعمل برمجيات الذكاء الاصطناعي على التكرار.

 

في نفس مشابه، يوضح مراد أن الإنسان احتاج دوماً إلى أدوات تساعده، وقد مثلت الكتابة نوعاً من الذاكرة الخارجية بالنسبة إليه. وقد استمر ذلك إلى أن بدأت الطباعة ومن بعدها التكنولوجيات الذكية. ويوضح ذلك المعطى أن التقنيات الرقمية وجدت أصلاً بغية مساعدة الإنسان، لكن خطرها على الفكر والمجتمعات يظهر في حال الاعتماد الكلي عليها. ولأن هذه التقنيات باتت واقعاً لا بد منه ولا بد من التعايش معه، وبما أن الجهل في هذا المجال يشكل تهديداً للمجتمعات، يدعو مراد إلى إعادة النظر في المناهج التربوية كي تواكب التحولات الرقمية، بالتالي يشير إلى وجود حاجة إلى نموذج فكري يواكب هذه الثورة الرقمية الحاصلة، وينطبق ذلك على العلوم التي تدرس سلوكيات الإنسان بما أنها حالياً لا تتناسب مع التغيير الحاصل، بالتالي ثمة ضرورة لإدخال المعلوماتية في السلوكيات التربوية بدءاً من الصفوف الابتدائية، لأن المستقبل لهذا العالم ولمن يفهمه ويتماشى معه، تجنباً للوقوع في المطبات ومواجهة أخطاره. وكذلك هنالك ضرورة ملحة لأن يسعى الأهل أيضاً وراء الاحتراف في مجال التكنولوجيا، كي يكونوا أكثر فاعلية في التوجيه في العالم الرقمي، فيتمكن الجيل الجديد من التطور بعد أن تتجذر الرقمنة فيه.

شاشات متكاثرة وحضارة واحدة

في كتاب "مرايا التحولات الرقمية" يشدد الكاتب على وجوب أن يتعامل المجتمع مع الثقافة الرقمية باعتبار أنها تحمل رؤية شاملة للحياة، مما يوجب أيضاً وضع أطر وقواعد لها. ولعل التفاوت الحاصل بين الدول المتطورة وتلك النامية يدل على أن الأخيرة لم تتمكن بعد من مواكبة التغيير المرافق لهذه الثورة ولم تعمل على توفير البنية التحتية البشرية والفكرية والمعرفة اللازمة في هذا المجال، بالتالي بقدر ما يعمل الإنسان على تعزيز المعرفة الرقمية وتطوير المقاومة المعرفية يمنع سلوكياته من التحول إلى سلوكيات آلية، مما لا شك فيه أن الواقع الحالي يستدعي رسم صورة جديدة للمجتمعات تلائم هذا النوع من التواصل وتتماشى معه تجنباً لأخطاره، وفق مراد.

من جهة أخرى، لمراد قناعة مفادها أن الشركات الكبرى قد لا تتردد في استخدام التكنولوجيا بغية تغيير سلوكيات الأفراد لخدمة مصالحها، بالتالي لا بد من الاستعداد لمواجهة هذا الخطر أو أي تحد آخر بشكل أفضل، خصوصاً أن ما يلائم ثقافة معينة قد لا يناسب ثقافات أخرى. وقد يناسب هذه الشركات أن يعتاد الناس على أمور معينة في العالم الرقمي، حتى إن تعارضت مع ثقافاتهم، فيمشي الكل في هذا الطريق.

وفي ملمح متصل، يرصد مراد مسار الانتقال من العالم الرقمي إلى العالم الافتراضي، ملاحظاً زيادة في أخطار إساءة استخدام التقنيات الافتراضية. وبالفعل فقد بدأت الدعاوى في هذا المجال في قضايا عدة شملت حدوث حالات تحرش ضمن العالم الافتراضي. ففي هذا العالم يبرز خطر ضياع الهوية، إضافة إلى الخوف من المظهرية الفائضة التي يمكن أن تتزايد وتسهم في تخبط حياة الأفراد وهوياتهم. وكذلك يشير إلى أنه في العالم الرقمي ثمة تفاوت أصيل بين من يتمرس بأدوات المعرفة الرقمية ومن يفتقدها، وقد أسهم ذلك التفاوت الرقمي في تعميق التفاوت الاجتماعي والعكس صحيح. ولا يتردد مراد في ملاحظة أن تلك الهوة المركبة من تفاوتات رقمية واجتماعية شتى قد تتعمق بشكل متزايد في ظل تصاعد سطوة العالم الافتراضي.

المزيد من علوم