Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صداقة مانيه ومالارميه تنتج صخبا فنيا واجتماعيا

الرسام يشغل معاصريه ببورتريه كافأ به الشاعر نظير دراسة كتبها عنه في مجلة إنجليزية

مالارميه كما رسمه إدوار مانيه (موسوعة الفن الكلاسيكي)

ملخص

حينما أنجز الرسام الفرنسي إدوار مانيه بورتريه عن صديقه الشاعر ستيفان مالارميه، قال البعض إن البورتريه ينضح بحيوية تجعله يبدو وكأن الرسام لم يستغرق في إنجازه سوى فسحة الوقت التي صرفها الشاعر في تدخين غليونه، وهو ما أعجب الرسام

في خريف عام 1876 حين انتهى الرسام الفرنسي إدوار مانيه وفي وقت قياسي من رسم بورتريه لصديقه الشاعر ستيفان مالارميه وأبدى كُثر من أصدقاء المبدعين، أمام الشاعر بخاصة، خالص إعجابهم باللوحة، ابتسم هذا الأخير بحياء، مكتفياً بالقول مغمغماً، "أجل يا لها من لويحة غريبة من نوعها!". ولئن كان كُثر من أولئك الأصدقاء قد حاروا في فهم ذلك الموقف من البورتريه الذي عبر عنه مالارميه في تلك الغمغمة فإن الفيلسوف جورج باتاي سيفتي بعد ذلك بأكثر من 50 عاماً بأن تلك كانت طريقة مالارميه في التعبير عن إعجابه، ولا سيما بقياس اللوحة الذي راقه كثيراً (أكثر قليلاً من 27 سم ارتفاعاً، مقابل أقل من 36 سم عرضاً). فهو، كما ذكر باتاي كان من محبي اللوحات صغيرة الحجم ومانيه كان يعرف ذلك.

ومن هنا حين كان مانيه وفي العام نفسه قد قرأ دراسة كتبها مالارميه عنه في مجلة الفنون الإنجليزية "آرت مانثلي ريفيو" سارع إلى إنجاز ذلك البورتريه الذي سيحوز قسطاً كبيراً من الشهرة، بوصفه تعبيراً عن سرور مانيه بكون مالارميه اعتبره مؤسس الفن الانطباعي الفرنسي في دراسته المشار إليها.

ولعل أكثر ما أحبه مانيه لاحقاً، كان ما قاله البعض من أن البورتريه ينضح بحيوية تجعله يبدو وكأن الرسام لم يستغرق في إنجازه سوى فسحة الوقت التي صرفها الشاعر في تدخين غليونه، مما يعني أن اللوحة على صغرحجمها تضج بحيوية تنعكس حتى في جلسة مالارميه المسترخية التي أبدع الفنان في التعبير عنها تماماً كما عبر عن نظرة الفنان التي تبدو أقرب إلى الحياء.

أما مالارميه فإنه سيعود بعد ذلك بعشرين سنة، أي بعد رحيل مانيه بـ10 سنوات ليعلق على اللوحة نفسها، وعلى ذكرياته من صديقه الرسام من خلالها بقوله إن "مانيه كان حتى وهو في محترفه يختال بأناقة غير متردد كذلك عن أن يسكب على اللوحة البيضاء ألوانه بدفق حياة يجعله يبدو وكأنه إنما يرسم للمرة الأولى في حياته".

قصة صداقة

من المعروف أن مانيه ومالارميه كانا قد تعارفا حقاً من قُرب، بعدما التقيا للمرة الأولى في عام 1873. ولقد جر ذلك اللقاء الشاعر الرمزي إلى أن يضحى من المقربين من مانيه على رغم أن هذا الأخير كان في الوقت نفسه من المقربين من أديب كبير آخر من أدباء المرحلة هو إميل زولا الذي كانت نزعته "الطبيعية" في الرواية تضعه على تناقض تام مع مالارميه.

ولعل بول فاليري سيكون في عام 1939، أي بعد عقود من رحيلهم جميعاً، خير من وصف تلك العلاقة الثلاثية التناقضية بقوله في تقديمه لمعرض أقيم لأعمال مانيه (1832 – 1883) إن "وجود ذينك المبدعين الواقفين على خطين متعارضين تماماً، بالنسبة إلى مانيه، كان يشكل بالتأكيد مصدر فخر له" وذلك لأنه ندر أن تمكن مبدع في تلك الأزمنة الصاخبة من جمع مثل ذلك الرهط المتضارب من النوازع من حول فنه.

ولئن كنا نتحدث هنا عن لوحة مالارميه التي أبدعها مانيه مصوراً فيها صديقه الشاعر، فإن ذلك يدفعنا من دون شك، وفي المناسبة، إلى استذكار تلك اللوحة الرائعة الأخرى التي رسمها مانيه نفسه لزولا لتبدو في نهاية الأمر وكأنها من إنجاز فنان مغاير تماماً، بل ولنقل باختصار إنه فيما تبدو لوحة زولا "طبيعية" في واقعيتها والأجواء والعناصر المحيطة بزولا فيها إلى درجة تذكر، مثلاً بلوحة القديس جيروم الغارق في الكتابة كما رسمه فان ديك في لوحة شهيرة، تبدو لوحة مالارميه غارقة في نوع من رمزية تعتمد الفراغ واللون وحدهما ونظرة الشاعر الساهمة ويده اليمنى حاملة الغليون مستقرة على دفتر ما، بينما الأخرى تستقر على معطفه في استراحة شاعرية طويلة.

لقد كان من الواضح أن الفروق التي جعلها مانيه بين اللوحتين تبدو خير تعبير عن تفهمه العميق لروح ومآلات كل منهما. وهذا ما سيدركه جورج باتاي لاحقاً ويسهب في تفصيله على أية حال.

الشاعر ناقداً

لقد كان مالارميه شاعراً يسمو على صغائر الأمور، وهو لئن كان قد توجه للكتابة حول الفن بين الحين والآخر فإنه غالباً ما فعل ذلك، في تلك المرات النادرة، إعجابا بمانيه حتى من قبل أن يرتبط بصداقة معه، لكن بصورة ممنهجة تحديداً منذ عام 1874 حين لاحظ أن منظمي معرض ذلك العام أساءوا التعامل مع الرسام فانتفض من دون أن يكون قد تعرف عليه حقاً، ليدافع عنه على الضد من المنظمين وكتب مقالة سجالية ندد فيها بمحكمي المعرض، ثم ما لبث أن ألحق ذلك بتلك الدراسة التي نشرت بعد عام في المجلة الفنية اللندنية، كما أشرنا. وهنا كان مالارميه قد أضحى من المقربين حقاً من الفنان الذي كان على أية حال قد بدأ قبل 3 سنوات من الانضمام إلى حلقات المعجبين بفنه ليصبح تدريجاً واحداً من كبار المدافعين عن ذلك الفن، ولا سيما عما تمخض عنه من لوحات سميت بـ"البحرية".

وهكذا كان لا بد للمبدعين أن يلتقيا حقاً في عام 1873، والمرجح أن اللقاء الأول بينهما كان في صالون سيدة المجتمع نينا دي كالياس. ويبدو أن عُرى الصداقة تمكنت بينهما منذ ذلك اللقاء لتنتقل لقاءاتهما إلى محترف مانيه، حيث سيتعرف مالارميه بسرعة على مبدعين وأصدقاء جُدد من طينة زولا نفسه وكلود مونيه وبيرت موريزو وغيرهم. وهنا لا بد من الإجابة عن سؤال يطرح نفسه: إذا كان الحديث بين الجميع يدور من حول الفن والشعر والرواية بصورة عامة، فعماذا كان يدور بين مانيه ومالارميه؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في عالم الأزياء

صدقوا أو لا تصدقوا أن الحديث الدائم بين الاثنين غالباً ما كان يدور من حول عالم الأزياء! فالاثنان كانا شديدي الاهتمام بهذا العالم الذي كان الحديث عنه قد بدأ يتوسع ويشمل شتى الطبقات الاجتماعية خلال الربع الأخير من القرن الـ19. والغريب في الأمر أن إميل زولا لم يكن يشاركهما هذا الحديث بالذات على رغم امتلاء رواياته، ولا سيما منها سلسلة "آل روغون – ماكار" بحديث الأزياء بوصفه جزءاً من الحياة الاجتماعية في زمن الإمبراطورية الثانية الذي "أرخت" له أجزاء السلسلة، وبخاصة منها "لسعادة النساء" الرواية التي تدور أحداثها في المخازن الكبرى التي كانت محط الاهتمام التجاري بفورة صناعة الأزياء.

المهم أن مالارميه (1842 -1898) ومانيه كانا مهتمين كذلك بالمعارض والاحتفالات الشعبية التي كثيراً ما كانا يشاهدان فيها معاً، ولكن من دون أن ننسى أنهما في المجال العملي، قد أنجزا معاً طبعات مرسومة خاصة لعدد من الكتب التي كانت حديث الحياة الثقافية في باريس تلك الحقبة من "الغراب" لإدغار آلن بو إلى "بعد ظهر حيوان" لمالارميه نفسه الكتاب الذي زينه مانيه برسوم عديدة تعمد في واحدة منها أن يضيف لمسة تحيل إلى فن الياباني هوكوزاي الذي كان ذا شعبية كبرى في أوروبا في ذلك الحين، وذلك إسوة باللمسة اليابانية التي كان مانيه نفسه قد أضفاها على اللوحة التي صور فيها صديقه الكاتب الآخر إميل زولا.

وعلى هذا يمكننا أن نقول إن مانيه قد عامل صديقيه الأديبين الكبيرين بالعدل والقسطاس، حتى وإن كان قد أغفل المصالحة بينهما، حتى وإن كان ذلك كله قد أحزن، بل أغضب الرسام سيزان الذي وجد نفسه وسط تلك المعمعة معزولاً ومستبعداً، في الأقل بالنسبة إلى علاقته مع إميل زولا رفيق طفولته الذي كان قد انتقل معه من الجنوب الفرنسي إلى باريس في مستهل شبابيهما، وكله أمل في أن يكون في العاصمة المبدع الأقرب إلى زولا، لكنه وجد نفسه وقد بات على هامش حياة زولا لمصلحة مانيه الذي عرف كيف يجمع المجد الأدبي من طرفيه (مالارميه وزولا) فيما خسر سيزان كل شيء، ولكن ليس مكانته الفنية بالطبع، لكن هذه قصة أخرى ليس هنا مكانها على أية حال.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة