Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فن المالوف... ذاكرة الجزائريين المنسية

مؤرخون يرجعون الفضل إلى الموريسكيين في حمله من الأندلس إلى شمال أفريقيا

إحدى حفلات "المالوف" في الجزائر (إعلام جزائري)

ملخص

تغنى اليهود في الجزائر بفن المالوف طوال قرون بما تغنى به المسلمون إلى غاية رحيلهم مع اقتراب موعد استقلال البلاد عن الاحتلال الفرنسي، ولم يحدث خلال مئات السنين أن أثارت ممارستهم الطرب الجزائري التعجب والاستغراب ولا حتى التساؤلات، بل يصنف بعضهم بأنهم شيوخ غناء "المالوف"، كما يتردد عن آخرين كانوا أكبر أساتذة النوبة الأندلسية.

لا يزال فن المالوف يحتل مكانة مرموقة في الجزائر على رغم رحيل أعمدته وسيطرة الفنون العصرية على كل مناحي الثقافة، وبينما تحاول بعض الوجوه الشابة التمسك بأساساته في سعي إلى ضمان استمراريته، تنبش أطراف في أصوله بين اليهودية والأندلسية، مما يجعل "المالوف" قضية مطروحة دائماً بين العولمة والحفاظ على التاريخ.

وفن المالوف هو واحد من الفنون الأصيلة التقليدية العريقة التي لا تزال تبحث عن جذورها في الجزائر، وتواجه خطر الاندثار أمام عاصفة العولمة، وإذ تمكن من المقاومة والصمود طوال ستة قرون من خلال إحياء الحفلات والسهرات والأفراح، تبقى أصوله بين شد وجذب، تارة أندلسية وأخرى يهودية، لكن المتفق حوله في الجزائر أن الموريسكيين حملوه معهم حين فروا من بطش محاكم التفتيش في الأندلس (إسبانيا) ثم هاجروا إلى الجزائر تحت الحكم العثماني.

وتغنى اليهود في الجزائر طوال قرون بما تغنى به المسلمون إلى غاية رحيلهم مع اقتراب موعد استقلال البلاد عن الاحتلال الفرنسي، ولم يحدث خلال مئات السنين أن أثارت ممارستهم الطرب الجزائري التعجب والاستغراب ولا حتى التساؤلات، بل يصنف بعضهم بأنهم شيوخ غناء "المالوف"، كما يتردد عن آخرين كانوا أكبر أساتذة النوبة الأندلسية.

بل إن الأكثر من ذلك ينسب لهؤلاء اليهود فضل حماية هذا التراث الموسيقي العريق من الزوال بممارسته وحفظه وتعليمه للأجيال الجديدة، خصوصاً منذ النصف الثاني من القرن الـ19 والعقود الأولى من القرن الـ20.

ويعود الكاتب الجزائري فوزي سعد الله، في كتابه "يهود الجزائر... مجالس الغناء والطرب"، إلى منصور اليهودي وداني الأندلسي في بلاطات الحكم الأموي في قرطبة وابن سهل الإسرائيلي الأندلسي وغيرهم كثر في حفاظهم على هذا اللون الفني.

ويقول سعد الله إن الجزائر كانت ولا تزال إحدى دوائر الإنتاج الأساسية لهذا الفن العريق وتعليمه وترويجه انطلاقاً من عدة مدن عريقة تطغى عليها الثقافة الأندلسية، في إشارة إلى الذين يشعرون بالحرج من نسب هذا الفن إلى الأندلس، مؤكداً أن ظهور "المالوف" في الجزائر يعود إلى القرن الـ12 مع المدرسة "البجائية" الشهيرة التي أسسها أبو الصلت أمية بن عبدالعزيز.

بين الأندلس والجزائر

يرى الكاتب فوزي سعد الله أن الجزائر أسهمت بعد سقوط الأندلس في ازدهار هذا الفن بألحان وأشعار جديدة أصبحت من أمهات أغاني هذا التراث وقطعه الثمينة، وبأساليب أداء وجماليات زادت في ثرائه وتركت بصمات عميقة في مناهجه التعليمية بعدما تحولت إلى مدرسة قائمة بذاتها، بل تحول عدد من الأغاني الأندلسية الجزائرية المولد إلى ما يشبه المعلقات الموسيقية في كامل بلدان المغرب العربي الوريثة التاريخية المباشرة للإرث الموسيقي الأندلسي.

ويقول إنه إذا بقيت هذه الموسيقى تنسب إلى الأندلس فهذا طبيعي ولا ينقص شيئاً من قيمة الإسهامات الجزائرية، لأن هذا الغناء مهما يكن يبقى أندلسي الروح والنكهة بحكم تبلوره ونضجه بصورة أساسية في الربوع الأندلسية.

 

وبحكم البصمات العميقة التي تركها فيه فنانون قرطبيون وإشبيليون وغرناطيون مثل زرياب وابن باجة وابن سهل الإسرائيلي، وزرقون وعلون وغزلان، أضافت شخصيات فنية جزائرية كابن مسايب وابن سهلة، والمفتي محمد ابن الشاهد، ومحمد ابن عمار وغيرهم، بعض الجماليات المحلية.

حقيقة الكلمة

"المالوف" هو أحد أنواع الفنون المنتشرة في الجزائر، واسمه مشتق من كلمة "مألوف" وتعني الوفي للتقاليد، كما يقصد بها في مجال الموسيقى ما تآلف الناس على سماعه من غناء وإنشاد، وبينما يفسرها البعض على أنها اشتقاق من "التأليف"، يقول آخرون إنه اسم مشتق من عصفور كان يسمى في الأندلس المؤلف، وهو عصفور مهجن يجري الحصول عليه بتلقيح طائر الحسون والكناري.

ويصنف ضمن الكلاسيكي بقسميه الدنيوي والديني المتصل بمدائح الطرق الصوفية، وهو لا يتقيد في الصياغة بالأوزان والقوافي، وتتكون مادته النظمية من الشعر والموشحات والأزجال وغيرها، مع ما أضيف لها من ألحان ونظم محلية.

ويسمى المقام الموسيقي في "المالوف" النوبة، لتناوب المقامات الواحد تلو الآخر، ويصل عددها إلى 24 نوبة لكن لم يصل منها سوى 12 فحسب، إذ تعد النوبة مزيجاً من الموسيقى العربية والأندلسية، ويبلغ عدد عازفيها 30 موسيقياً، يستخدمون آلة العود العربية فضلاً عن الكمان ومجموعة من الآلات الإيقاعية مثل الدربوكة وآلتي القانون والمزمار.

من الصعب الفصل

تذكر كتب التاريخ أن كل المؤشرات تدل على أن غناء "المالوف" أندلسي ترسخ في مدن شرق الجزائر، وأهمها مدينتا قسنطينة وعنابة، وذلك خلال الدولة الحفصية، عندما حل عدد كبير من اللاجئين الأندلس، لا سيما الفارين من منطقة إشبيلية جنوب إسبانيا، عقب سقوطها عام 1248، للعلاقة الوطيدة التي ربطت إشبيلية بالدولة الحفصية خلال أربعينيات القرن الـ13، حين بلغت حد مبايعة الإشبيليين الأمير الحفصي أبي زكريا، طمعاً في مساعدته على مقاومة حصار ملك قشتالة فرناندو الثالث.

وقال الباحث محمد الصقلي، في كتاب له تحت عنوان "اليهود في الغناء العربي والغربي"، إنه من الصعب الفصل بين الإبداع اليهودي والعربي في طابع "المالوف"، وفي حين لا يمكن إنكار أن وصوله إلى الجزائر كان من طريق الوجود العثماني انطلاقاً من إشبيلية بالأندلس، لعب اليهود دوراً في تطويره والحفاظ على نوباته التي اندثر بعضها ولم يتبق منها سوى 12 نوبة من مجموع 25 خاصة نوبة.

جذور أندلسية

يرى أستاذ الأدب والنقد الحديث والمعاصر، لحسن عزوز، في حديث إلى "اندبندنت عربية"، أن كل الأبحاث التاريخية والمراجع تؤكد أن جذور "المالوف" تعود إلى الموسيقى الأندلسية التي ازدهرت في قرطبة وإشبيلية وغرناطة، حيث تقاطعت الثقافات العربية والأمازيغية والإسبانية واليهودية في إيقاع واحد، ومع سقوط غرناطة عام 1492، اضطر آلاف الموريسكيين إلى النزوح نحو شمال أفريقيا حاملين معهم إرثهم الموسيقي والفكري والروحي.

 

وفي الجزائر وجد "المالوف" تربة خصبة في مدن قسنطينة وتلمسان وعنابة، التي احتضنت اللاجئين الأندلسيين الذين أسسوا زوايا وطرقاً صوفية جعلت من الموسيقى وسيلة للسمو الروحي ومقاومة النسيان، وتطورت النوبات لتصبح مدارس متكاملة بأسماء مختلفة، لكن ظل جوهرها واحداً وهو موسيقى متجذرة في المقامات الشرقية والزخارف الأندلسية، تنشد الجمال وتستبطن الحنين وتلخص هوية شعب بأكمله، وشدد على أن "موسيقى ’المالوف‘ لا علاقة لها باليهود، فهي أندلسية موريسكية انتشرت في شمال أفريقيا وبصورة خاصة في الجزائر".

هاجس "العولمة"

وفي ظل المعركة المتواصلة حول أصول وجذور فن "المالوف" تفعل "العولمة" فعلتها وتضغط بقوة على هذا الموروث بفعل التطور الحاصل في مجالات الموسيقى والغناء، الذي أسهم في اختفاء بعض الأنواع والطبوع التقليدية الأصيلة، إذ بعد أعوام من الرواج وجد هذا الفن نفسه في صراع مع الأغنية العصرية، وبات مهدداً بالاندثار أمام ضيق مساحات انتشاره وانحصار رواجه.

ومن بين الأسباب التي أدت إلى أفول وهجه إدخال تعديلات عليه، بخاصة ما تعلق بالكلمات، تحت تبرير أن القصائد التراثية القديمة لم تعد تناسب هذا العصر، إضافة إلى أنه بقي حبيس عائلات بعينها واقتصر توريثه على أفرادها، إلى جانب عدم اهتمام الجيل الحالي بمثل هذه الطبوع الفنية وميله إلى الموسيقى العصرية والكلمات "الرقمية" أو الخفيفة.

عصر "المالوف" انتهى؟

يقول حمدي بناني، واحد من أبرز شيوخ فن "المالوف" في الجزائر، إن هذا الفن العريق فقد مكانته وأبعد من عرشه وهي حقيقة لا يمكن إغفالها، والسبب يرجع إلى غياب جيل قادر على حمل المشعل، وكذلك عدم وجود فنانين يستطيعون إبداع كلمات وألحان "مالوفية" جديدة تعبر عن أحاسيس وحاجات أبناء هذا العصر، إلى جانب أنانية بعض الشيوخ الذين جعلوا من "المالوف" ملكية خاصة، مما حال دون انتشاره وفق قواعده الصحيحة المتوارثة عن شيوخ الأندلس والدولة العثمانية، وأصبح عرضة للتحريف لا سيما عندما تحول من تراث يجب المحافظة عليه إلى وسيلة تجارية الهدف منها تحقيق الربح السريع فقط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في المقابل، أوضح سليم فرقاني، وهو من شيوخ هذا الفن، أن العصر الذهبي لـ"المالوف" انتهى بعدما فقد من هم قادرون على تأديته وفق قواعده الصحيحة، ومن يكرسون بعضاً من وقتهم للاستماع إليه ويدركون قيمته كجزء من يومياتهم، لكن "الفرصة لا تزال متاحة لاسترجاعه إذا آمنا بما نقدمه من خلال استباق الأعمال المطروحة للجمهور بدراسة دقيقة تحدد طريقة اختراق قلب المستمع وأحاسيسه وترغيبه في الاستماع للعمل، مع فتح مجال التدريب أمام الشباب داخل مدارس متخصصة وجمعيات معتمدة"، مشيراً إلى أهمية إدراج هذا الفن ضمن المقررات الدراسية الرسمية، مع تكثيف ظهوره في المهرجانات والتظاهرات الفنية، وفتح المجال للمنافسة مع تقديم جوائز معتبرة لمن يقدم العمل وفق قواعده.

ليس مجرد لون موسيقي

لكن أستاذ الأدب والنقد الحديث والمعاصر، لحسن عزوز، ذكر أن "المالوف" ليس مجرد لون موسيقي، بل هو هوية وصوت حضارة ضاربة في أعماق التاريخ، وذاكرة مقاومة ثقافية في وجه الاستعمار والتذويب، وعلى رغم كل الألوان الموسيقية الجديدة والمعاصرة والمنتشرة بكثافة نتيجة التطور التكنولوجي بكل ما تحمله آلات الإيقاع من تعدد وقوة وتنوع بقي "المالوف" محافظاً على وجوده وعلوه.

وقال إن "المالوف" هو الصوت الذي حفظ للجزائريين ملامح هويتهم حين كان الاستعمار الفرنسي يسعى إلى طمسها ومحوها، وهو الفن الذي جمع بين الروح الدينية والأصالة المجتمعية والبعد الجمالي الراقي الحديث، ليصبح مرجعاً موسيقياً لا نظير له في المنطقة المغاربية.

وتابع عزوز أن حماية هذا الفن باتت ملحة في ظل التحول الفني والتاريخي، وانتشار المقاطع الصوتية الموسيقية السريعة بفعل مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى رغم أن جيلاً كاملاً أصبح غائباً عن المشهد التراثي تعمل الجزائر من خلال ما تقدمه وزارة الثقافة والفنون من إقامة مهرجانات مستمرة عبر كل الولايات وحفلات موسيقية أندلسية في المسارح والمناسبات على بقاء هذه الموسيقى راسخة لدى الجيل الجديد، كذلك أن الوزارة تعمل بصورة دائمة على خلق مدارس جهوية للموسيقى الأندلسية وهو ما يحميها من الضياع والزوال، مشيراً إلى أنه على رغم طول المقطوعات التي تصل إلى أكثر من ساعة يعمل مدرسون هناك على تلقينها للأجيال الجديدة والحفاظ على الآلات الأصيلة.

اقرأ المزيد

المزيد من فنون