Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بول غرينغراس يوثق الخوف والنجاة

المخرج الإنجليزي يدخل قلب مأساة بارادايس في كاليفورنيا، ليحوّل حريقاً تجربة سينمائية خانقة

ماثيو ماكونهي وأميركا فيريرا (آبل تي في)

ملخص

الفيلم الجديد "The Lost Bus" ليس فقط عن كارثة بيئية، بل عن أبطال غير متوقعين يظهرون في أكثر الناس عادية، في مركز الحكاية يقف كيفن مكاي (ماثيو ماكونهي)، سائق حافلة مدرسية يعيش حياة متداعية ومثقلة بالهموم الشخصية والعائلية.

في خريف 2018، كانت بلدة "بارادايس" شمال كاليفورنيا تعيش لحظاتها الأخيرة، النيران التي اشتعلت في محيطها بسبب تماس كهربائي على أحد الأبراج تحوّلت خلال ساعات إلى إعصار من اللهب، اجتاح الطرق والمنازل والمدارس، وحوّل البلدة إلى ركام.

تلك الكارثة، المعروفة باسم "كامب فاير"، لم تكن مجرد حريق عابر في ولاية اعتادت على الكوارث البيئية، بل مأساة مكثفة تختصر هشاشة الإنسان أمام الطبيعة، وسرعة تحوّل الحياة اليومية إلى جحيم.

من بين آلاف القصص التي انبثقت من تلك اللحظة، اختار المخرج الانجليزي بول غرينغراس (1955) أن يسلّط الضوء على واحدة صغيرة في ظاهرها، عميقة في جوهرها: حكاية سائق حافلة، ومعلمة، و22 طفلاً، وجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة حريق يلتهم كل شيء.

الفيلم الجديد "The Lost Bus" ليس فقط عن كارثة بيئية، بل عن أبطال غير متوقعين يظهرون في أكثر الناس عادية، في مركز الحكاية يقف كيفن مكاي (ماثيو ماكونهي)، سائق حافلة مدرسية يعيش حياة متداعية ومثقلة بالهموم الشخصية والعائلية.

حبكة

في صباح الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني)، كان يفترض أن ينهي نوبته ويعود إلى البيت ليعتني بابنه المراهق، لكن القدر كان رسم له طريقاً مختلفاً.

وعلى الجانب الآخر تقف ماري لودفيغ (أميركا فيريرا)، المعلمة المتحفظة المتمسكة بالإجراءات، امرأة لا شيء في شخصيتها يوحي بأنها ستتحول خلال ساعات قليلة إلى وجه من وجوه البطولة.

 

 

كان معظم الأطفال قد غادروا المدرسة مع أهاليهم، حين صدرت أوامر الإخلاء، لكن 22 طفلاً بقوا، ينتظرون وسيلة للنجاة، وحين طُلب من السائقين أن يتطوعوا لنقلهم، وافق كيفن على العودة بحافلته على رغم خطر الوضع، فقط لأنه لم يستطع أن يدير ظهره لهم.

وعندما وصل إلى المدرسة، وجد ماري تحاول أن تُجلِس الأطفال بترتيب متأنٍ، غير مدركة أن النيران تقترب بسرعة رهيبة، في هذه اللحظة يتصادم عالمان: رجل يدرك أن كل دقيقة تعني حياة أو موتاً، وامرأة تتمسك بالقواعد في وجه الفوضى، ومن هذا التوتر تبدأ الرحلة.

لا يصوّر غرينغراس هذه الأحداث كما تفعل أفلام الكوارث الهوليوودية التقليدية، حيث تصبح النيران مشهداً بصرياً مبهراً والبطولة مصقولة ومهيّأة سابقاً.

أسلوبه مختلف تماماً، الكاميرا المحمولة والإضاءة الخانقة واللقطات الضيقة والدخان الذي يبتلع كل شيء والأصوات المتقطعة… كلها عناصر تدفع المشاهد إلى داخل الحافلة، ليشعر أنه أحد ركابها.

لا ملاذ آمناً، لا لقطة بانورامية مريحة، أنت في قلب الجحيم، الحريق هنا ليس مجرد خلفية بل شخصية حاضرة تتقدم وتلتهم وتطارد، كل مشهد يضيّق الخناق، يختنق المكان شيئاً فشيئاً، ويجعل قرار السائق مصيرياً بكل معنى الكلمة.

التمثيل

الأداء التمثيلي في هذا الفيلم أحد أعمدته الأساس، ماثيو ماكونهي يقدّم أحد أكثر أدواره تواضعاً وإنسانية: وجه متعب وملامح متوترة، رجل يدرك أنه ليس بطلاً خارقاً لكنه مضطر إلى أن يكون واحداً الآن.

لا خطابات ولا بطولات مصقولة، بل هناك صراع داخلي بين الخوف والمسؤولية، أما أمريكا فيريرا، فتمرّ بتحول هادئ ومدروس من معلمة متمسكة بالقواعد إلى امرأة تواجه النار بجسدها من أجل أطفالها، هذا التحول يتم من دون مبالغات، ويمنح القصة عمقها الإنساني.

بين السياسة والاقتصاد

في موازاة هذه الحكاية الفردية، يرسم الفيلم سياقاً أوسع لا يتجاهل الحقيقة السياسية والاقتصادية وراء الكارثة، فالحريق لم يكن قدراً سماوياً محضاً، بل نتيجة مباشرة لإهمال شركة الطاقة PG&E، التي تسببت بنيتها التحتية المتآكلة في اندلاع الشرارة الأولى.

السيناريو الذي كتبه غرينغراس مع براد إنغليزبي عن كتاب الصحافية ليزي جونسون Paradise: One Town’s Struggle to Survive an American Wildfire، لا يصوّر هذه الشركة كشرير واضح، بل يضعها كظل دائم فوق الأحداث، يذكّرنا بأن الكارثة ليست طبيعية فقط، إنما من صنع البشر أيضاً. غرينغراس لا يعظ، بل يلمّح، يترك للمشاهد أن يربط بين النيران ودوائر القرار البعيدة.

يشكل الأطفال في الفيلم كتلة بشرية واحدة من الخوف، باستثناء الطفل توبي، الذي يتطور رابط عاطفي بسيط بينه وبين السائق، تبقى المجموعة موحدة وصامتة ومذعورة، كما لو أنها تمثل البراءة بأكملها في مواجهة الجحيم، هذه المقاربة تكثّف المعنى ولا تشتته، وتمنح الفيلم طابعاً أقرب إلى التوثيق منه إلى الترفيه.

تكمن القوة الحقيقية للفيلم في هذا التوازن الدقيق بين الدراما الشخصية والتوثيق الواقعي.

هناك قصة إنسانية عن سائق ومعلمة وأطفال، وثمة في الوقت ذاته، مشهد واقعي محكم التفاصيل عن كيفية تعامل فرق الإطفاء مع كارثة خارجة عن السيطرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يربط المخرج بين المستويين بخيط متين من التوتر المتصاعد: اللاسلكي يتعطل، والطرقات تختنق، والنيران تقترب، وقرار واحد خاطئ قد يعني نهاية الجميع، إنها ليست دراما متخيلة، بل تجربة تكاد تلتقط أنفاس المشاهد نفسه.

حين تصل الحافلة أخيراً إلى منطقة آمنة، ينجو الأطفال والمعلمة والسائق، لا موسيقى منتصرة ولا تصفيق، فقط وجوه مذهولة وأنفاس متقطعة وأثر عميق لن يُمحى بسهولة.

النجاة هنا ليست خلاصاً، بل عبور هش من العدم إلى الحياة، كأن غرينغراس يقول، لا أحد يخرج من النار كما دخلها.

 

 

يندرج  "The Lost Bus" ضمن مشروع سينمائي واضح في مسيرة بول غرينغراس، الذي أعاد تصوير كوارث حقيقية من داخلها: مجزرة إيرلندا في "Bloody Sunday" ، اختطاف الطائرة في"United 93"، ومجزرة النرويج في "22"July .

في كل مرة، يختار أن يضع الكاميرا داخل الحدث لا خارجه، في عين العاصفة لا على شاشات الأخبار.

بهذا المنهج، يصنع من قصص فردية مداخل لقراءة أعمق للتاريخ، يواصل هذا الفيلم النهج نفسه، لكنه يضيف إليه لمسة أكثر حميمية وإنسانية، لأن الحريق هنا ليس فعلاً سياسياً متعمداً، بل كارثة طبيعية تضخمت بسبب الإهمال.

على المستوى السياسي والاجتماعي، يذكّر الفيلم الأميركيين أن الكوارث البيئية لم تعد استثناءً بل هي جزء من الواقع الدائم، وأن خطوط التماس لم تعد على أطراف الجغرافيا، بل في قلب الحياة اليومية.

السائق الذي قاد الحافلة والمعلمة التي حمت الأطفال ليسا رمزين للبطولة فقط، بل هما صورتان لناس عاديين دفعوا ثمن خلل أكبر منهم بكثير.

"The Lost Bus" ليس مجرد فيلم جيد الصنع، بل تجربة سينمائية خانقة ومكثفة، لا تترك للمشاهد رفاهية الابتعاد العاطفي عما يشاهده.

إنه فيلم يذكّرك كيف يمكن للحظة واحدة أن تغيّر مصير حياة كاملة، وكيف يمكن لشخص عادي أن يتحول إلى بطل لمجرد أنه قرر أن يفعل الشيء الصحيح وهو يختنق من الخوف، وبهذا، ينضم العمل إلى واحدة من أجمل وأقوى ثلاثيات غرينغراس السينمائية، ويمنح الحريق وجهاً إنسانياً لا يُنسى.

اقرأ المزيد

المزيد من سينما