ملخص
على مدى عامين، واجه سكان غزة القصف والمجاعة والنزوح، بينما قاوم الأطباء والصحافيون والنساء ظروفاً لا تحتمل، وسط اتهامات دولية لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية وتدمير ممنهج للبنية الصحية، في ظل آمال متجددة بوقف إطلاق النار يعيد الحياة إلى القطاع المنكوب.
على مدى عامين، عانى سكان غزة بعضاً من أعنف صور القصف والكوارث الإنسانية في هذا الزمن.
أدى الهجوم الإسرائيلي والحصار المفروض على القطاع بعد الهجمات الدموية التي شنتها "حماس" خلال السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 إلى مصرع ما يزيد على 67 ألف شخص من بينهم 19 ألف طفل، وفقاً للمسؤولين المحليين.
وخلص مرصد الجوع العالمي الذي تدعمه الأمم المتحدة إلى أن حملة القصف والحصار أسفرت عن انتشار المجاعة في أرجاء القطاع كافة.
ومن جانب آخر، تقول الأمم المتحدة إن سكان القطاع بأكملهم تقريباً والبالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، اضطروا إلى الفرار من ديارهم - غالباً مرات متكررة - فيما تعرضت أكثر من 90 في المئة من منازل غزة إلى أضرار أو إلى دمار كامل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبلغ الوضع من السوء درجة دفعت لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة تخلص الشهر الماضي إلى أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية في غزة، وتستمر بارتكابها- وهو اتهام تنفيه الحكومة الإسرائيلية قطعاً.
في ذكرى مرور عامين على بداية هذه المجزرة غير المسبوقة، تتكلم العائلات في غزة عن "بصيص أمل" على خلفية اللقاء بين مفاوضي "حماس" وإسرائيل في مصر سعياً للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الأسرى، يقوم على خطة السلام التي وضعها الرئيس الأميركي دونالد ترمب في 20 نقطة.
ويقول باسل السقا الأب لطفلين ويبلغ من العمر 32 سنة، لـ"اندبندنت" من خيمته جنوب غزة "إن وقف إطلاق النار يعطي الأرض التي احترقت طوال هذه المدة فرصة كي تتنفس من جديد".
خلال وقت يأمل فيه العالم التوصل إلى انفراجة، تتكلم العائلات عن معاناتها خلال العامين الماضيين ورغبتها اليائسة في رؤية نهاية لهذا الكابوس.
أن تدير مستشفى في ظل الحصار والقصف والاختفاء
الدكتور محمد أبو سلمية مدير مستشفى الشفاء، أكبر مجمع طبي في غزة
يدير الدكتور أبو سلمية أحد أهم مستشفيات غزة التي تعرضت للقصف والحصار والاقتحامات المتكررة من قبل الجيش الإسرائيلي. وعلاوة على ذلك، يقول إنه تعرض شخصياً للتوقيف والاعتقال والاعتداء على مدار أشهر على يد إسرائيل. وخلال الوقت نفسه، توفي بعض أفراد طاقم المستشفى وزملائه أمثال الدكتور عدنان البرش رئيس قسم العظام المرموق في المستشفى، أثناء اعتقاله في سجن إسرائيلي عام 2024، فيما أفادت تقارير بأن وفاته كانت جراء التعذيب الذي تعرض له.
لكن على رغم ذلك، بعد إطلاق سراح الدكتور سلمية وإعادته إلى غزة العام الماضي، استمر الطبيب البارز في إدارة مستشفى الشفاء وأعاد بناءه بعد أن استحال رماداً في مدينة غزة التي غدت مركز الهجوم الجديد الذي شنه نتنياهو وقوبل باستهجان واسع النطاق.
ونفت إسرائيل مراراً استهدافها للمرافق الطبية في غزة، لكن الهجمات الإسرائيلية على المستشفيات والطواقم الطبية هناك كانت شديدة، لدرجة أن لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة خلصت في نهاية عام 2024 إلى أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب، وجريمة ضد الإنسانية تتمثل في الإبادة، ضمن ما وصفته اللجنة بأنه "سياسة ممنهجة لتدمير نظام الرعاية الصحية في غزة".
وتعرض مجمع الشفاء للاستهداف العنيف للمرة الأولى في بداية الحرب بعد اتهام إسرائيل لـ"حماس" باستخدامه كمركز رئيس للقيادة والتحكم مع أنها لم توفر أدلة موثوقة على ذلك.
وتعرض المجمع للاقتحام والحصار وأفرغ بحلول نهاية عام 2023. واعتقل الدكتور أبو سلمية إلى جانب عدد من الأطباء وظل قيد الاحتجاز سبعة أشهر- وحين أطلق سراحه، سرد وقائع عن ممارسات التعذيب والاعتداءات التي تحصل داخل السجن.
ويقول الدكتور "عندما عدنا، لم يبق شيء على ما هو عليه. لكننا رممنا قسم الطوارئ وقسم غسل الكلى وفتحنا 300 سرير ووحدة عناية فائقة فيها 13 سريراً وغرفة للعمليات".
منذ ذلك الوقت، يصف عملية "نقل أطفال خدج" من مكان إلى آخر في المجمع أثناء تعرضه للقصف وفيما كانت مسيرات الكوادكوبتر تطاردهم. وهو الآن قلق في شأن المستقبل لأن حدة العنف لم تتراجع على رغم المفاوضات الجارية في مصر للتوصل إلى هدنة.
ويتابع قائلاً "إن الوضع آخر أربعة أيام لا يطاق. لم نجد أي طعام أو شراب أو خبز. اقتصر قوتنا، سواء الطاقم الطبي أو المرضى، على بضع حبات تمر"، مضيفاً "بعد الاجتياح الإسرائيلي الأخير لمدينة غزة، شعرنا بالصدمة. والآن نخشى أن يعود الاحتلال لتدمير المستشفى مرة جديدة".
الإنجاب في ظل المجاعة وحملات القصف
بثينة العطار، 26 سنة، والدة لأربعة أطفال ونازحة من شمال غزة
عاشت بثينة تجربة مرعبة تفوق الوصف أثناء حملها خلال فترة انتشرت فيها المجاعة بحسب الأمم المتحدة، ووضع مولودها في مستشفى أثناء تعرضه للقصف. وكان الخطر عندها شديداً، لدرجة أن الأم التي كانت تتضور جوعاً اضطرت بعد يوم واحد من خضوعها إلى عملية ولادة قيصرية طارئة خلال مايو (أيار) الماضي وخياطة جرحها إلى الفرار سيراً على الأقدام من المستشفى، خلال وقت لم تحصل فيه سوى على مسكنات بسيطة لتخفيف الألم.
أفادت الأمم المتحدة بأن قصف إسرائيل المتكرر والحصار الشامل الذي فرضته على غزة تسببا بانتشار المجاعة، فيما عانت ربع النساء الحوامل سوء التغذية الحاد وخطر الإجهاض. وانتشرت صور لرضع وأطفال مصابين بالهزال، وعظامهم ناتئة من تحت جلدهم، وتسببت بالصدمة حول العالم.
تقول بثينة إنها كانت تعيش على طبق وحيد من الرز وبعض بقايا المعكرونة التي شاركتها مع أطفالها، لكن الجوع دمر صحتها وأعاق نمو طفلها. وحين ولد، لم يتعد وزنه كيلوغرامين، أي أقل من نصف متوسط وزن الأطفال حديثي الولادة في المملكة المتحدة.
وتعود بالذاكرة إلى عملية الولادة التي خضعت لها تحت القصف فتقول "كانت لحظة مليئة بالخوف والرعب والقلق"، فيما كانت تنجب طفلها عبر عملية قيصرية طارئة في مستشفى العودة شمال غزة، أصابت قذيفة مدفعية إسرائيلية قسم الطب النسائي والتوليد. وبعد لحظات، استهدف مبنى من أربعة طوابق مجاور للمستشفى.
وتقول "تطايرت شظايا الزجاج والركام على المستشفى. وخلال تلك اللحظة، أخبرنا الطبيب أنه علينا المغادرة لأن الوضع خطر للغاية. كانت الحاجة تفوق القدرة الاستيعابية لسيارات الإسعاف".
واضطرت السيدة التي بالكاد تعافت من عملية جراحية كبرى أن تغادر المستشفى سيراً على الأقدام "مشيت كطفل يخطو أولى خطواته، وانا أعاني ألماً شديداً".
سارت بثينة أياماً طويلة بحثاً عن خيمة أو مأوى من أي نوع. وبسبب إصابتها بالتهاب شديد جراء الجراحة وسوء التغذية، لم تتمكن من إرضاع طفلها ولا كان بإمكانها الحصول على أي حليب صناعي له.
بعد 20 يوماً من ولادة ابنها، توجهت والدتها - التي كانت تساعدها في العناية بالأطفال - عائدة إلى شمال غزة في محاولة لإيجاد طعام يأكلونه. لكنها لم تعد بعدها. ولا تزال العائلة لا تعلم ما حصل لها، وإن تعرضت للاعتقال أو القتل.
والآن، ترغب بثينة في التوصل إلى هدنة بشدة "نحتاج وقفاً لإطلاق النار بأسرع وقت ممكن. كي يتسنى لنا استئناف حياتنا الطبيعية وتنشئة أطفالنا بعيداً من الحرب والجوع والعطش".
نقل الأخبار والعيش في منطقة حرب
فاطمة أبو نادي، 35 سنة، صحافية تعمل مراسلة لمجلة المجتمع الكويتية
على مدار عامين، لم تنقل فاطمة أخبار الحرب في غزة فحسب، بل عاشتها- وعانت خسائر متعددة من بينها مقتل والدها.
وفقاً لبيانات منظمة العفو الدولية، قتلت الضربات الإسرائيلية أكثر من 240 صحافياً وعاملاً في الإعلام منذ أن أطلقت إسرائيل أعنف عملية قصف لها على الإطلاق على قطاع غزة خلال أكتوبر 2023، بعد هجمات "حماس" القاتلة جنوب إسرائيل.
وبحسب المنظمة الدولية لحقوق الإنسان، لم يشهد أي صراع آخر في التاريخ الحديث سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا في صفوف الصحافيين، مما يجعل غزة أخطر مكان على الأرض بالنسبة إلى الصحافيين.
بدأت فاطمة الحرب وهي تعمل لدى وكالة أنباء فرنسية، لكن الأخيرة أنهت علاقتها بها فجأة وقطعت التواصل معها بينما كانت تغطي أزمة سوء التغذية المتفاقمة داخل مستشفى ناصر وسط غزة خلال نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، وسط فوضى متزايدة ومجاعة بدأت تتكشف.
ومن دون راتب أو تعويض نهاية خدمة، واجهت صعوبة في إعالة 15 فرداً من أسرتها. حتى الضرورات الأساس، مثل حفاضات الأطفال لابن شقيقها، كانت تكلف 100 دولار (74.50 جنيه استرليني).
وفقدت عملها بعد شهر واحد فقط من مقتل والدها جراء قصف إسرائيلي شمال قطاع غزة. وخلال الوقت نفسه، كانت فاطمة نزحت مع عائلتها إلى رفح، بينما أصر والدها على البقاء لحماية ممتلكات العائلة.
وذكرت أن جثمانه تشوه جراء الضربة إلى درجة دفعت الطاقم الطبي إلى منع العائلة من رؤية صوره، حرصاً على أفرادها.
وتقول "كان قطعة من روحي وخسرتها. دعمني في دراسة الماجستير وفي تعليمي وفي بداية مهنتي الصحافية".
لكن على رغم الصعوبات، ما زالت تعمل في الصحافة: وهي تحترم طلبه الأخير منها خلال آخر اتصال بينهما قبل أيام من وفاته، بأن تواصل عملها وتساعد الآخرين.
لكن بعد نجاتها من النزوح مرة بعد أخرى، انهارت فجأة خلال إحدى الليالي. وتملكتها نوبة من البكاء المتواصل إلى أن وجدتها والدتها وحاولت تهدئتها.
وتقول "هذه اللحظات فوق قدرتي وطاقتي وصبري. توقفت عن البكاء لكن الألم في قلبي لم يخمد. لقد وصلنا الذكرى الثانية للحرب. وأعظم آمالنا هو أن تنتهي".
© The Independent