ملخص
تظهر الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية في الأردن تضخماً هائلاً في أعداد الخريجين في التخصصات الطبية والهندسية، يفوق بكثير حاجة السوق المحلية، مما يراكم آلاف العاطلين من العمل سنوياً.
خريج هندسة لكل 40 مواطناً في الأردن و43 ألف طبيب مسجل و35 ألف طالب على مقاعد الدراسة.
على مدخل مبنى نقابة المهندسين في العاصمة عمان، يقف أحمد (27 سنة)، وهو خريج هندسة مدنية بتقدير جيد جداً، لكنه يعمل حالياً في شركة توصيل، فبعدما صرفت عائلته كل مدخراتها لإلحاقه بجامعة خاصة وحصوله على لقب مهندس، يجد نفسه اليوم يرتدي خوذة الدراجة النارية التي يقودها بدلاً من خوذة الإشراف في الموقع.
قصة أحمد ليست استثناءً، بل هي القاعدة لجيل جديد يلاحق حلماً مدفوعاً برغبات الأهل والمكانة الاجتماعية، من دون الالتفات إلى حقيقة غياب الأمان الوظيفي لخريجي هذا التخصص، بعدما تحولت شهادة الثانوية العامة لصك دخول مؤجل إلى أزمة البطالة، بفعل منظومة تعليمية واجتماعية واقتصادية مترابطة، فبينما يركض الطلاب وراء أحلام موروثة تتجه السوق بعيداً نحو تخصصات جديدة.
أزمة خريجين مفرطة
تظهر الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية في الأردن تضخماً هائلاً في أعداد الخريجين في التخصصات الطبية والهندسية، يفوق بكثير حاجة السوق المحلية، مما يراكم آلاف العاطلين من العمل سنوياً.
ويبلغ معدل البطالة العامة في الأردن 24 في المئة، منها 18 في المئة للذكور و31 في المئة للإناث، أما نسبة خريجي الهندسة فتراوح ما بين 25 و35 في المئة وتزيد على حاجة السوق بنحو 10 أضعاف.
في حين أن معدل خريجي الطب يبلغ نحو 20 في المئة مع وجود عشرات الآلاف من الأطباء غير العاملين في القطاعين العام والخاص، أما نسبة الطلبة في التخصصات المشبعة فتصل إلى أكثر من 60 في المئة من طلبة الجامعات الحكومية والخاصة.
لكن الحكومة قررت قبل عامين تقليص عدد أماكن التخصصات الطبية الحكومية إلى نحو 70 في المئة، وهو قرار اعتبره رئيس اللجنة الإعلامية في نقابة الأطباء الأردنيين حازم القرالة "غير مدروس وستكون له آثار سلبية في الطلبة وذويهم وعلى الجامعات الحكومية،" مطالباً بأن يكون القرار تدريجاً، بخاصة أن ثمة قراراً مغايراً اتخذ عام 2019 ورفع عدد المقاعد بصورة كبيرة جداً.
ويبدو أن ثمة خطة تستهدف خفض أعداد طلاب الطب والهندسة من خلال رفع الحد الأدنى لمعدلات القبول في تلك التخصصات ووضع ضوابط للدراسة في الخارج في ظل التضخم الكبير في عدد الخريجين، وفق مدير وحدة تنسيق القبول الموحد بوزارة التعليم العالي الأردنية، مهند الخطيب، الذي يشير إلى أن عدد الطلبة الأردنيين في مرحلتي البكالوريوس والدراسات العليا في الخارج، يبلغ نحو 34500 طالب يدرسون في 56 جامعة، منهم 19 ألف طالب يدرسون بالتخصصات الطبية.
نظرة مجتمعية
ويعتقد مراقبون أن السبب الأهم للاستمرار في الإقبال على تخصصات الطب والهندسة ليست السوق، بل النظرة المجتمعية للشهادة، وما تفرضه هذه الشهادة من معيار احترام ومكانة اجتماعية واستثمار للمستقبل العائلي، بغض النظر عن واقع البطالة أو فرص العمل.
كذلك فإن فوبيا الفشل التي تلاحق بعض الطلبة وعائلاتهم تدفعهم إلى التوجه إلى هذه التخصصات، سعياً وراء وهم الاغتراب في السوق الخارجية، بعدما اعتمدت سياسة التعليم العالي في الأردن أعواماً على تصدير الخريجين والكفاءات إلى سوق العمل الخليجية التي تنفذ منذ أعوام سياسة التوطين ورفع نسبة العمالة الوطنية في القطاعات الحيوية كالصحة والهندسة.
وبالنتيجة أصبح نظام التعليم الأردني يفرز آلاف الخريجين سنوياً لسوق عمل افتراضية آخذة في التقلص، مما يزيد الضغط على سوق العمل المحلية الهشة أصلاً.
يقول رئيس اللجنة الإعلامية في نقابة الأطباء حازم القرالة إن العدد التراكمي للأطباء المسجلين في النقابة هو 43 ألف طبيب، وهنالك ما يزيد على 35 ألف طالب في كليات الطب داخل وخارج المملكة وهذا العدد يساوي تقريباً عدد الأطباء في نقابة الأطباء منذ تأسيسها.
يضيف القرالة "ما تستطيع السوق المحلية استيعابه هو من 1000 إلى 1100 طبيب موزعين على تعيينات وزارة الصحة وبقية القطاعات".
دور الجامعات
وينتقد مراقبون للمشهد التعليمي الجامعات التي باتت تسهم في مفاقمة الأزمة، من بين هؤلاء فاخر الدعاس الذي يقود حملة ضد المغالاة في رسوم التعليم الجامعي وسياسات التعليم العالي عموماً.
يشير دعاس إلى ما يمكن تسميته اقتصاد التخصصات الكبرى التي تدر دخلاً كبيراً بسبب رسومها المرتفعة كالطب والهندسة، مما يجعلها المصدر المالي الأهم للجامعة.
كما يشير إلى أن الجامعات الأردنية الرسمية لا توجد بها بنية تحتية أو مستشفيات تعليمية قادرة على استيعاب طلاب هذه التخصصات، مطالباً بمراجعة خطط القبول.
ويلفت دعاس على سبيل المثال إلى تغييرات كبيرة طرأت على الرسوم الجامعية في جامعة العلوم والتكنولوجيا في الأعوام الثمانية الماضية، ويضيف "اتخذ قرار رفع الرسوم الجامعية، وأصبحنا أمام خصخصة حقيقية للجامعات الرسمية الحكومية، عبر رفع يد الدولة عن الدعم الحقيقي لهذه الجامعات".
الجامعات التي بلغت مديونيتها نحو 193 مليون دينار (272 مليون دولار) نهاية عام 2023 تعاني اليوم في ظل تراجع الدعم الحكومي إلى نحو 70 مليون دينار (نحو 100 مليون دولار).
أزمة هوية أم بطالة؟
لكن كثيراً من المرشدين التعليميين يوجهون الطلاب الجدد إلى تخصصات مناسبة لسوق العمل أكثر من الطب والهندسة وذات طلب مرتفع، كعلم البيانات والذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني في ظل التحول الرقمي الواسع، فضلاً عن التخصصات الطبية المساندة كالأطراف الاصطناعية وإدارة الطاقة المتجددة والبيئة.
ويرى هؤلاء أن أزمة الطب والهندسة في الأردن هي معضلة هوية أكثر منها أزمة بطالة، وأمام جيل يورثه آباؤه معيار نجاح وظيفي لم يعد موجوداً، وتصر مؤسساته التعليمية على بيع "وهم الأمان الوظيفي" مقابل إيرادات مالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ففي ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، شكل الخليج متنفساً للأردنيين من خريجي الطب والهندسة، كانت الرواتب المغرية والطلب الواسع يغريان العائلات بأن تستثمر أعواماً طويلة في دراسة أبنائها، تحت قناعة أن "السوق الخليجية ستشرع أبوابها".
تقارير رسمية وإعلامية تشير إلى أن عدد الخريجين في كليات الطب وحدها يقدر بنحو أكثر من 1600 طبيب سنوياً من الجامعات الأردنية، وهناك أعداد إضافية من الطلبة الدارسين في الخارج، مما دفع النقابات والوزارات إلى التحذير من زيادة عدد الأطباء مقارنة بعدد السكان.
وعام 2023 شكت نقابة الأطباء من أرقام مرعبة من البطالة في الطب لا تستطيع أي حكومة التعامل معه إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، مشيرة في حينه إلى وجود 1500 طبيب لا يجدون فرص عمل داخل البلاد.
بينما تلفت نقابة المهندسين إلى أرقام متزايدة جداً في سجل المهندسين، مما يجعل الأردن من بين الدول ذات نسبة عالية جداً إذ يقدر أن ثمة مهندساً لكل 40 مواطناً.
إقبال متزايد
في السياق ذاته، يرصد معلمون إقبالاً مقلقاً على اختيار الحقل الصحي في نظام الثانوية العامة الجديد، بمعنى أن غالب الطلبة ينوون دراسة الطب والتخصصات الصحية في الجامعة.
ويدور الحديث هنا عن 47 ألف طالب اختاروا الحقل الصحي في 2025، في حين أن عدد المقاعد المتاحة في الجامعات الأردنية الحكومية والخاصة لا يزيد على 20 ألفاً.
هذه الأرقام تشكل ما نسبته 44 في المئة من الطلاب المسجلين في الحقول الدراسية المختلفة، ويعكس هذا الإقبال الكبير الطلب المرتفع على تخصصات الحقل الصحي، مثل الطب البشري والصيدلة وطب الأسنان، في الجامعات الأردنية.
في السياق ذاته لا يوجد عدد دقيق يرصد الأطباء الأردنيين العاملين في الخارج، لكن الأرقام المتاحة تشير إلى وجود آلاف منهم، بينها تقديرات غير رسمية تتحدث عن آلاف الأطباء الأردنيين في الولايات المتحدة، كما تشير تقارير المجلس الطبي البريطاني إلى ارتفاع كبير في أعداد الأطباء الأردنيين المهاجرين إليها.
ووفقاً لبيانات دائرة الإحصاءات العامة، بلغ عدد المهندسين الأردنيين الذين يعملون خارج المملكة 37.8 ألف مهندس في نهاية عام 2022، معظمهم في دول الخليج العربي، وثمة تقديرات بارتفاع نسبة البطالة في صفوفهم إلى 40 في المئة كما تؤكد نقابة المهندسين الأردنيين التي تصنف معظم فروع الهندسة على أنها راكدة، والفرص المتاحة أقل من أعداد الباحثين عن عمل.