ملخص
الوقود الأحفوري، رغم كونه المصدر الرئيس للطاقة عالمياً، يُعد المساهم الأكبر في تغير المناخ وتلوث البيئة، مما يفرض على الدول تسريع الانتقال إلى بدائل نظيفة ومتجددة لتحقيق أمن طاقي مستدام وتقليل الانبعاثات الكربونية.
الفكرة التالية تبدو منطقية جداً: التوسع السريع في الطاقة المتجددة سيؤدي تلقائياً لاندثار الوقود الأحفوري. التكنولوجيا والابتكار وآليات السوق ستنجز المهمة بصمت، من دون الحاجة للدخول في معارك سياسية معقدة مع إمبراطوريات النفط.
للأسف، هذا ليس ما يحدث في واقع نظام الطاقة، ولا يتوافق مع ديناميكيات العرض والطلب الأساسية. فعلى الرغم من سنوات طويلة من مؤتمرات المناخ والتعهدات الوطنية، ورغم الانخفاض المستمر في تكاليف طاقة الرياح والطاقة الشمسية والبطاريات، لم يتراجع الاستهلاك العالمي للوقود الأحفوري على الإطلاق. بل على العكس، واصل ارتفاعه، مما سرع من اندفاع العالم نحو أزمة مناخية متفاقمة.
منذ انعقاد أول قمة مناخية للأمم المتحدة عام 1995، نما إنتاج الطاقة المتجددة وغير الأحفورية على مستوى العالم بأكثر من الضعف وتحديداً بنسبة 161 في المئة. الأمر يبدو للوهلة الأولى خبراً ساراً، غير أن الصورة تتغير حين ندرك أن إنتاج الطاقة الأحفورية ارتفع خلال الفترة نفسها بنسبة 57 في المئة. والأسوأ أن اعتماد العالم على الوقود الأحفوري واصل مساره التصاعدي بمعدل ثابت يقارب 1.8 في المئة سنوياً، وهو نفس المعدل تقريباً منذ عام 1850.
يحاجج البعض بأن التباطؤ الأخير في نمو انبعاثات الوقود الأحفوري دليل على أن الطاقة المتجددة بدأت تحسم المعركة لصالحها. صحيح أن العقد الماضي شهد ارتفاع الانبعاثات بوتيرة أبطأ من المعدل التاريخي البالغ 1.8 في المئة سنوياً، وربما أسهمت الطاقة الشمسية والرياح في ذلك. لكن التاريخ يعلمنا أن هذه التراجعات غالباً ما تكون عابرة. فكل فترة تباطؤ في نمو الانبعاثات منذ عام 1850 تبعتها مرحلة من الارتفاع الحاد. ومع شغفنا اليوم بكل أشكال الطاقة، من الذكاء الاصطناعي إلى سياحة الفضاء، أصبح من السهل تخيل استمرار النمو في استخدام كل من الوقود الأحفوري والطاقة المتجددة، خصوصاً مع شعار "احفر، احفر، احفر" [شعار أميركي جمهوري تبناه الرئيس الحالي دونالد ترمب].
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتبدد معظم إمكانات الطاقة المتجددة للحلول مكان الوقود الأحفوري أمام الطلب العالمي المتزايد والمستمر. وتدرك جماعات الضغط التابعة لصناعة الوقود الأحفوري أن هذا مجرد وهم، ومع ذلك يروجون لثلاث خرافات لإبقاء الوضع على ما هو عليه. أولى هذه الخرافات هي "الاستبدال التام": الفكرة القائلة إن الطاقة الخضراء قادرة فعلياً على تعويض الفحم وغيره بالكامل، من دون أي تراجع في حجم الطاقة المنتَجة. إنه تفكير قائم على الأماني أكثر من الواقع، ويُستخدم ذريعة لتشجيع الحكومات على الاستمرار في ضخ إعانات هائلة - مليارات الجنيهات من المال العام تُوجه الآن لبناء محطات جديدة تعمل بالغاز مزودة بتقنية احتجاز الكربون – فيما تدعي هذه الجهات أن ازدهار الطاقة النظيفة سيجعل الوقود الأحفوري في عداد الماضي قريباً.
والخرافة الثانية هي أن تقييد استخدام الطاقة عالمياً سيقلل من جودة الحياة، خصوصاً للدول والأسر الأفقر. والعكس هو الصحيح. إن ما يخفض مستويات المعيشة هو الهدر الهائل المتأصل في استخدام الطاقة العشوائي اليوم: منازل سيئة العزل، سيارات دفع رباعي تستهلك كميات كبيرة من الوقود على الطرق الحضرية، طائرات خاصة وثقافة كاملة من الإفراط في الاستهلاك لا تعزز رفاهية الإنسان. وفي الوقت نفسه، ملايين الأسر لا تستطيع تحمل تكاليف المواد الأساسية. وخفض الهدر واستهلاك الطاقة المفرط من قِبل أغنى فئات المجتمع يخلق مساحة للدول والأسر الأفقر لاستخدام المزيد من الطاقة لتغطية احتياجاته الفعلية. ففي المملكة المتحدة، يمكن للدعم الحكومي لعزل المنازل والنقل النظيف والتقنيات الفعالة أن يقلص الطلب الإجمالي ويحسن جودة حياتنا.
إذا كان للطاقة المتجددة أن تحل محل الوقود الأحفوري، فلا بد من مواجهة الجزء الأصعب: علينا تقييد استخراج الأخير واستخدامه. وهذا يتطلب "منع" أي عمليات تنقيب جديدة، ووقف الإعانات، وفرض قيود صارمة على الإمدادات. صحيح أن إجمالي إنتاج الطاقة قد ينكمش مؤقتاً ريثما تتوسع الطاقة النظيفة، لكن هذه هي الوسيلة الوحيدة لتحويل الاستبدال إلى واقع ملموس بدلاً من أن يبقى مجرد شعار فارغ.
أنا مستعد للنظر في كل المقترحات المتعلقة بكيفية تقييد صناعة الوقود الأحفوري، لكن تسعير الكربون، أي فرض رسوم على الانبعاثات ومنح حوافز للحد منها، يظل في نظري الآلية الأبسط لتحقيق الهدف. ومعظم الاقتصاديين يتفقون على ذلك. ولهذا السبب بالذات تعمل جماعات الضغط التابعة لصناعة الوقود الأحفوري على عرقلته في كل مؤتمر مناخي. وهنا تظهر خرافتهم الثالثة: أن تسعير الكربون سيرفع تكاليف المعيشة. هذه الحجة تقوم على افتقار مذهل للخيال بشأن كيفية تحديد التسعيرة واستخدام الإيرادات المتحصلة، التي يمكن توجيهها لتمويل منافع واسعة للمجتمع، بما يضمن أن الخاسرين مالياً هم فقط الأكثر استهلاكاً للطاقة. وفي عالم تُقيد فيه الانبعاثات، فإن أي شركة تطور تحسينات في كفاءة الطاقة بأي قطاع ستكون أمام طفرة هائلة من حيث الطلب، وهؤلاء هم أرباب العمل الحقيقيون في المستقبل.
وتكمن العقبة الأصعب في أن السياسيين، رغم امتلاكهم الأدوات الكفيلة بكبح استخدام الوقود الأحفوري، من ضرائب وتنظيمات وإصلاحات في الإعانات، إلا أن تفعيل هذه الأدوات يتطلب منهم مواجهة التحدي الكبير المتمثل في التصدي لنفوذ شركات النفط العملاقة، التي تمتلك موارد مالية ضخمة وتستخدم جماعات ضغط وحملات تضليل تفوق حتى المطالب الشعبية باتخاذ إجراءات حاسمة.
إن معالجة هذا الخلل لم تعد خياراً، بل هي السبيل الأوحد لتجنب الكارثة. غير أن القادة لن يتحركوا بحزم ما لم يصبح حجم التهديد واضحاً إلى درجة يستحيل تجاهلها. لذلك فإن تغيير الوعي العام والسياسي بات مسألة ملحة.
في 27 نوفمبر (تشرين الثاني) القادم، سأترأس أول إحاطة طوارئ وطنية في المملكة المتحدة في قاعة وستمنستر المركزية، حيث سيواجه أعضاء البرلمان وصناع القرار الأدلة الصريحة التي يقدمها باحثون خبراء في مجالات الطاقة والغذاء والصحة والأمن والاقتصاد. يمكننا أن نرتقي لمستوى هذا التحدي، ولكن فقط إذا واجهناه أولاً بصدق معاً كسياسيين وجمهور على حد سواء.
لهذا السبب سيتم تصوير الحدث وعرضه على مستوى الوطن، حتى يرى الشعب ما يراه ممثلوه.
الطاقة المتجددة وحدها لن تكفي لتحقيق الهدف، لكن ديمقراطية واعية ومستنفرة قد تكون قادرة على ذلك.
مايك بيرنرز-لي هو مؤلف كتاب "مناخ الحقيقة" A Climate of Truth، وأستاذ في جامعة لانكستر، ومؤسس شركة "سمول وورلد" للاستشارات Small World Consulting
© The Independent